ينسب إلى أبو الأدب الأميركي مارك توين جملة شهيرة تقول “مؤلمة هي نميمة الأصدقاء وخيانة العشاق وموتَ الأمهات وكراهية الأقارب”، وربما أن العهد “الأسدي” الديكتاتوري قد رسخ طيلة الخمسين عاماً طرقاً جديدة لخيانة الزوجات وهي الخيانة “بالتقارير” التي باتت أسهل الطرق نحو السجن سيئ السمعة “صيدنايا”.
ويكشف لنا مجند سوري تابع لقوات “هيئة تحرير الشام” بعد الاستيلاء على مبنى المخابرات السورية أسماء وأسباب الإدانات التي أودت بالمساجين، ويقول وهو يتصفح حزماً من الورق والملفات “شاهدوا هذه تقارير كتبت من زوجات ضد أزواجهن”. وهذه خيانة وقعها على مارك توين لو كان بيننا أشد إيلاماً مما يؤلمه، خيانة تنطلق من حرم الأزواج الآمن ووقودها “الحبر والورق”.
الخيانة هنا وإن ظهر لها أوجه وتفسيرات، وربما وجد لها البعض نزراً من المبررات، هي في الواقع تسلط الضوء على هشاشة العلاقات الإنسانية في ظل الأنظمة القمعية، إذ إن “الحب والثقة” يصبحان ضحايا للخوف والموت نتيجة الضغوط السياسية.
قبل التفصيل في الخلفية التاريخية لثقافة “كتابة التقارير” في سوريا، بات على كاهل “بشيرها” الجديد مهمات أصعب من توفير الكهرباء للمدن الغارقة مع الظلم والجوع في الظلام، ومنها مهمة إعادة تهيئة العلاقات الإنسانية لطبيعتها الأولى، فالبلاد التي أورثها “حكم الأسدين” ثقافة الوقيعة بين الأهل والعشاق تحتاج إلى عملية شاملة للمصالحة بين مكونات المجتمع.
أدونيس ينصح
ولهذا دعا العارف ببواطن حلب وشامها، شاعرها الكبير أدونيس إلى ضرورة “تغيير المجتمع” وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي، وقال التسعيني الذي يعيش في منفاه، فرنسا “التغيير المطلوب هو تحرير المرأة. وتأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي”.
وظاهرة ثقافة “كتابة التقارير” التي لا تنحصر على الزوجين فحسب، أسهمت في تفكك الثقة داخل الأسر وبين أفراد المجتمع، حيث بات الجميع يخشى أن يكون مراقباً أو ضحية لوشاية كاذبة. وهذا تحد جديد أمام الحقبة السورية الجديدة وحكومتها.
اعتراف مسؤول سوري
والوشاية وأساليبها لم يخفها الوزير السوري نواف الفارس الذي أعلن انشقاقه عن حزب البعث منذ بداية لهيب الثورة في تموز 2012، وهو يكشف خفايا عن الأسد ونظامه، ويقول “نحن دولة أمنية بكل المقاييس، من آذن (حارس) المدرسة إلى نائب رئيس الجمهورية، الكل يتجسس على بعضه والكل يراقب بعض وعلى هذه الأسس بنيت الدولة والحزب والجيش”.
ويعترف الفارس في لقاء متلفز أن هذه واحدة من حيل نظام الأسد، ويروي قصة تكليفه بمهمة سماها “الفتنة” وهدفها الإيقاع بين الطائفتين العلوية والسنية.
من أين بدأت؟
ثمة سؤال يثيرنا أكثر وهو “أين بدأت وكيف نشأت هذه الثقافة؟”، يجيب التاريخ أن العائلة الأسدية ورثتها عن مستعمرها القديم، إذ تعود الظاهرة، وفقاً لوثائق مختلفة إلى حقبة الاستعمار الفرنسي لسوريا (1920 -1946)، إذ كانت كتابة التقارير وسيلة شائعة آنذاك استخدمتها سلطات الانتداب لتثبيت سيطرتها على المجتمع السوري ومواجهة أي معارضة لحكمها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهذه طرق بقدر ما كانت أداة استخباراتية، إلا أنها أصبحت ظاهرة اجتماعية مثيرة للجدل، لتوغلها تسلسلاً في إسقاط هرم الثقة من أقصى “درجات العصوبة” حتى بلغت خيانة الأزواج. والخيانة أحياناً يبرر لها أنها مدفوعة بالخوف والتهديد والموت. ويفسرها آخرون أنها تأتي بدافع الانتقام لا أكثر.
“فرق تسد”
يرى محللون أن سلطات الانتداب استندت في تشريعها “كتابة التقارير” إلى منطلق مصطلح شهير وهو ” فَرق تسُد” وهو المصطلح السياسي العسكري divide et impera ويعني تفريق قوة الخصم الكبيرة إلى أقسام متفرقة لتصبح أقل قوة وهي غير متحدة مع بعضها البعض مما يسهل التعامل معها. وجند الفرنسيون لنظام “رسائل الخيانة” عملاء محليين من السوريين للإبلاغ عن الأنشطة المناهضة للاستعمار أو حتى عن أفراد في المجتمع يمكن أن يمثلوا خطراً. وكانت تشمل معلومات عن الشخصيات الوطنية، الأنشطة السياسية، التحركات الاجتماعية، وصولاً لشؤون الأفراد الشخصية.
وهذه الطرق أدت إلى تفشي ثقافة الوشاية والتجسس داخل المجتمع السوري، وهو ما أثّر سلباً على العلاقات الاجتماعية وأضعف الثقة بين الأفراد حتى اليوم.
يأس الأمم المتحدة
لم تحتج الدولة التي عانت طوال خمسة عقود من نظام جمهوري ديكتاتوري سوى لـ 11 يوماً من هجوم مباغت لقوات “هيئة تحرير الشام” وهو ما مكّنها من إسقاط حكم الرئيس بشار الأسد الذي هرب إلى موسكو بعد حكم طال لـ 24 عاماً. وفور تحرير البلاد سارعت الفصائل المعارضة إلى فتح السجون وبينها سجن صيدنايا الواقع على بعد نحو 30 كيلومتراً من دمشق. وقد وصفته منظمة العفو الدولية بأنه “مسلخ بشري” نظراً لحجم الانتهاكات التي شهدتها أقبيته.
وتشير التقديرات إلى أن النظام قتل ما لا يقل عن نصف مليون من شعبه، واعتقل 130 ألف شخص آخرين وأخفى أثرهم، وترك نحو نصف السكان، أي نحو 14 مليون نسمة، مشردين. في النهاية توقفت الأمم المتحدة من شدة يأسها حتى عن إحصاء عدد القتلى.
نقلاً عن : اندبندنت عربية