الطاولة سواء كانت دائرية أو مستطيلة أو مصنوعة من الخشب أو من أي مادة أخرى، وجدت لجلوس الناس حولها، ولكن حين يوضع الطعام فوقها تصبح مائدة، ويجب أن يكون المجتمعون حولها قد جاؤوا ليأكلوا معاً لتكون مائدة، وإلا كانت طاولة طعام كتلك التي توجد في مطاعم الجامعات أو المؤتمرات أو الأماكن العامة المشتركة. فالمائدة تتطلب الطعام واجتماع داعين ومدعوين حولها، مما يحوّلها من سطح يحمل الطعام إلى سطح يتشارك الناس حوله الأكل لسبب ما، سواء لأنهم من عائلة واحدة يجتمعون حول المائدة في المطبخ أو الصالون أو كانوا أقارب وأصدقاء يزورون بعضهم بعضاً في مناسبات مختلفة، مؤكدين الوئام والوصال بينهم ومحافظين على صلات الألفة والمودة، وسواء كانوا أشخاصاً يتفاوضون لحل نزاع أو إجراء صفقة في مطعم وهو مكان ثالث محايد، أو لإجراء اتفاق سلام لإنهاء حرب عالمية مثلاً، كالمائدة التي جمعت إدارة نيكسون بشخص كيسنجر مع الإدارة السوفياتية في عهد بريجنيف في أول لقاء رسمي وعلني بين العملاقين المتحاربين في الحرب الباردة، وكذلك مائدة الطعام الصينية التي عقدها ماو تسي تونغ على شرف كيسنجر أيضاً في محاولات التقارب الأميركي مع الصين بعد انغلاقها لأعوام كثيرة على نفسها تحت سقف الثورة الحمراء التي قادها ماو. وقال كيسنجر في مذكراته إن أعضاء إدارة بريجنيف تحوّلوا حول مائدة الطعام إلى أشخاص مرحين ومسرورين يكرعون الشراب ويغنون ويرقصون بعدما كانوا جديين وشرسين في المفاوضات على الطاولة نفسها قبل أن تصبح مائدة.

تلغي الفوارق

في قواميس اللغة العربية، تدل كلمة المائدة على هذا المعنى، وهي طاولة يوضع عليها طعام وشراب ويتحلّق حولها المدعوون. أما عبارة “حديث المائدة” في المعجم، فهو “حديث عفوي يجري وقت تناول الطعام”. ويعطي المعجم مثالاً على أهل النفاق وهو “منْ أكل على مائدتين اختنق” كتحذير من النفاق وأهله. أما المائدة المستديرة فهي الطاولة التي لا يكون لأحد الجالسين إليها أسبقية الحديث، فلا بداية للدائرة، وغالباً ما تكون المائدة المستديرة لإجراء مفاوضات، أو لإعلان التساوي بين الجالسين إليها مهما كانت طبقتهم الاجتماعية أو أسبقيتهم في الرتبة أو تصنيفهم داخل شجرة العائلة، فالطاولة المستديرة تلغي الفوارق، وعكسها الطاولة المستطيلة التي أجلس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين زائره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الطرف المقابل والبعيد منها، في دلالات سياسية واضحة، وقد قيل إن هذا الاستقبال أثار امتعاض الرئيس الفرنسي لأنه بدا وكأنه يعرض ما في الكواليس مباشرة إلى العلن من خلال وضعية الجلوس إلى طاولة، ويعكس التباعد لا التقارب بين الدولتين أو بين روسيا وأوروبا في خضم الحرب الأوكرانية، وانتشرت الصور على مواقع التواصل في حينها مع تعليقات لم تستثنِ سخرية أو محاولة تفسير لهذا المشهد.

كل اللغات العالمية مليئة بالتعابير المتعلقة بطاولة الطعام وما يجري فوقها وتحتها أو حين قلبها، فيقال عن القرارات المفاجئة والجذرية إنها “قلبت الطاولة”، كما حصل بعد ترك رئيس النظام السوري السابق بشار الأسد السلطة على حين غرة ومن دون سابق إنذار، واضعاً جميع الذين كانوا حول طاولته، بدعوة أو من دون دعوة، أمام أمر واقع جديد ما زالوا يحاولون استيعابه حتى اليوم عبر المبعوثين والموفدين ووزراء الخارجية الذين يحاولون استكشاف “طاولة” أحمد الشرع الجديدة التي يحاول جعلها رحبة ومستديرة وتستقبل الجميع. وللتعبير عن أهمية الإدماج والاستبعاد، يقال إذا كنت لا تستطيع تحمل الحرارة فـ”اخرج من المطبخ”. وهناك عبارة معروفة عن مجريات الأمور “تحت الطاولة” التي تشير غالباً إلى صفقات سرية أو إلى تعاملات مخالفة للقوانين أو محاولات إخفاء معلومات معينة، والعكس صحيح فما “يجري فوق الطاولة” يدل على الشفافية.

تقاسم الطعام

كان كسر الخبر بين شخصين أو جماعتين أو عائلتين عبر التاريخ دلالة على تحالف أو توافق أو تصالح بعد خلاف. والمثل الشعبي “بيننا خبز وملح” هو نفسه في معظم الثقافات الإنسانية ويدل على المعنى نفسه، أي إن ثمة لحمة وعلاقة وطيدة بين متقاسمي الخبز.

كان تقاسم الطعام من طبق مشترك أو حول طاولة مستديرة الذي يطلق عليه اسم تناول الطعام “على الطريقة العائلية”، يؤدي إلى مفاوضات أفضل وأسرع كما بين تجارب أجراها علماء نفس والاجتماع في الوقت المعاصر، وبيّنت كل التجارب الواقعية لاستكشاف أهمية تشارك الطعام من الطبق نفسه أو حول طاولة، أنه يؤدي مباشرة إلى ألفة ووئام أو نشوء روابط اجتماعية بين المتقاسمين ولو كانوا لا يعرفون بعضهم قبل ذلك أو كانوا من ثقافات مختلفة. فالتأثير الإيجابي في العلاقات الإنسانية هو نفسه في جميع الحالات. وكانت “ولائم المحبة” التي أقامتها التجمعات الأولى للمسيحية المبكرة تعمل على إزالة الحواجز والحذر بين الطبقات الاجتماعية والأعراق الكثيرة، خصوصاً في فترة الإمبراطورية الرومانية الكوزموبوليتية التي كان التمييز فيها وفقاً لمعايير كثيرة سارية في مختلف المستويات الحياتية. وكانت هذه المدن تضم سكاناً من أعراق كثيرة ضمتها الإمبراطورية إلى سيطرتها. فعلى سبيل المثال فرضت روما تنفيذ دليل وضعته للخبازين عام 168 قبل الميلاد بعد تحويل صناعة الخبز إلى اختصاص مستقل عن باقي الأعمال. وتم افتتاح معهد للخبازين كان تلامذته يمنعون من الانسحاب منه والتحول إلى مهنة أخرى. فهم الحرفيون الأحرار الوحيدون في روما، فيما كان عمال الحرف الأخرى كلهم من “العبيد”.

الخبز

وحاز الخبز مكانة كبيرة في الأمثال الشعبية العربية التي جميعها تدل إما على أن الطعام كان سبباً للصلح والوفاق والتقارب أو للاختلاف والتنافر. وكان حين يقال “بيننا خبز وملح”، فإنما المقصود المترتبات الأخلاقية التي يتطلبها اقتسام الطعام كالمساعدة المتبادلة أو رد الجميل للآخر، وسُمّي مصدر الرزق أو العمل “لقمة العيش”، فالباحث عن عمل يعيله كأنه يبحث عن لقمة العيش أي الطعام. وبالطبع فإن مثل “فلان لا يضحك للرغيف السخن” يعني أن هذا الشخص غير اجتماعي أو جدي جداً أو يرفض كل الحلول، ولكن في الشكل إنما يدل على أن الرغيف الخارج من الفرن تواً سبب للفرح والانشراح، ومع ذلك يمكن ألا يؤثر ذلك في نوع معين من الناس، وهم غالباً سلبيون اجتماعياً.

وأخذ الرغيف العربي حقه من الاهتمام الرسمي في أول مؤتمر عربي للرغيف والحبوب الذي عقد في عمان عام 1984 ودرس حماية تصنيع الخبز العربي، وتأمين نوعية مواده الأولية وحمايته من المنافسة. وكانت الاعتبارات في حينه لعقد مثل هذا المؤتمر على مستوى عالٍ، أن اللقمة العربية في الرغيف العربي، ترمز إلى مجموعة من التقاليد الاجتماعية ترتبط بمفهوم المشاركة في مأدبة الطعام. ففي التقاليد المتوارثة يجلس أفراد العائلة والمدعوون حول طبق طعام رئيس يتوسطهم، ويأكل كل منهم من جهته حاجته بواسطة قطعة الخبز العربي أو اللقمة التي تغمس في الطبق وتنوب عن السكين والشوكة الأوروبيين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن عادات شهر رمضان في المجتمعات العربية تكريس لدور الدعوة إلى تناول الطعام في الحفاظ على الروابط الأسرية والمجتمعية والإيمانية، وتشمل كذلك مساعدة المحتاجين والفقراء كفصل من فصول الصيام في هذا الشهر، خصوصاً أن المجتمعات العربية المسلمة طورت خلال القرون الماضية شخصية مميزة لمائدة شهر رمضان، تختلف عن المائدة اليومية خلال الأشهر الأخرى.

التأثير السلبي أيضاً

تشير دراسة في علم النفس نشرت عام 2017 إلى أن تناول الطعام المشترك يعزز الثقة والتعاون لأن الخلايا العصبية تصبح في الحال “المرآتية”، إذ يؤدي تناول الطعام مع الآخرين إلى تقليد تلقائي لسلوكياتهم، مثل الوصول إلى الطعام أو شرب المشروبات في الوقت نفسه، مما ينشط الخلايا العصبية “المرآتية” في الدماغ، وهي الخلايا التي تعزز التعاطف والتفاهم بين الأفراد. ولكن في حالات معينة يؤدي هذا الاشتراك في تناول الطعام إلى نتائج معاكسة، خصوصاً حين تبرز قسمات “الاشمئزاز” على وجوه الضيوف أو المستضيفين. ووصف داروين حال “الاشمئزاز” بأنها “نظام تحفيزي بيولوجي أساسي” وربطه بحاسة التذوق، ورفض الطعام الذي يتم تقديمه، أو ربما عدم استساغة مذاقه، أو الانزعاج من طريقة تناول الطعام مثل إصدار أصوات أثناء الأكل، أو للتعبير عن أن الدعوة إلى تشارك الطعام غير كافية لحل عقد المشكلات العالقة بين الداعين والمدعوين.

نقلاً عن : اندبندنت عربية