تتصالح المصالح، ويصبح أعداء الأمس الألداء أصدقاء الغد الأعزاء وتتغير الأيديولوجيات، وتتحور المظاهر وتتبدل القناعات، كل شيء وارد في عوالم السياسة والاقتصاد، وعلى من يندهش من تأرجح التوازنات وتقلب المقاربات وتذبذب المعادلات أن يراجع معلوماته. فالسياسة ليست علماً ثابتاً لا يتغير بقدر ما هي فن مرن يتلون ويتحور.
سقوط النظام في سوريا قبل أيام على يد “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) المولودة من رحم تنظيم “القاعدة” والمتصلة في مراحل مختلفة بـ”داعش” لم ينجم عنه استنفار عالمي جراء وصول جماعة الأمس المسلحة إلى الحكم، أو ارتعاد لأوصال منظمات أممية صنفت وما زالت الهيئة المنتصرة “إرهابية” على قوائم مجلس الأمن التابع للكيانات الإرهابية، وذلك عملاً بالقرارات 1267 الصادر عام 1999 والقرار 1989 الصادر عام 2011 والقرار 2253 الصادر عام 2015، ناهيك بزعيم الهيئة أحمد الجولاني المدرج (بالاسم) في قوائم الإرهاب من قبل مجلس الأمن.
وبحسب تفسير الأمم المتحدة نفسها خلال الـ12 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري تخضع هيئة تحرير الشام لثلاثة تدابير للعقوبات هي تجميد الأرصدة والحظر على السفر وحظر التسلح، مما يعني أن على جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الامتثال لهذه التدابير.
تعي الأمم المتحدة أن المصالح تتصالح أو أن “ما محبة إلا بعد عداوة” أو أن قرارات الأمس قد تحال إلى التقاعد بعد غد لأسباب عدة، لذلك تشرح المنظمة الأممية أنه في الإمكان إزالة “هيئة تحرير الشام” من قائمة المنظمات الإرهابية وذلك بتقدم إحدى الدول الأعضاء بطلب في هذا الشأن، يُرسل إلى لجنة مجلس الأمن المعنية والمكونة من ممثلي أعضاء المجلس الـ15 لاتخاذ قرار موافقة بالإجماع، ويتوقع أن يحدث هذا خلال المستقبل القريب جداً.
القواعد صارمة لكن المعايير زلقة
موسوعة “القواعد والمعايير القانونية” تفرق بين القواعد وهي الأوامر القانونية التي تميز السلوك القانوني من غير القانوني وتحددها نصوص واضحة وصريحة وبين المعايير وسمتها الضبابية وعدم الوضوح، وتتطلب اتخاذ قرارات قضائية للبت فيها وهي متغيرة بحسب الظروف والتفسيرات.
الظروف في سوريا بسقوط نظام بشار الأسد على يد “هيئة تحرير الشام” تفرض تفسيرات جديدة لما هو إرهاب، ولما يجب الإبلاغ عنه ومنعه وتعقبه على منصات الـ”سوشيال ميديا”.
لجنة مكافحة الإرهاب التابعة لمجلس الأمن في الأمم المتحدة دأبت على التحذير من أن “التكنولوجيات الجديدة والناشئة، لا سيما تكنولوجيا المعلومات والاتصالات مثل شبكة الإنترنت والتواصل الاجتماعي وتطبيقات الاتصالات الأخرى، يستخدمها غالب الناس للاتصالات الاجتماعية والتجارة الرقمية ولأغراض معلوماتية، إلا أنها أيضاً أداة مفضلة لدى الإرهابيين مثل تنظيمي ’داعش‘ و’القاعدة‘ والجماعات المنتسبة إليهما والمنظمات الإرهابية الأخرى”.
ظلت هيئات ولجان الأمم المتحدة تحذر من أن “هذه الجهات الفاعلة” أي المصنفة “إرهابية” تستغل التكنولوجيات الجديدة والناشئة كوسيلة للحفاظ على تحفيز أعضائها، ولتيسير القيام بمجموعة واسعة من الأنشطة الإرهابية بما في ذلك التحريض على التطرف العنيف المفضي إلى الإرهاب والتجنيد والتدريب والتخطيط، وكذلك إقامة الشبكات وتأمين الدعم اللوجيستي والحصول على الأسلحة ومكوناتها وجمع الأموال وتنفيذ العمليات الإرهابية”.
ووصل الأمر إلى تدشين “مبادرة تسخير التكنولوجيا لمكافحة الإرهاب” وهي شراكة بين القطاعين العام والخاص خلال عام 2017، بهدف دعم قطاع التكنولوجيا لوضع نهج أكثر فاعلية ومسؤولية للتصدي لاستخدام الإرهابيين الإنترنت مع احترام حقوق الإنسان.
أنشطة مكافحة الإرهاب على الإنترنت سارت متزامنة مع تصاعد الإرهاب ومتصاعدة مع تصاعد نشاط الجماعات المصنفة “إرهابية”، ومراكز عربية عدة دُشنت أيضاً لمكافحة الفكر المتطرف والأيديولوجيا التي تقدم نفسها باعتبارها دينية على رغم أنها اجتهاد من قبل من اعتنقوا الفكر “الجهادي” العنيف المسلح، وملايين المحتوى المتطرف وجهود تجنيد مزيد من المقاتلين عبر دغدغة المشاعر الإيمانية وغسل الأدمغة أيديولوجياً، إضافة إلى استهداف الباحثين عن الحسنيين (مكانة مجاهد مؤمن يقتل باسم الدين، ويحصل على قدر معقول من المال).
اللافت أن جهود عديد من هذه المراكز ظلت نشطة وراصدة للمحتوى العنيف ومكافحة له حتى أيام قليلة مضت، وتجدر الإشارة إلى أنه رُصد نشاط رقمي دعائي محموم على “تيليغرام” لثلاثة تنظيمات إرهابية هي “القاعدة” و”داعش” و”هيئة تحرير الشام” وكثير منها يرتكز على فكر “تنظيم القاعدة الإرهابي”.
من الترحيل إلى القبول
خلال أغسطس (آب) الماضي وعقب قيام لاجئ سوري شاب بتنفيذ هجوم بسكين في مهرجان داخل زولينغن (غرب ألمانيا) أدى إلى وفاة ثلاثة أشخاص وإصابة آخرين، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز أنه سيجري العمل على ترحيل اللاجئين المخالفين.
وقبلها بشهرين تحدث شولتز عن خطط لتغيير القوانين المعمول بها من أجل السماح بترحيل مقيمين في ألمانيا إلى دول أبرزها سوريا وأفغانستان، وذلك في أعقاب حادثة طعن أدى إلى وفيات وإصابات قام بها “إسلامي” ضد مشاركين في تظاهرة مناهضة للإسلام.
وعلى مدار الأيام القليلة الماضية ومنذ سقوط النظام في سوريا على يد “هيئة تحرير الشام” تتواتر التقارير في الإعلام الألماني حول هل وكيف ومتى يرفع اسم “هيئة تحرير الشام” وقائدها من قوائم الإرهاب، وذلك لتسهيل تواصلها الدولي.
مثل هذه الأسئلة والطروحات تدور كذلك على أثير “السوشيال ميديا” في مشارق الأرض ومغاربها. كتابة كلمة “القاعدة” على خاصية البحث في “فيسبوك” تؤدي إلى هذه الرسالة التحذيرية “هل أنت متأكد من أنك تريد الاستمرار؟ المفرد الذي تبحث عنه يتصل أحياناً بأنشطة يقوم بها أشخاص ومنظمات خطرة، وهذا غير مسموح على ’فيسبوك‘”، والرسالة التحذيرية نفسها تظهر للباحث عن “جبهة النصرة” أما “هيئة تحرير الشام” فلا غبار عليها أو تحذير منها.
الوضع يسري على بقية منصات الـ”سوشيال ميديا” وما زال المستخدمون يتحسسون طريقهم في الكتابة عن (ا ل ق ا ع د ة) وكذلك (ج ب ه ة ا ل ن ص ر ة)، أما “هيئة تحرير الشام” والجولاني المتحول بصورة مكثفة وسريعة ليكون الشرع فملء السمع والبصر والتحليل والتدوين والكتابة والـ”لايك” والـ”شير”.
تظل الهيئة المتداولة أخبارها والقابلة تحركاتها للنقاش والجدل والمسموح بالاحتفاء بقدومها أو التشكك في ما هو آت مثاراً للشك عبر الأثير، بسبب مواقفها من “المقاومة الفلسطينية” ووجودها وإسرائيل وتوغلها أو نياتها في ما يختص بالتعددية والمرأة والديمقراطية والحكم المدني وغيرها من الجوانب التي تسعد أنصار الجماعات الدينية وتقلق منام غيرهم دون حجب بعد.
الفترة الانتقالية
ضبابية الموقف من الهيئة ليست على الأرض داخل سوريا فحسب بل عبر أثير الـ”سوشيال ميديا”، مع وجود فوضى في التعامل مع توقعات المستقبل والتباس الرؤى بين “سوريا تتحرر” و”سوريا أفغانستان الجديدة”، وتراوح المواقف ما بين فريق مؤيد لنظام الحكم الجديد وآخر معارض وثالث متخوف ورابع يشد الرحال للعودة وخامس يستعد للرحيل، وسادس يتهم الغرب بازدواجية المعايير بين أمس مندد بالجماعات الجهادية والسلفية والإسلامية وحاضر مؤيد ومستعل لمد الأيدي وربما ما هو أكثر، وسابع شاكر للغرب حسن تعاونه وجميل صنعه، والأثير فاتح أبوابه لكل الأطياف على اختلافها وذلك بصفة موقتة.
المتوقع أن يظل الأثير مفتوحاً حتى تتجلى ملامح “التعاون” بين النظام الجديد في سوريا أو ما ستؤول إليه الأوضاع داخل سوريا من جهة وبين الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، فإن جرى الاتفاق وساد الوئام وعم التفاهم فسينعكس ذلك على رحابة الأثير وسعة صدره في التعامل مع فريق من الجماعات الدينية المسلحة باعتبارها كيانات سياسية تتمتع بحق التعبير والمشاركة والحكم.
أما إذا حدث العكس وأتت سفن الاتفاقات وإرساء الأسس وتوزيع المهام الأولية بما لا تشتهيه القوى الكبرى أو بما لا يتناسب وتصورها لسوريا والمنطقة، فسينعكس ذلك أيضاً ضيقاً لسعة صدر المنصات وتقييداً لكل ما يتعلق بسوريا ما بعد سقوط النظام، ونشاطاً لتقنيات وأدوات المنع والحجب والتقييد. وستزدهر حركة الـ”شادو بان” الذراع القمعية لمنصات “السوشيال ميديا” والتي يجري استخدامها خلسة لحجب المحتوى الذي تعتبره منافياً أو مناقضاً لقواعدها، التي تقول إن الغرض منها درء خطر الإرهاب ومنع الإرهابيين من بث سمومهم عبر أثيرها.
ووارد أن يجري استخدام تقنيات مثل “شادو بان” في كلا السيناريوهين المتناقضين، إذ يمكن استخدامها لحجب المحتوى الذي يحذر من نظام الحكم في سوريا ما بعد سقوط الأسد، باعتباره محتوى يناهض الديمقراطية ويفرض سطوته على اختيار الغالبية.
وعلى رغم ما تبدو عليه المرحلة الانتقالية في “السوشيال ميديا” من تناقض انتظاراً لما ستسفر عنه الأيام القليلة المقبلة من تواؤم المجتمع الدولي وتصالحه وإضفاء صفة الملائكية واعترافه بـ”هيئة تحرير الشام” قوة وطنية تتحدث باسم سوريا، أو تنافر وعداوة وشيطنة الهيئة، فإن القاعدة العريضة من مستخدمي “السوشيال ميديا” اجتازت مرحلة الدهشة أو الصدمة.
يلوح بعض الخبثاء إلى أنه خلال العام الماضي وتحديداً منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 واندلاع حرب القطاع وما تبعها من مجريات، اعتاد كثر مبدأ المعايير المزدوجة في تفنيد المقاومة ووصف الإرهاب وشرح الإبادة وتداخل خطوط الدفاع عن النفس والقضاء على الآخرين، لذلك لا تبدو المرحلة الانتقالية عبر الأثير بضبابيتها ومعرفة شبه يقينية بأن تحديد القواعد الجديدة ينتظر قرارات الساسة ونصوص الاتفاقات والتسويات والتفاهمات الجارية خلف الأبواب المغلقة.
نشوة سقوط الأسد وشهوة فتح صفحة جديدة طال انتظارها وبهجة تحطيم التماثيل وتصوير السجون وتعرية سوءات نظام سقط، تطغى على الاهتمام بتطويع استخدامات الذكاء الاصطناعي وتكهنات المعايير المجتمعية الجديدة وقيود التدوين والتغريد بعد التعديل، والخطوط الفاصلة المحدثة بين الإرهاب والإرهابيين من جهة والسياسة والساسة من جهة أخرى.
الخوارزميات ليست أبدية
ولأن الخوارزميات والروبوتات وتحليل المحتوى والخروج بكلمات دالة وعبارات مفتاحية أدوات تقنية يجري توجيهها بحسب المطلوب، فإن تغيير عقيدتها أو تغيير طبيعة أو توجه المحتوى المراد رصده أمر سهل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الخطوات التقنية والإجرائية الكبيرة التي شهدتها منصات “السوشيال ميديا” وغيرها من المحتوى على شبكة الإنترنت خلال الأعوام القليلة الماضية لتقفي أثر المحتوى “الإرهابي” أو الذي “يحض على الإرهاب”، جاء مدفوعاً بقوانين ولوائح وضعتها دول وكيانات سياسية مثل الاتحاد الأوروبي، ومنها إلزام هذه الشركات بإزالة “المحتوى الإرهابي” حال تلقي أمر بذلك من إحدى السلطات الوطنية المتخصصة تحت مظلة الاتحاد الأوروبي، وذلك خلال ساعة زمنية.
وهذه القوانين ليست أبدية أو جامدة بل قابلة للتعديل والتغيير ومعها تتغير قواعد الحجب ودوافع الإزالة، والخوارزميات التي تم “تدريبها” لتتمكن من تتبع ورصد وتحديد المحتوى الذي ربما يتصل بالإرهاب أو يحض عليه ولو بصورة غير مباشرة، يمكن تعديل تدريبها وإعادة توجيهه في مسارات مختلفة.
يشار إلى أن كلاً من الخوارزميات وآليات رصد المحتوى المتعلق بالإرهاب من جهة و”الإرهابيين” من جهة أخرى يلعبان لعبة القط والفأر باستمرار، إذ يلجأ “الإرهابيون” إلى استخدام كلمات وعبارات ومعان جديدة أو يستخدمون أخرى قديمة بطريقة ساخرة أو رمزية أو ملتوية لتوصيل أفكار معينة، فيجري تطوير الخوارزميات لتلحق بالتحديث.
وهذا يؤكد أن الخوارزميات تنتظر ما ستسفر عنه قرارات وتوجهات التعاملات الدولية مع الوضع الجديد في سوريا فإما بقيت الخوارزميات على حالها أو وجب تحديثها، بما في ذلك الجزئية المتعلقة بإحالة بعض المحتوى لمراجعة بشرية.المراجعات البشرية التي يجريها موظفون في شركات “السوشيال ميديا” هي الأخرى ليست جامدة أو أبدية، ويفترض أن المراجعين البشريين للمحتوى ليسوا مسيسين، وإن كانوا فإنهم يخلعون أيديولوجياتهم وانحيازاتهم قبل الوصول إلى أجهزتهم، حتى ما كان يسبب للمراجعين البشريين ضغوطاً نفسية وعصبية هائلة من محتوى عنف مرئي أو مسموع أو مكتوب بالأمس القريب، ربما يكون محتوى عادياً غداً بحسب القواعد المجتمعية الجديدة وفي ضوء المجريات السياسية والاستراتيجية المستحدثة داخل سوريا الجديدة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية