بينما تمر اليوم ثلاثة أعوام على الغزو الروسي لأوكرانيا، فإن بعضهم في الدول الغربية يعتبرون أن الحرب دخلت في عامها الـ11 مع ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، وبعيداً من اختلاف حساب الأعوام فإن الحقيقة التي يتفق عليها الجميع هي أن تلك الحرب هي الأكثر دموية منذ الحرب العالمية الثانية التي تحالفت فيها روسيا مع الدول الغربية لإسقاط النازية في ألمانيا.
فبعد جولات استمرت أشهراً من التحذيرات الروسية والغربية المتبادلة، مع مواصلة الإلحاح الروسي بتقديم ضمانات بعدم توسيع حلف الناتو شرقاً بضم أوكرانيا عضواً في الحلف العسكري الغربي، مضى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تهديده بغزو أوكرانيا في الـ24 من فبراير (شباط) 2022، استهدف الغزو الروسي الاستيلاء سريعاً على كييف واحتلال النصف الشرقي إلى ثلثي أوكرانيا، وهو ما لم يستطع الجيش الروسي حسمه سريعاً، وبين مزيد من المعدات والتحصينات الدفاعية الروسية المكثفة والدعم الغربي الهائل للقوات الأوكرانية تحولت الحرب تدريجاً إلى حرب استنزاف تُنفق فيها المليارات من الدولارات ويسقط فيها المئات من الجنود.
كلفة بشرية غير محسوبة
تكبد كل من الروس والأوكرانيين كلفة باهظة على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، وإن كان كل جانب لا يفصح عن الأعداد الحقيقية لقتلاه، ففي سبتمبر (أيلول) 2024 قدرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية أن الحرب أسفرت بالفعل عن أكثر من مليون ضحية، مع سقوط أكثر من 250 ألف قتيل ونحو 800 ألف جريح، لكن بحسب بيانات صدرت حديثاً من معهد دراسات الحرب في واشنطن، يقدر المسؤولون الأميركيون عدد الخسائر العسكرية الأوكرانية بين 60 و70 ألف قتيل، لافتاً إلى أنه لا يوجد مصدر موثوق يضع تقديرات الخسائر بالقرب من الملايين، فيما كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أفاد في وقت سابق من فبراير الجاري أن روسيا قتلت 46 ألف جندي أوكراني منذ بدء الغزو الكامل، وأن بلاده عانت إصابة أكثر من 390 ألف جندي في القتال.
على الجانب الآخر، تشير التقديرات الأميركية وهى أيضاً غير موثوقة، أن خسائر الجيش الروسي بلغت 172 ألف قتيل و611 ألف جريح، وكثير منهم أصيبوا بجروح بالغة، وتكبد الروس خسائر فادحة في المعدات، بما في ذلك نحو 14 ألف دبابة قتال رئيسة ومركبة مدرعة، وفق معهد بروكينغز للأبحاث في واشنطن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتفيد تقارير الأمم المتحدة أن روسيا قتلت أكثر من 12 ألف مدني أوكراني حتى نهاية عام 2024، ووفق مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن عدد الأوكرانيين الذين نزحوا من منازلهم نتيجة القصف الروسي بلغ 10.6 مليون شخص، ويشمل هذا العدد 3.7 مليون شخص نزحوا داخل البلاد و6.9 مليون شخص في الخارج، معظمهم ذهب إلى روسيا وألمانيا وبولندا، وقالت المفوضية إن أكثر من مليوني مبنى أو نحو 10 في المئة من المباني السكنية في أوكرانيا، دُمر.
وبحسب معهد كوينسي في واشنطن، فإن الحرب تسببت في كارثة ديموغرافية واقتصادية لأوكرانيا، وهي دولة أصغر وأكثر ضعفاً من روسيا، وبسبب الغزو وهروب اللاجئين انخفض عدد السكان المقيمين في أوكرانيا إلى نحو 28-30 مليوناً، مما يشكل خسارة سكانية تبلغ ربع عدد السكان مقارنة بما قبل الحرب، حين كان يبلغ عدد السكان نحو 42 مليوناً، وفي عام 2024 كان لدى أوكرانيا أعلى معدل وفيات وأدنى معدل ولادة في العالم، وتشير التقديرات إلى أن حجم سكانها سيستمر في الانخفاض في المستقبل في غياب العودة إلى السلام.
خسائر اقتصادية
ويقول مدير الدراسات لدى معهد كوينسي، ماركوس ستانلي، إن الاقتصاد الأوكراني في ما يتعلق بنصيب الفرد كان واحداً من أقل الاقتصادات في أوروبا قبل الحرب، على رغم نمو الناتج المحلي الإجمالي قبل الغزو لنحو 200 مليار دولار، وبحلول نهاية عام 2025 تشير التقديرات إلى أن الكلفة الاقتصادية للحرب على أوكرانيا ستكون خسارة تراكمية قدرها 120 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي وتريليون دولار في الأضرار التي لحقت بالبنية الأساس ورأس المال.
وبينما انخفض الناتج المحلي الإجمالي الروسي إلى 1.3 في المئة في بداية الحرب، فإنه تعافى منذ ذلك الحين ليسجل 3.6 في المئة في كل من العامين الماضيين، وفقاً لصندوق النقد الدولي، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا بنسبة 36 في المئة بحلول صيف عام 2022 قبل أن ينهي العام منخفضاً بنسبة 28.3 في المئة، وعلى رغم أنه تعافى مجدداً فإنه لا يزال يمثل 78في المئة من اقتصاد ما قبل الحرب، وفق تصريحات سابقة لنائب رئيس الوزراء الأوكراني في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024.
تضرر الاقتصاد العالمي
لا يبالغ بعض المراقبين كثيراً عندما يقولون إن حرب أوكرانيا أعادت تشكيل الاقتصاد العالمي، وأسهمت في تسريع التحول في مجال الطاقة وزيادة الميزانيات العسكرية وتعميق الانقسامات الجيوسياسية، ففي حين استفادت بعض القطاعات مثل الطاقة والدفاع، فإن التأثير الإجمال كان سلبياً في النمو العالمي والتضخم والأمن الغذائي بالنظر إلى الدور الذي كانت تشكله المنتجات الزراعية الأوكرانية التي كانت يشار إليها باسم “سلة غذاء” العالم، إذ تمثل أوكرانيا منتجاً ومصدراً رئيساً لكثير من الإمدادات الغذائية الرئيسة، ولا سيما القمح والذرة والبذور الزيتية، ومن ثم واجهت سلاسل إمدادات الغذاء العالمية اضطراباً كبيراً نتيجة للحرب.
وفي بداية الحرب أعاق الحصار الروسي للموانئ الأوكرانية على البحر الأسود الصادرات، كذلك هاجمت روسيا الصوامع والمستودعات حيث تُخزن المنتجات الزراعية، وبين يوليو (تموز) 2022 إلى يوليو 2023 خفف اتفاق متعدد الأطراف بين الأمم المتحدة وروسيا وتركيا باسم “مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب” من هذا الوضع، ومع ذلك في يوليو 2023 أعلنت روسيا أنها لم تعد تدعم المبادرة، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الحبوب مجدداً، وتصدر أوكرانيا حالياً الحبوب وغيرها من المنتجات الزراعية عبر المياه الإقليمية الرومانية والبلغارية، فضلاً عن مسارات الممرات المائية الداخلية والطرق والسكك الحديد.
ويقول ستانلي إنه كان هناك تأثير واضح في أسعار الغذاء العالمية، وبخاصة بالنسبة إلى الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل، بسبب انقطاع الإمدادات من السلع الزراعية الأوكرانية والروسية، وكان هناك أيضاً تأثير كبير في أسعار الطاقة، وبخاصة بالنسبة إلى الدول الأوروبية التي كانت تعتمد على الغاز الروسي بنسبة 24 في المئة قبل الحرب.
279 مليار دولار مساعدات غربية
وكبدت الكلفة المالية الكبيرة لدعم الجيش والاقتصاد الأوكراني دافعي الضرائب لدى الحلفاء الغربيين، المليارات، ووفقاً لأرقام معهد كيل للاقتصاد العالمي، في برلين، بلغ إجمال المساعدات التي تلقتها أوكرانيا من الحكومات المانحة على مدى الحرب 279 مليار دولار، في شكل مساعدات عسكرية ومالية وإنسانية، وفي ما يتعلق بالمساعدات العسكرية قدمت الولايات المتحدة وأوروبا مستويات مماثلة من الدعم، لكن أوروبا “تفوقت منذ فترة طويلة” على واشنطن عندما تعلق الأمر بالتبرعات المالية والإنسانية، بنحو 73 مليار دولار إلى 52 مليار دولار، وفقاً للمعهد.
ووفق وزارة الخارجية الأميركية بلغ الإنفاق الأميركي على المساعدات العسكرية لأوكرانيا 65.9 مليار دولار منذ عام 2022، ويصل المجموع إلى 69.2 مليار دولار من المساعدات العسكرية منذ غزو روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، فيما أشار تقرير للكونغرس في يناير (كانون الثاني) الماضي إلى أن واشنطن خصصت ما يقرب من 174.2 مليار دولار من عام 2022 إلى عام 2024 “رداً على حرب روسيا ضد أوكرانيا”، وهو رقم يشمل المساعدة من خلال الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والبنك الدولي ووكالات أخرى.
ويقول معهد دراسات الحرب في واشنطن إنه بحلول أواخر عام 2024 خصصت الحكومة الأميركية 175 مليار دولار لحرب أوكرانيا، لكن أوروبا بما في ذلك أعضاء الاتحاد الأوروبي ومؤسساته إضافة إلى النرويج والمملكة المتحدة، تجاوزت الولايات المتحدة من جهة مخصصات المساعدات المباشرة العسكرية وغير العسكرية لأوكرانيا، باستثناء كلف القوات الأميركية المنتشرة في أوروبا الشرقية.
ويبلغ إجمال المساعدات الأوروبية لأوكرانيا ما مجموعه 166 مليار دولار، فيما تعهد الدول الأوروبية بتقديم 34.7 مليار دولار إضافية ستُخصص حتى عام 2030، بإجمال 204 مليارات دولار، فيما لا تشمل هذه الأرقام التزامات الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول السبع تقديم قروض لأوكرانيا بتمويل من الدخل الناتج من الأصول الروسية المجمدة.
إعادة الإعمار تتجاوز نصف التريليون دولار
وفق أحدث تقييم متاح من قبل البنك الدولي والمفوضية الأوروبية والأمم المتحدة والحكومة الأوكرانية فإن الأضرار المباشرة للحرب في أوكرانيا بلغت 152 مليار دولار حتى ديسمبر (كانون الأول) 2023، وكان الإسكان والنقل والتجارة والصناعة والطاقة والزراعة القطاعات الأكثر تضرراً، وقدر البنك الدولي والحكومة الأوكرانية الكلفة الإجمالية لإعادة الإعمار والتعافي بنحو 486 مليار دولار حتى نهاية ديسمبر من العام الماضي، وهذا الرقم أعلى بنحو 2.8 مرة من الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا في عام 2023، وفقاً لبيانات وزارة الاقتصاد.
تنفق أوكرانيا معظم عائدات الدولة في تمويل الدفاع، وتعتمد على المساعدات المالية من الشركاء الغربيين لدفع معاشات التقاعد وأجور القطاع العام وغيرها من الإنفاق الاجتماعي، وبحسب رئيسة لجنة الميزانية في البرلمان الأوكراني روكسولانا بيدلاسا، فإن كل يوم من القتال يكلف كييف نحو 140 مليون دولار، وتتوقع مسودة ميزانية 2025 أن يذهب نحو 26 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لأوكرانيا، أو 53.3 مليار دولار، إلى الدفاع.
ويبدو أن صفقة السلام التي يسعى الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى عقدها مع نظيره الروسي، ستتضمن تمويل إعادة الإعمار، إذ أفادت وكالة “رويترز” الأسبوع الماضي، نقلاً عن مصادر لم تسمها، أن موسكو ربما توافق على استخدام 300 مليار دولار من الأصول السيادية المجمدة في أوروبا لإعادة الإعمار في أوكرانيا، لكن إنفاق تلك الأموال سيتضمن أيضاً إعمار مساحة 20 في المئة تقع تحت السيطرة الروسية.
نقلاً عن : اندبندنت عربية