في عصر السياسة الوحشية للقوى العظمى كيف يمكن للدول الأصغر أن تجد طريقها للبقاء؟ بالنسبة إلى تايوان الجزيرة المحاصرة في المحيط الهادئ يأتي شريان الحياة من دولة غير ساحلية على بعد نصف العالم، وهي التشيك.

وجدت تايوان وجمهورية التشيك اللتان تعيشان في ظل تأثيرات الصين وروسيا قضية مشتركة حين تشعر القوى الصغيرة بالقلق من تجاهلها أو التغلب عليها من قبل منافسيها الأكبر، ومن بين نحو 200 دولة ومنطقة مستقلة على وجه الأرض، هناك أقل من 10 دول تتمتع بنفوذ عالمي كبير.

وتكتسب هذه القضية إلحاحاً جديداً مع تحول السياسة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس ترمب إلى سياسة أكثر عدائية، في حين يرى عديد في تايبيه أن تدهور العلاقات بين الولايات المتحدة وأوكرانيا يعد بمثابة تحذير في شأن استعداد واشنطن للدفاع عن تايوان في حال غزو الصين، التي تعد الجزيرة ذات الحكم الذاتي جزءاً من أراضيها.

وتسعى الدنمارك التي يضغط عليها ترمب لبيع غرينلاند للحصول على دعم من حلفائها الأوروبيين وغيرهم، وبينما استسلمت كولومبيا لتهديدات ترمب بالرسوم الجمركية ووافقت على قبول المرحلين من الولايات المتحدة، تخشى الفيليبين ودول آسيوية أخرى من تقلص الدعم الأميركي في مواجهة تنامي قوة الصين.

وقال المتخصص التشيكي في الأمن الدولي ومدير أول مركز أبحاث أوروبي في تايوان، وهو “مركز القيم الأوروبية للسياسة الأمنية” يقع في براغ، جاكوب جاندا، لصحيفة “وول ستريت جورنال”، “الأمر يتعلق بكيفية بقاء الدول الصغيرة في هذا العالم المتغير”.

ويقول الدبلوماسيون ورجال الأعمال إن الصداقة بين براغ وتايبيه، التي تشمل التعاون في مجالات الاستخبارات والتجارة والاستثمار، تساعد الجانبين في مواجهة التحديات المشتركة.

وبالنسبة إلى تايوان التي تسعى بكين جاهدة لعزلها دولياً تقدم التشيك رابطاً مهماً مع العالم، على رغم أنه لا توجد علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين. ويقول المسؤولون إن جمهورية التشيك كعضو في الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي تتخذ مبادرات نيابة عن تايبيه أكثر من عديد من أعضاء الاتحاد الأوروبي الآخرين، بخاصة في مجال بناء العلاقات التجارية.

وتوجه التشيك المساعدات الإنسانية التايوانية إلى أوكرانيا في حربها ضد روسيا، بالنظر إلى أن كييف وتايبيه لا تربطهما علاقات دبلوماسية. ويقول الدبلوماسيون إن التشيك هي من أشد المؤيدين لتايوان داخل حلف شمال الأطلسي. وعلى رغم أن حلف شمال الأطلسي يبني روابط مع حلفائه في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، بما في ذلك اليابان وكوريا الجنوبية، وسط مخاوف من الأنشطة الخبيثة للصين في أوروبا، فإنه لا يزال متردداً في التعامل مع تايوان بصورة علنية.

قال رئيس مجلس الأمن القومي التايواني ووزير الخارجية السابق جوزيف وو خلال زيارة إلى براغ، “في كل مرة نحتاج فيها إلى الدعم، تكون جمهورية التشيك دائماً هناك لدعمنا”.

تايوان في مواجهة التحديات الصينية

من جهة أخرى تعد تجربة تايوان في مواجهة التحديات الصينية ذات قيمة كبيرة بالنسبة إلى براغ وجيرانها. وقال نائب وزير الشؤون الرقمية التايواني تشيويه هيرمينغ الذي يشرف على الأمن السيبراني والاتصال والمرونة الرقمية، “كل دولة عضو في حلف شمال الأطلسي قرب روسيا ترغب في التحدث معنا”. وحضر هيرمينغ العام الماضي مؤتمراً في براغ حول حماية كابلات الإنترنت تحت البحر، إذ واجهت تايوان وأوروبا منذ عام 2023 انقطاعات متكررة في تلك الاتصالات، يشتبه في أن عديداً منها كان نتيجة لعمليات تخريب صينية وروسية.

وقال مدير وكالة الأمن السيبراني والمعلومات التشيكية لوكاس كينتر إن فريقه شارك وزارة تشيويه معلومات شاملة حول حملات النفوذ الروسية في أوروبا، التي تدرسها الصين، مضيفاً “يمكننا أن نتعلم من تايوان حول الصين أيضاً”.

وتدرك التشيك أنها لن تصبح الشريك التجاري الأول لتايوان لأن الدولة التي يبلغ عدد سكانها 11 مليون شخص تفتقر إلى القوة الاقتصادية.

وتعد الرحلات الجوية المباشرة إلى براغ التي أطلقتها خطوط الطيران التايوانية عام 2023 من بين أكثر الرحلات نجاحاً، بحسب ما يقول المسؤولون في تايبيه، وتطمح الشركة إلى زيادة تكرار الرحلات.

بكين وشق التحالف الثنائي

عملت بكين على شق هذا الثنائي وهاجمت شراكتهما، لكنها تملك نفوذاً ضئيلاً، إذ حيث تمثل الصين أقل من اثنين في المئة من صادرات التشيك، ومع ذلك تسير براغ بحذر.

وقال مدير وكالة الاستخبارات المضادة التشيكية، ميشال كوديلكا للصحيفة “نحن نعلم أن الصينيين مهتمون بأنشطة تايوان هنا”.

وفي ظل الشيوعية كانت براغ تدعي الأخوة الاشتراكية مع جمهورية الصين الشعبية، وليس مع تايوان. وعندما انهار حلف وارسو عام 1989 وانتخب الكاتب المسرحي المعارض فاتسلاف هافيل رئيساً، كان يدافع عن الأخلاق في العلاقات الدولية، وكان هذا النداء يتجاوب مع انتصار الديمقراطية الظاهر على الشيوعية في موسكو، في توقيت إدانة العالم لقمع بكين في ميدان تيانانمن في العام نفسه.

لكن سرعان ما أصبح هافيل صديقاً علنياً للدالاي لاما، الذي نفيته الصين من موطنه التبت عام 1959، وبشر الرجلان معاً بالسلام، مما أثار غضب بكين. وكانت الروابط التشيكية مع الدالاي لاما تثير غضب الصين على مدى العقود التالية.

وعندما تخلت تايوان في أوائل التسعينيات عن حكمها الاستبدادي المدعوم عسكرياً، أصبح هافيل والتحول التشيكي نموذجاً للرئيس لي تنغ-هوي الذي قاد تحول تايوان نحو الديمقراطية. وبعد انتهاء رئاسة هافيل في 2003، زار لي، مما أثار غضب الصين أكثر.

وبفضل دعم هافيل جزئياً اختارت شركات التكنولوجيا التايوانية جمهورية التشيك كقاعدة أوروبية لها، حتى قبل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي في 2004، وكانت شركة “فوكسكون”، التي تصنع أجهزة الآيفون لشركة “أبل”، وشركات الكمبيوتر مثل “آيسر” و”آسوس”، من أكبر الأسماء في موجة الاستثمارات، لكن الأزمة المالية العالمية والهيمنة الاقتصادية للصين “جعلت الناس يبدأون في الشك في افتراضاتهم” في شأن الرأسمالية الغربية والعلاقات التشيكية التايوانية، مثلما يتذكر مدير المؤسسة البحثية ومقرها براغ، والتي تركز على الصين “سينوبسيس” مارتن هالا.

وفي وسط أوروبا بدأت الصين في بناء الطرق السريعة وخطوط السكك الحديد بشروط تبدو مواتية، وكان المسؤولون في الاتحاد الأوروبي يعربون عن قلقهم من أن بكين كانت تحاول استمالة أحدث وأفقر الأعضاء.

العلاقات بين تايوان والصين

وفي عام 2013 انتخب التشيك رئيساً مؤيداً للصين ميلوش زيمان الذي دعا عام 2016 إلى “إعادة بدء” العلاقات مع بكين واستضاف الزعيم الصيني شي جينبينغ في براغ، وفي الوقت نفسه كانت العلاقات بين تايوان والصين تتطور بصورة منفصلة.

ثم، في تحول مفاجئ، اعتقلت الصين عام 2018 أكبر مستثمر لها في جمهورية التشيك بتهمة الاحتيال، مما ترك عديداً من الشركاء التشيكيين في موقف صعب.

من جهته أغضب عمدة براغ المنتخب حديثاً بكين من خلال تقبله تايوان، حيث عاش هناك في وقت سابق، ومن بين ردود الصين كانت إلغاء وعدها بإرسال دببة باندا إلى حديقة الحيوانات في المدينة، وفي المقابل، عرضت تايبيه على براغ تقديم زوج من البنغولين المهددة بالانقراض.

وقال هالا “إن الحالة التشيكية مع الصين هي مثال نموذجي لما يمكن أن يحدث بصورة خاطئة”.

ومع تدهور آراء التشيك تجاه الصين أكثر خلال جائحة “كوفيد-19” أعاد المشرعون المعارضون إحياء العلاقات مع تايوان، ففي عام 2020، سافر رئيس مجلس الشيوخ التشيكي ميلوش فيستريل إلى تايبيه، وفي خطاب أمام نواب الجزيرة، استشهد بكلمة الرئيس جون أف. كينيدي في برلين عام 1963 وقال بالصينية المندرينية، “أنا تايواني”. وحينها وصف وزير الخارجية الصيني وانغ يي رحلة فيستريل بأنها “إهانة علنية” و”تجاوز للخط الأحمر” الذي سيكون على فيستريل “أن يدفع ثمنه غالياً”.

في عام 2021 أظهرت ليتوانيا خطر التقارب مع تايوان عندما سمحت للدولة السوفياتية السابقة بفتح “مكتب تمثيل تايواني”. ورأت بكين أن هذا الاسم بمثابة اعتراف بتايوان كدولة ذات سيادة، وهو ما تعارضه بشدة. واتهمت ليتوانيا الصين بالانتقام من خلال التمييز ضد صادراتها، ودعت فيلنيوس الاتحاد الأوروبي إلى فتح قضية ضد بكين في منظمة التجارة العالمية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي عام 2023 كانت إحدى أولى خطوات الرئيس التشيكي المنتخب حديثاً بيتار بافيل وهو جنرال متقاعد من الـ”ناتو” هي تلقي مكالمة من رئيسة تايوان، مما أثار إدانات من بكين. وبعد ذلك بفترة قصيرة أرسلت التشيك أكبر وفد تجاري لهم إلى تايوان، برئاسة رئيس البرلمان. وكان من بين المشاركين في الرحلة أيضاً رئيس وكالة الأمن السيبراني كينتر لتعميق الروابط مع نظرائه التايوانيين.

وأبرمت الجامعات العسكرية التايوانية والتشيكية شراكة لإجراء أبحاث مشتركة وتبادل الضباط للتدريب، من بين أنشطة أخرى، مما جعل تايوان أقوى رابط مع مؤسسة تدريب عسكرية أوروبية.

والآن، مع تصاعد الضغوط السياسية في كل من تايوان وجمهورية التشيك، يحتاج البلدان إلى إظهار أن علاقاتهما يمكن أن تحقق المزيد، وفقاً للمحللين. ولا تستفيد الصناعة التكنولوجية العالية من القطاع الزراعي التشيكي الكبير، الذي يسعى إلى مزيد من الصادرات مثلما يقول مارسين جيرزيفسكي الذي يدير مكتب مركز القيم الأوروبية في تايبيه.

وفي هذه الأثناء يعاني التشيك صعوبة في توسيع علاقاتهم مع تايوان إلى دول أوروبية أخرى، التي تظل حذرة من إثارة غضب الصين.

ومن ناحية أخرى أثمرت العلاقة نتائج غير متوقعة، إذ أنجب بنغولا براغ المرسلان من تايبيه توأمين، وهو أمر نادر في الأسر، مما أدى إلى تصفيق في كل من العاصمتين.

نقلاً عن : اندبندنت عربية