كاليفورنيا تحترق مجدداً. هذه المرة، وفي منتصف يناير (كانون الثاني)، تلتهم النيران المنازل في واحدة من أغنى المناطق في العالم.
تتهدد النيران المستعرة معالم هوليوود، إذ تلتهم قصوراً تبلغ قيمتها ملايين الدولارات، وتجبر أكثر من 130 ألف مقيم على الهرب من بيوتهم. المشهد العمراني الشهير للمدينة حيث تلتقي السماء والمباني تحول بفعل الدخان الكثيف إلى ضباب أشبه بالكابوس. وحتى الآن، لقي 10 أشخاص في أقل تقدير حتفهم، واحترق 2000 مبنى أقله، وبقي أكثر من 330 ألف شخص من دون كهرباء.
لسان حال كل من تتحدث إليهم واحد: حرائق الغابات جزء من هوية كاليفورنيا، ولكنها الكارثة الأسوأ التي ألمت بهم.
ولكن في الحقيقة، الحرائق التي تجتاح لوس أنجليس ليست ببساطة “كارثة طبيعية” أخرى. إنه المستقبل الذي ما فتئ علماء المناخ يحذرون منه طوال عقود من الزمن، وقد بلغ أبواب بعض الشخصيات الشهيرة الأكثر تأثيراً في العالم. فلماذا تأخرنا كل هذا الوقت ولم نتخذ الإجراءات اللازمة بشأن الكوارث المناخية [أو تغير المناخ عموماً]؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التغير المناخي الذي طرأ على جنوب كاليفورنيا، إذ انتقلت المنطقة من تسجيل أمطار قياسية طوال أشهر إلى مواجهة فترات من الجفاف الشديد، في ظاهرة تُسمى “التحولات المناخية المفاجئة”، أوجد الظروف المثالية التي قادت إلى اشتعال حرائق الغابات الكارثية التي تجتاح لوس أنجليس الآن. ثم تدخلت الرياح العاتية [الجافة والساخنة] الآتية من مدينة سانتا آنا، ففعلت فعلها في تأجيج الحرائق التي أخذت تنتشر بسرعة ونطاق غير مسبوقين.
في الواقع، ليس التقلب بين الأمطار الغزيرة والجفاف حدثاً مناخياً منفصلاً أو عابراً [بل يشكل جزءاً من سلسلة تغيرات مناخية أكبر تحدث في مختلف المناطق]. ولطالما حذر علماء المناخ من أن الحرارة المحتبسة في الغلاف الجوي [نتيجة تغير المناخ] تعزز هذه الكوارث في جميع أنحاء العالم. أزمة المناخ لا تجعل الكوارث أكثر تكراراً فحسب؛ بل أيضاً أكثر تقلباً فيكون من الصعب التنبؤ بها، وأكثر شدة، ما يفاقم التحديات في التعامل معها والاستعداد لها على مستوى العالم.
وفي لوس أنجليس، واجهت فرق الإطفاء طلباً على المياه يزيد أربعة أضعاف مقارنة مع المعدل الطبيعي، وذلك في غضون ساعات من بدء الحريق. وفي النتيجة، فرغت خزانات المياه التي تحتوي على ملايين الغالونات والمخصصة لمكافحة الحرائق. ببساطة، البنية التحتية الحالية [شبكات المياه وأنظمة الإطفاء] ليست مصممة لتلبية الحاجات المتزايدة والمتغيرة التي يفرضها الواقع الجديد.
والحق يقال، ليست هذه النيران “كوارث طبيعية”، بل إنها كوارث من صنع الإنسان؛ تغذيها السياسات التي سمحت بالاستخدام غير المقيد [المنفلت العقال] للوقود الأحفوري، والمعلومات المضللة التي تحجب عن الناس حقيقة التغير المناخي وأسبابه وعواقبه [ما يحول دون اتخاذ قرارات مستنيرة]. وللأسف، من المتوقع أن يتفاقم هذا الوضع ويزداد سوءاً وتعقيداً في المستقبل.
وحتى مع احتدام حرائق الغابات، ما زالت مستمرة الآليات التي تدعم وتروج لإنكار تغير المناخ وتشوش الوعي العام حوله [سواء اللوبيات أو المنظمات أو المنصات الرقمية أو الشخصيات النافذة والمؤثرة أو الأفراد وصانعي قرارات]. في مرور سريع على التغريدات المنشورة على “إكس” (تويتر) المملوكة لإيلون ماسك، نلاحظ محاولة لتشتيت الانتباه بالتطرق إلى موضوعات أخرى مثل “مراعاة التنوع في التوظيف”، في حين تلقى أصوات علماء المناخ التجاهل التام. وفي بعض وسائل الإعلام اليمينية، أصبحت أول رئيسة لإدارة الإطفاء في لوس أنجليس تعلن ميولها الجنسية المثلية هدفاً لهجمات قبيحة.
وفي حين استمر كثير من الممثلين من أمثال مارك هاميل وستيف غوتنبرغ في إبلاغ الجمهور بشأن عمليات الإجلاء، بل وقدموا يد المساعدة، أنكر الممثل ذو التوجه اليميني جيمس وودز، الذي كان منزله في باسيفيك باليساديس مهدداً بالنيران، تماماً دور تغير المناخ في الكارثة، وبدلاً من ذلك أخذ يكيل الاتهامات والانتقادات إلى سياسات التنوع التي تضمن تمثيلاً متساوياً للأشخاص من خلفيات متنوعة في أماكن العمل.
وفي الوقت نفسه، أنحى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب باللائمة على قوانين إدارة المياه في كاليفورنيا بوصفها المسؤولة عن تفريغ خزانات المياه المخصصة لإطفاء الحرائق. ولكن في المقابل، أشار مسؤولون محليون إلى أن النقص مرده إلى البنية التحتية القديمة والطلب غير المسبوق على المياه.
وفي تصريح أدلت به إلى الصحافيين، قالت جانيس كوينونيس، كبيرة المهندسين والرئيسة التنفيذية لإدارة المياه والطاقة في لوس أنجليس، قالت إنهم واجهوا زيادة في الطلب على المياه بمقدار “أربعة أضعاف عن الطلب الطبيعي” على مدى 15 ساعة متواصلة، ما تسبب بانخفاض ضغط المياه.
ولا تنبع هذه المعلومات المضللة والمغلوطة من الجهل فحسب، بل إنها جزء من سيناريو مألوف لإنكار تغير المناخ يعود إلى الواجهة بعد كل كارثة تضرب الولايات المتحدة. واليوم، لا يقتصر الإنكار على الرفض القاطع للحقائق والأدلة والبحوث العلمية المتعلقة بتغير المناخ وأسبابه وعواقبه والادعاء بعدم صحتها؛ بل يمتد إلى تشويش الحقائق، وتحويل الانتباه إلى قضايا ثقافية، وخلق حال من الإرباك.
وإذا كنت تعتقد أن هذه مشكلة تخص كاليفورنيا فقط؛ فأنت مخطئ. العوامل القوية نفسها التي تؤجج حرائق الغابات، من ارتفاع درجات الحرارة، مروراً بأحوال الطقس المتطرفة، وصولاً إلى البنية التحتية المتهالكة، تترك تأثيرات واسعة وتولد تحديات كبيرة تغير حياة البيئات والمجتمعات في كل مكان.
في 2024، كلفت الأحوال الجوية المتطرفة، بدءاً بالأعاصير المتتالية وصولاً إلى موجات الحر القاتلة، سكان الولايات المتحدة أضراراً تجاوزت كلفتها 500 مليار دولار. وللأسف، تتعرض المحاصيل الزراعية في السهول الكبرى للتدهور. وتتداعى المدن في الغرب الأوسط تحت نير موجات الحر القاسية. بل إن مدناً بأكملها لم تعد موجودة على الخريطة بسبب الفيضانات والحرائق والعواصف.
أما الخسائر البشرية التي خلفتها هذه الكوارث فلا تعد ولا تحصى: تهجير عائلات كثيرة، وتدمير سبل العيش، وتمزق مجتمعات عدة. ولكن الرفض والانتقاد يواجهان أي محاولة لفهم ومناقشة هذه الكوارث كأعراض مترابطة لكوكب قد بلغ نقطة تجاوز فيها أقصى موارده الطبيعية وقدراته، وما عاد يتحمل المزيد من التلوث والاستنزاف وتدمير البيئة.
وللأسف الشديد، من المتوقع أن يتعاظم ضجيج المعلومات المضللة سوءاً ووقعاً مع عودة ترمب إلى المكتب البيضاوي. تذكيراً، خلال فترة ولايته السابقة، أعطى قراراً بانسحاب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ، وقوض تدابير حماية البيئة، وضاعف إنتاج النفط والغاز. والآن، تستعد إدارته لإطلاق المزيد من عمليات التنقيب عن الوقود الأحفوري، ما سيسرع لا ريب عجلة أزمة المناخ.
وها نحن قد بلغنا الدرك الذي طالما حذرنا منه العلماء: كلما تأخرنا في اتخاذ الإجراءات اللازمة، أصبحت العواقب أسوأ. الإنكار ليس مجرد نتيجة للجهل بهذه المشكلة؛ بل إنه سياسات وخطط تعمل بجد وفاعلية على عرقلة الفهم الصحيح والمستنير لمشكلة عالمية [هي أزمة المناخ والتقدم نحو إيجاد الحلول].
وجدير بالذكر أن الهيئات المعنية أعلنت 2024 العام الأكثر حرارة من دون منازع، متفوقاً بذلك على عام 2023. وهذه الحرائق تعتبر الأحدث في سلسلة كوارث عدة سجلت أرقاماً قياسية شهدها العالم في العامين الماضيين.
يبقى أن النيران المشتعلة في لوس أنجليس مشكلة واقعة تؤثر في الجميع بغض النظر عن مواقفهم السياسية المختلفة، ولن يحول دونها إلقاؤنا اللوم على هذه الجهة أو تلك. ونحن أيضاً، حري بنا ألا نصب تركيزنا على اللوم وعلى التراشق السياسي. الخيار واضح: إما أن نواجه الأزمة المتعددة الأبعاد ونسعى من أجل مستقبل صالح للعيش على كافة المستويات، أو أن نترك العالم يحترق.
نقلاً عن : اندبندنت عربية