في سبتمبر (أيلول) عام 2021، شُخصت أقرب صديقاتي، الكاتبة السويدية جوهانا إكستروم، بإصابتها بسرطان الجلد قرب عينها. وبحلول الربيع التالي، كان السرطان قد انتقل إلى كبدها، وكان طبيب الأورام قدر أن المتبقي من حياتها لا يتجاوز الشهرين أو الثلاثة.
استشارت طبيباً آخر من لندن عن بعد، فأكد التشخيص الذي حصلت عليه في السويد، ونصحها بأن تأكل ما تشاء وأضاف أنه قد تراودها مشاعر الحزن أو الغضب، أو تساؤلات من قبيل “لماذا أنا؟” كما توقعت بناء على معرفتي بها، وجدت جوهانا هذا الموقف مضحكاً للغاية. وقالت بسخرية، وهي تضحك أمام شاشة الكمبيوتر: “لماذا أي أحد سواي؟”.
تعارفنا عام 1990. كان والدا جوهانا ووالداي يعرف بعضهم بعضاً بشكل غير وثيق، وقد نظمت والدتها حفل عشاء لمناسبة عيد ميلاد والدتي في ستوكهولم (كانت والدتانا في السن نفسها تقريباً). أعدت جوهانا، التي كثيراً ما اشتهرت بالكفاءة والنشاط، الطعام لنحو 20 شخصاً بالتعاون مع حبيبها في ذلك الوقت. أما أنا فقد اصطحبت حبيبي القديم مارك، وعلى الفور اكتشف كل منا في الآخر نوعاً من السخرية والتوق وحساً من التمرد الخفيف والشغف بالحياة. شيء ما في ذلك اللقاء الأول – السخرية، والمبالغة، والبهجة – بقي معنا إلى الأبد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عندما أفكر بها الآن، أدرك أنه من الصعب وصف صديق قريب، لأن ما يراه المرء ويفكر فيه هو الشعور، والمزاج، والأجواء الحميمية الدائمة التي تنشئانها معاً. كانت جوهانا أقرب صديقاتي، لكنها كانت أيضاً مثل أخت صغرى. كان هناك نوع من السلطة غير المعلنة التي مُنحت لي، بينما حصلت هي على شيء من الحرية الجامحة.
ككاتبة، كانت جوهانا مبدعة ودقيقة في الوقت ذاته، تتلاعب بالكلمات والتركيب اللغوي، لكنها كانت تولي اهتماماً صارماً لجملها.
ربما كان السعي وراء الكلمة أو العبارة المناسبة في الحديث أو في النص أمراً يشبه هوساً طفيفاً مكسواً بالسخرية والفكاهة. كانت تلك العملية بمثابة تمرين يعكس عوائد متناقصة إذا كان للمرء هدف محدد، لكن جوهانا – أو هي وأنا – لم نكن نبحث عن نهاية بعينها. كان البحث نفسه هو الهدف، عملية الاستكشاف المستمر.
لم تكن هناك إجابات صحيحة، بل فقط أسئلة وملاحظات قد تتحول فجأة إلى نوع آخر من السخرية الخفيفة، والأنوثة الأدائية – لكن بالقدر نفسه من الأصالة. وأياً كانت محادثتنا جادة، إلا أننا في النهاية كنا نضحك حتى نذرف الدموع، أو نبكي حتى نضحك.
بعد التشخيص النهائي، ذهبت إلى ستوكهولم للمساعدة. صار الزمن يسير ببطء. في غضون أيام قليلة، أصبحت جوهانا أسيرة سريرها وتأكل فقط أصغر كميات من الأطعمة التي كانت تشتهيها أو تستطيع تحمل التفكير في تناولها. ملعقة من عصيدة السميد مع القرفة والسكر، وشريحة من الفراولة أو الموز. قطعة من بسكويت الرز الياباني مع شريحة من الأفوكادو أو قطعة من رقائق البسكويت.
من دون شك، في تلك الأيام التي كنت أرافق فيها فريق الرعاية التلطيفية، كنت أحرص على تدوين الملاحظات بدقة شديدة، كي أتأكد من كتابة الجرعات الصحيحة للأدوية التلطيفية، وأتأكد من قراءتها بصورة سليمة. أما جوهانا، التي بدأت في تناول المورفين، فلم تعد تكترث إطلاقاً. كانت تفتش عشوائياً في حقيبة الأحذية القطنية التي تضم كل أدويتها، وبالطبع، كانت محقة؛ فكل شيء صار غير ذي أهمية في تلك المرحلة.
في الأسبوع الذي سبق وفاتها، أرتني جوهانا كتابها الأخير، المكون من 13 دفتر ملاحظات مكتوبة بخط يدها، وطلبت مني أن أحرر النص وأكمله. قمت بذلك، إذ استخرجت بعض المقاطع من دفاترها ودمجت فيها بعض تأملاتي الخاصة. نُشر الكتاب في السويد عام 2023، وبعد أشهر قليلة شرعتُ في ترجمته. العنوان الذي اختارته جوهانا “وصارت الجدران هي العالم من حولي” And the Walls became the World all Around هو اقتباس من كتاب موريس سنداك “حيث توجد الأشياء الجامحة” Where the Wild Things Are. يعكس العنوان كيف يمكن لغرفة واحدة أن تتحول إلى عالم بأكمله، أو في حال جوهانا، إلى مسرح يستضيف دراما حياتها ونهايتها.
الكتاب هو مذكرات عن مشاعر الفقدان، بدأ كدفتر ملاحظات عادي للكتابة ثم تبلور ليصبح شيئاً أكثر دقة وتعقيداً. كان من المفترض أن يكون في البداية، كما أعتقد، استكشافاً لتجربة الهجر. فقد عاشت جوهانا علاقة عميقة – كانت لقاء للعقل والجسد معاً – ولكن تلك العلاقة انهارت عندما غاص شريكها، الذي ترمز إليه بالحرف “ن”، في اكتئاب شديد وصامت.
الجزء الأول من الكتاب هو بمثابة دفتر ملاحظات للكاتبة، مليء بالاقتباسات والقصاصات والتأملات حول الأسلوب والموضوع والأحلام والذكريات والتأملات أثناء جائحة كورونا. صُنفت بعض المقاطع تحت خانة “اليوميات”، وأخرى “الملاحظات”. يبدو صوت جوهانا في الكتاب شاباً وتجريبياً – كانت تستخدم علامات التعجب والحروف الكبيرة، إضافة إلى الرموز التعبيرية والقلوب. كانت سعيدة، ومغرمة بالفعل بـ “ن”، الذي كان مترجماً وكاتباً. كانت علاقة جديدة، تجلب لها الفرح والأمل.
على كل حال، سرعان ما تتحول النغمة المفعمة بالحيوية إلى شيء مختلف. غاص “ن” في بئر من الاكتئاب، فتصف جوهانا حزنها وإحباطها. يشعر القارئ بالعزلة التي فرضتها الجائحة على الجميع في الخلفية، لكنه في الوقت نفسه يدرك أن جوهانا قد وجدت موضوعها: بدأت دفاترها تتطور إلى سلسلة من الملاحظات المتناثرة حول مفهوم الفقد، لتعود بها إلى مشاعر عميقة من الضعف المظلم، والشعور بالعزلة، والتوق، التي تتداخل مع أفكارها حول الأدب والإبداع.
وتدور أحداث الكتاب إلى حد كبير في فترة الجائحة، ويظهر تأثير تلك المرحلة في النص بصورة لا لبس فيها: الانتباه الكبير للتفاصيل الدقيقة، التأملات الطويلة في الإطلالة من النافذة، الشوارع الخالية، والتركيز على الأصوات المحيطة، شجرة مُشبعة بنوع من الحياة، طيور تُراقَب وكأنها شخصيات ثانوية في مسرحية، أحلام.
عند منتصف الكتاب تقريباً – بعد عدد من الملاحظات عن الإرهاق والتغيرات البصرية الغريبة – تلقت جوهانا تشخيصها، ومنذ تلك اللحظة بدأ الكتاب يتحول إلى تأملات في نوع آخر من الفقد: مواجهة مرض تبين أنه عضال.
إذا لم تتعامل جوهانا مع دفاترها على أنها كتاب منذ البداية، فسرعان ما راحت تفعل ذلك. من هذه القطع المبعثرة المكتوبة بخط اليد، سيتشكل النص لاحقاً. نحن لا نعلم كيف كان سيبدو هذا الكتاب لو اكتمل، لكنه على الأرجح كان سيكون مختلفاً تماماً.
ملاحظة تشخيصها بالسرطان، على سبيل المثال، تظهر بصورة غير ملحوظة تقريباً في منتصف دفاترها. كانت أعراضها – الإرهاق الشديد والتغيرات في الرؤية – قد أصبحت جزءاً من حياتها (ومن دفاترها) لمدة طويلة لدرجة أن التشخيص بدا وكأنه تأكيد لما كانت تشعر به طوال تلك الفترة. كتبت قبل أسابيع من زيارتها للطبيب المختص “أشعر بأن عينيَّ تذرفان الذهب… كل ذلك الذهب، تلك الأشياء اللامعة في طرف عيني”.
وتتساءل جوهانا في دفترها “ماذا تكشف عني حقيقة أنني رأيت ذلك جميلاً بدلاً من رؤيته كعلامة على وجود خلل في نظري؟”.
ساعدت في رعاية جوهانا أثناء احتضارها. مرّت الأيام، كانت تنام وأنا أجلس بجانب النافذة. كانت الأصوات تتسرب من الخارج – أصوات حديث، وخطوات، ونباح كلب. أصبح صوتها ضعيفاً وخشناً، وأحياناً كانت تتلوى على السرير، عيناها مغمضتان، تتكئ إلى الأمام على الوسائد لتخفف من ألم الأورام، كانت الكتل الصلبة تتكون تحت جلد بطنها الآخذ بالتمدد. كانت تشرب الماء وتمص مكعبات الثلج أو مشروب الكوكاكولا المجمد، وتضع قطعة قماش باردة على جبهتها.
كان جهاز حقن المورفين موصولاً بإحدى ذراعيها، بينما كانت هناك فتحة في الذراع الأخرى حيث يمكننا حقن جرعات إضافية من المورفين أو السوائل لمقاومة الغثيان والمسكنات. كانت الحقن التي تشمل ثلاث جرعات من كل نوع من الأدوية، إضافة إلى المصل الملحي لتجهيز فتحة الحقن – مصفوفة بصورة مرتبة على صينية.
بكيت مراراً وتكراراً، وكانت المواساة تأتيني من الإنسانة نفسها التي كنت حزينة على غيابها الوشيك. كانت تمسك بذراعي وتبتسم؛ تتكئ إلى الوراء وتغلق عينيها، وكنا نعيش الحزن معاً، في نوع من التواصل المشترك.
كنت أقرأ الصحف أثناء نومها لكنني لم أكن أفهم ما أقرأ. كانت الجمل بلا معنى، كنت أقرأها مرة تلو الأخرى. كانت جوهانا نائمة، شاحبة. وكانت تغيب عن الوعي أكثر فأكثر. ولكن بين الحين والآخر، تستعيد وعيها وكنت أدرك بذلك عندما ترفع أحد حاجبيها بطريقة ساخرة أو تلقي تعليقاً ما أو تقوم بشيء مشترك بيننا.
عندما حلت ساعة الموت، شعرنا أنه مفهوم مجرد وشيء ملموس في آن معاً. تختفي ملامح المجرد (الوعي، الروح)، بينما يبقى الجسد الملموس. كان جسد جوهانا في دار الرعاية كآلة معقدة التفاصيل أو كعمل فني دقيق. تعقيد الجسد الهائل، وكل الأنظمة قد توقفت. حل صمت جليل.
الأفكار، والصور، والأصوات، والحرارة، والحركة، والكهرباء – كلها اختفت. كان شعر جوهانا القصير والنظيف يرتد تحت يدي. كانت عيناها مغلقتين؛ ابتسمت ابتسامتها الساخرة الخفيفة.
الكتاب غير مكتمل، وأكثر جموحاً وظلمة من أي شيء نشرَته من قبل. تحدث الكاتب المسرحي سايمون وودز عن الجمال الغريب والمأسوي في كتابتها، وعن “ذلك المزيج الاستثنائي من الصدق والشعرية والحسية والذكاء القاسي الذي جعل من إكستروم ناجحة جداً في لغتها الخاصة”. وقال الكاتب نيل موكيرجي إن الكتاب “شيء فريد بحد ذاته، أشباح الأحياء تطارد الأموات”.
أحب فكرة أننا – نحن الأحياء – الأشباح التي تطارد الأموات، نقحم أنفسنا في حياتهم، إلى أن نضطر إلى تركهم لينصرفوا إلى وجهتهم. في بعض الأحيان، أثناء عملي على هذا الكتاب، تخيلت أو ظننت أنني سمعت صوت جوهانا أو استحضرت ذكراه، وأحسست بحوار يجري بيننا. ثم كان الصوت يتلاشى، ليتركني مع 13 دفتر ملاحظات مكتوبة بخط اليد مليئة بالأحلام وشذرات من نصوص. الدفاتر محفوظة الآن في مكتبة ستوكهولم الملكية.
من المحتمل أن تكون آلاف الرسائل النصية التي تبادلناها ما زالت موجودة في مكان ما في الفضاء الإلكتروني، كعلامات أثرية رقمية، وكأثر في العالم. أما جوهانا فهي موجودة بداخلي: شعور أحس به ما بين قلبي وحنجرتي، حال مزاجية، كلمة، جملة، همهمة. مخطط لحياتي الداخلية.
كتاب “وصارت الجدران هي العالم من حولي” لـجوهانا إكستروم وسيغريد روزينغ متوفر حالياً للقراءة عن دار غرانتا للنشر.
نقلاً عن : اندبندنت عربية