تتكون المجموعة من ست قصص، هي بالترتيب: “صيحة لا يعول عليها”، و”قوس قزح منتصف الليل”، و”الحيز الذي يشغل”، و”مأدبة عشاء معادة”، و”حين زرت الحدائق”، و”سوسن”. ولعل الجدير بالملاحظة هو التباعد الزمني في إصدارات سليمان القصصية، إذ صدر له من قبل: “صحراء على حدة” في عام 1995، و”على هيأة اللوتس” في 2004.
لعل عنوان المجموعة، وحضور كلمة “البهجة”، التي تعني في اللغة ضحك أسارير الوجه، وشعور بارتياح شديد، يتكشف بعد قراءة القصص كلها، أما كلمة أعراف، فإنها أقرب لأن تكون الحاجز بين الجنة والنار، بخلاف المعنى الشائع الدال على العادات الاجتماعية، وما استقر عليه الناس في تصرفاتهم.
وحدانية العالم
تحضر في القصص حالة من الوحدانية الصوفية، إذ يميل الأبطال للاحتفاء بالبهجات الصغيرة، والحياة الطيبة في جانبها النقي المتمثل في العلاقة مع الطبيعة والكون، مع الكائنات الحية من نبات وحيوانات وأشجار وبحار، تجاور الإنسان في حياته على الأرض، إذ تحمل جميعها أرواحاً تنبض وتتفاعل في محاكاة مستمرة بينها وبين البشر. إلى جانب هذا، يميل أبطال القصص إلى نبذ الكراهية والبغض من أرواحهم، وهذا يتجلى في عدد من المواقف داخل القصص، نراه مثلاً مع الجد دايسوكي، في قصة “سوسن”، الذي على رغم ما ناله من أذى حين عضه الكلب، فإنه “لم يستقر في قلبه أي بغض للكلاب، بل إنه تخيل أنه سيرعى كلباً صغيراً حالما يعود لبيته”. وهذا ما نراه مع زينة التي تفقد وليدها في البحر، ومع كيم التي داهمها الجندي المحتل في خن الدجاج ثم أجبرها على الخضوع له، فما كان منها إلا الفرار من بلدتها والتشرد والتطواف، حتى التحقت بالعمل في السيرك كخادمة تقدم وجبات الطعام للفيل، وتعتني بنظافته. “وعلى مدى أشهر قليلة من مزاولة عملها واقترابها من الفيل، كانت على وجه التقريب، إذ شفيت من مصيبتها، وغدت ودوداً، ونوديت بذلك الاسم الفخم: كيم”.
يتقصى سليمان في قصصه قانون السببية، وما فيه من كارما، محاولاً تفكيك الحدث أياً كان، بغية تقبل سبب وقوعه على رغم ما يحمله من أذى. تنهار الحواجز بلا صوت بين الحياة والعدم، بين الجنة والنار، بين الخير والشر، فلا يعرف جلال الدين بطل قصة “الحيز الذي يشغل” هل زار ملاك الموت بيته ليقبض روح أمه، أم روح حسيبة محبوبته، يتشظى الزمن في مفارقات غرائبية مبهمة، تتداخل الكائنات الأخرى، تحضر الطبيعة ببريتها وفطرتها الأولى، يتفاعل الأبطال معها بلا هوادة، ضمن إيماءات متوارية لرؤى دينية ونظريات فلسفية وعلمية عن ماضي الجنس البشري، وأصل الإنسان، كأن تحكي بطلة “حين زرت الحدائق” عن تجربة شخصية لها، “عن روائح الصبارات والأزهار، التي هي هي، شبيهة بأسلافها عبر قرون وألفيات، تكاد لا ينالها تحريف”.
تتضح أيضاً رؤية أخرى حين ترفض زينة، في قصة “قوس قزح منتصف الليل”، أن تأكل الأسماك وسائر ما يحتمل أن يكون قد “طعم على لحوم أهلها”، كذلك نشاهد النسر الحوام حول زينة “لا يني يحلق في دوائر على مسافات تصير أقرب فأقرب”، كما يتعاطف الفيل مع كيم في القصة الأولى “صيحة لا يعول عليها”، فإنه يقع في هواها، حد أنه “وجد ميتاً في أول صباح تال لانتوائها السفر”.
في قصة “حين زرت الحدائق”، يصف البطل السارد رابية السيدة التي تحاضر في جمع صغير من الناس الجالسين على العشب في حديقة عامة، تقول: “إن لديها وهماً غلاباً في شأن أجدر شخصيات الآداب والبطولة والفنون والحكمة والعرفانية والرحمة والسحر والعلوم، ليس الشخصيات كلها، بل التي استوت قشرتها الصلبة حتى تقوست وانشقت وانفلقت وأفلتت ما فيها، وأفرغته بطائل أو بغير. ذلك أن لهم دواماً في الوجود، وأنهم بالطبع يموتون، لكنما يعاد ظهورهم من جديد في كل جيل تقريباً”.
أهل الضباب
تتهاوى الحدود الجغرافية في هذه القصص، فتتصل الأزمنة الغابرة بالأمكنة المتباعدة، يتواصل الشخوص عبر الحدس والتخاطر والحلم. تتلاشى المسافات، والحدود الثقافية واللغوية بين الأبطال، فتغني جانيجيرا اليابانية أغنية “فكروني” لأم كلثوم في قصة “سوسن”، ويتواصل البطل القاهري مع أحفاده الفنلنديين في قصة “حين زرت الحدائق”، تتلاشى الحجب التي تحجب البصيرة، يتم تمزيقها في لمح البصر، حينها يرى الأبطال ما لا يمكن رؤيته، كأن ترى عايدة دون سواها الحصن المختفي عند شاطئ الإسكندرية، يومض ويختفي في ثوان عابرة. لنقرأ: “كان الحصن وهماً أو نصف وهم، ولعلك أنت أيضا وهماً، أو نصف وهم، على الشاكلة نفسها. ولمحتك عايدة، مرة بعد مرة، مقيماً، ممدداً، مشحوطاً، وارتابت في ما تراه، وفي كونك إنساناً، واستضعفت عقلك، ثم أخذها الفضول إلى إبطاء سرعة سيارتها، بقصد إمعان النظر فيك إلى أن قررت أمراً”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا يتمكن القارئ من رؤية أبطال هذه القصص ولا أشباههم، إذ يبدو أنهم ينتمون إلى أهل الضباب، فلا هم حاضرون حقاً، ولا غائبون بعيداً، بل يتحركون بنزاهة مفرطة بين الشروق والغروب، ربما يسقط أحدهم في منتصف الطريق قابلاً بالخذلان والألم وكل مرارات الحياة، كمن يمشي على الجلجثة، أو يحمل صخرة سيزيف. لنقرأ: “سار، هذا الذي ما عاد يتذكر خطوة رجوعه إلى موطن فر منه إبان صباه، عازماً على تجنب الاسترشاد بأي كان، وعلى إغفال الذكاء والتذكر، ومستصوباً الاستهداء بالحدس، وبما يكون قد كمن في لبه من حس الطير. داس جلال الدين ومضى، وبعد أربعين يوماً، ضحك وانتشى وابتهج لما ثبتت له مقدمات فشله، لإيغاله بأماكن وطرقات خاطئة، ولكنه واصل مثل من يوقن بأنها المقدمات الكاذبة المضللة ليس إلا”.
تناقض إنساني
تنغزل القصص مع الفنون بأنواعها، إذ تحضر الموسيقى فتبدو الظلال والخيالات والكلمات مدغمة بها، فيتشكل المعنى عبرها، لنقرأ: “بقيت أنصت إلى الموسيقى وحدي، بينما طيف رابية الأخير لا يني يتغشاني. صرت أسمع المعنى ككتلة واحدة، وأظن أن ما بلغني كان مثل قذفة من التعاليم: عليك أن ترعى يديك وتفتح لهما الطريق، احضر حجراً واصقله، صخراً قاسياً، واصقله حتى ينعم ويلمع، اصقله وابق طيباً مع الحجر حتى يترفق ويتهاود، حتى يخرج لك لونه الحقيقي المستتر، عندئذ ستخرج إليك دفقة من المعرفة المخبوءة في يديك، المعرفة الحية التي تهب الغبطة”.
ينتقل الأبطال بخفة من قصة إلى أخرى، عايدة في قصة “مأدبة عشاء معادة”، نراها تحضر حين يتم استدعاؤها من الكاهن في قصة “قوس قزح منتصف الليل”، ليس هناك تخوم تمنع أبطال القصص وكائناتها من التواصل فيما بينهم. غياب الحدود الفاصلة بين الشخوص يسري أيضاً على المفاهيم الباطنية الأعمق في رؤية الحياة والعالم. إنه التداخل التام بين الخير والشر، بين الأبيض والأسود، بين الين واليانج، كما يحضر الكاهن ليؤدي دوره برحمة، يقوم الغزاة وقطاع الطرق بأدوراهم المنوطة بهم منذ الأزل.
أبطال القصص يعبرون البحار كما هو يونس، يجوبون الشوارع مثل نافخ الفقاقيع الذي كان فلاحاً في بلدته البعيدة، أو يجلسون في الحدائق مثل رابية التي تحاضر في مريدينها عن بعض ما تكشف لها من معارف، يهربون للعمل في السيرك كما فعلت كيم التي أرادت النجاة بروحها، أو يرتحلون من موطنهم الأصلي إلى بلد غريب تفصلهم عنه محيطات مثل جينجارا اليابانية، التي اختارت الحياة في القاهرة، مع رجل أحبته، ثم ذات نهار تقرر المغادرة بلا سبب واضح.
يتوقف الكاتب أمام التناقض الإنساني بين البشر، كما لو أنه شرط ضروري لوجودهم، منبهاً إلى أن تشابه الملامح لا يعتد به إذا كان هناك تناقض في الجوهر، لكن عاطف سليمان لا يضع أبطاله أو قارئه في مأزق التقييم أو التصنيف، بل يقدم الحياة كما هي في جانبها الغامض والسري والواقعي الحافل بالعثرات والمسرات، بالخيبة والأمل، بالشجن والبهجة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية