كثيراً ما تردد في الـ”سوشيال ميديا” سيل من انتقادات حادة لمستوى الدراما العراقية، مصحوباً بأسئلة عن كيفية تخطيها للمحلية التي استغرقت فيها طويلاً، تلك الانتقادات طاولت “الأداء المتكلف” الذي انتقل من خشبات المسارح إلى أجواء أعمال درامية مختلفة، مع وجود مسلسلات عراقية نفذت إلى عتبات النجاح وإن لم تسوق عربياً، مثلما حصل ويحصل مع أعمال سورية ومصرية ولبنانية تنتشر ويتابعها الجمهور العراقي والعربي في مواسم العروض المعتادة.

من “آه ديكي” إلى “ألو تكسي”

تاريخ الدراما العراقية ضم التماعات عدة بدأت مع “تحت موس الحلاق” الذي ظل في ذاكرة العراقيين وتحولت بعض عباراته إلى لازمة يرددها الناس للفكاهة والتندر، مثلاً جملة “آه ديكي آزكي نحباني للو” التي يذكرها حجي راضي وهو يتهجى رسالة مكتوبة، في إشارة للأميين وغير المتعلمين، والتي يعرفها المتلقي العراقي ويستعين بها حينما يسمع كلاماً غير مفهوم، هذا المسلسل عرض مطلع الستينيات من القرن الماضي بتوظيف واضح لعادات ولهجة أهل بغداد، بعدها دخل الجانب التعبوي على مسار الدراما وإنتاجها الذي لم يستطع الإفلات من المرحلة الشمولية.

بعد أبريل (نيسان) 2003، جاءت الفرصة لطرح عدد من المسلسلات التي نهلت قصصها من خزان المآسي والحروب العراقية، إذ “الفرقة الحزبية” و”الرفيق الحزبي” وموضوعات أخرى عن الهجرة، مع استعادة لشخصيات ثقافية وسياسية وحتى إشكالية فيما اقترفته من جرائم مثل “أبو طبر” (السفاح الذي شاع بهذا الاسم في حقبة السبعينيات من القرن الماضي).

وهناك أعمال كثيرة يرى المتابعون أنها كان من المفترض ألا تعرض وألا تصرف عليها الموازنات، واحد منها المسلسل الكوميدي “ألو تكسي” (إنتاج شبكة الإعلام العراقي 2024)، فمن النادر بعد 2003 أن نجح مسلسل عراقي أنتجته هذه الشبكة والأسباب كثيرة، منها ما يتعلق بكون هذه المؤسسة الرسمية ممولة من المال العام، فمجال الاجتهاد وطرح الإنتاج الجريء يتقاطع والتزامات الحياد المفروضة، غير أن ذلك يبعدها من المنافسة بلا شك، فضلاً عن صعوبة تخطي الشبكة لآليات التسويق التقليدية للأعمال في السوشيال ميديا.

أما الإنتاج الدرامي الآخر، ففي عدد غير قليل منه كانت هناك محاولات لتقديم أعمال جادة وبرسائل مهمة، إلا أن عائق التسويق الصحيح لها بقي قاصراً وعاجزاً عن الوصول المطلوب إلى المتابعين في العراق وخارجه، ونذكر هنا مسلسل “الرصافي” عن سيرة الشاعر معروف الرصافي.

الجنة والنار: نحن هنا وأنتم هناك

إن واحداً من الإشكالات التي تُناقش أن الإعداد للأعمال يأتي مستعجلاً ومضغوطاً بدافع الإنجاز قبيل رمضان، من دون أخذ الوقت اللازم أو التهيئة المطلوبة.

عمل واحد لم يلتفت للسباق الرمضاني هو “الجنة والنار”، مثل دخولاً جديداً للساحة الفنية على مستوى الكلفة الإنتاجية وفريق العمل من خارج قائمة الأسماء المعتاد إسناد البطولة إليها، فضلاً عن الجهة التي تكفلت بعرض المسلسل وكانت خارج نطاق الفضائيات العراقية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مع بدء عرض المسلسل العام الماضي عبر تطبيق المنصة خلال أغسطس (آب) 2024، نشأت حملة مناصرة لمضمون هذه الدراما التي تمحورت حول صراع في بيئة عراقية جنوبية هي الناصرية، وبدأت هذه الحملة بتقريع لماضي الدراما العراقية خلال العقدين الأخيرين واعتيادها على التكرار والتكلف وشيء من مخالفة الواقع وعدم الخوض فيه، سواء عبر اللهجة أو الحوارات وبعض البيئات التي تبدو وكأنها مثالية ولا مثالب فيها، على مستوى منظر الشوارع والمنازل التي تُصور فيها الأعمال.

إن ما يعاب على حملة المناصرة هي انجرارها للنزعة المناطقية في الطرح وبعض المبالغة في تقييم العمل، والتي كانت نتيجة طبيعية لتقاطع الرؤية في العملية الإنتاجية مع اشتراطات الإتقان والاحتراف في مفردات العملية الفنية.

وهنا حدث نوع من الخلخلة في مسار الدراما العراقية، بعد عرض مسلسل “الجنة والنار”، لما أحيط بتأييد وترويج لمضمونه في منصات التواصل، إذ صفحات ومدونون يشيرون لاختلافه وقطيعته مع تاريخ كامل من دراما عراقية لم تؤثر بهم.

وبالمتابعة والتقييم المتأني لمضمون المسلسل نجد أن بيئته تتعارض والأجواء المخملية والمعلبة التي عودتنا عليها كثير من الإنتاجات الدرامية.

حملة المناصرة تحولت مع عرض المسلسل إلى حملة دفاع وهجوم في الوقت نفسه ومن قبل القائمين عليه، دفاع عن “دراما جديدة” ترفض القديم، وهجوم على واقع الشللية في بغداد التي لا تتفاعل مع الوافد إليها، وإن بطرح بدا وكأنه ثأري يحمل نفساً مناطقياً في المحاججة.

أكثر ما حاول المسلسل التعبير عنه، هو الإفصاح عن مركزية جديدة لـ”الناصرية” وبيئتها، وسط مركزيات سياسية ودينية مستحدثة في الجغرافية العراقية من التي فرضت نفسها خلال العقدين الأخيرين، مركزية الناصرية جنوبية معبأة بذاكرة سوداء من الإبعاد القديم واللهجة المشخصة في عاصمة تذوب عادات وطباع ولهجات غالب القادمين إليها.

 

لكن المبشرين بالمسلسل بدأوا من حيث ما واجهوه هم من إقصاء سابق، حينما جرى التلويح بأن عملهم هو الذي يمثل الدراما لا غيرها، مما ضيق على أية مراجعة مقبلة تريد أن تناقش الحسنات والهنات في هذا العمل.

هذا وقت مناسب لعمل جردة سريعة لما بعد هدوء هبة الإشادة وفيوض الفزعة التي أحيطت ببث حلقات مسلسل “الجنة والنار”، بما حمله من جديد في توظيف الحوار اليومي المعتاد في الجنوب، إذ طبيعة الإيمان السائدة هناك والبيئة المجردة من أية فخامة مصطنعة، لكنها كانت بيئة أحادية في إظهارها للجو العشائري الخانق والأفق الاجتماعي المغلق الذي ليس فيه تلك المسرات والمباهج التي نعرفها في المدن ذات الحياة الصاخبة والمتجددة.

السواد وسم أزياء الأبطال وحواراتهم في التعبير عن حزن طوق المكان وظهر أن هذا هو كل شيء هناك، وظهرت في العمل جملة من النواقص، على مستوى الخلل في الإضاءة والصوت، والاستطالات الزائدة في بعض الحوارات والمشاهد، مع مشكلات إخراجية واضحة.

حدث الشيء نفسه مع مسلسل “رأس الهرم”، إذ لم ينتظر سباق رمضان وفروض الإنتاج فيه، ليعرض أواخر العام الماضي.

رمضان 2025: هيا لننتج وفق الموازنات

ومع بدء الإعداد للموسم الرمضاني تعاد الآليات نفسها، كلام عن موسم رمضاني جديد خاضع لضرورات توفير مسلسل، من دون نقاش عام عن وسائل التجديد وبيئات التصوير المغايرة ومراجعة الأداء الذي لم يعد مفاجئاً للمتلقي الناقد للتكرار.

ومن متابعة خريطة الإعلانات عن الأعمال الدرامية لموسم رمضان 2025، نرى أنها تتوزع بين قناة Utv التي أنتجت “عفو عام” و”مالك” و”قط أحمر 5″، وقناة العراقية الرسمية التي أنتجت أعمالها ضمن مبادرة دعم رئاسة الوزراء للدراما، فكانت مسلسلاتها “الأم طليعة” و”أولاد جابر” و”النقيب” و”دار المنسيين” و”غسان ومينا”، و”ياقوت” و”قطار الموت”.

أما فضائية “عراق الحدث”، فإنها ستقدم “بيت الطين” الجزء الخامس، وستعرض دجلة “سحر أسود” وسيكون متابعو الرابعة مع مسلسل “العشرين”.

 

باقة من المسلسلات ستكون عبر شاشة قناة MBC العراق هي “ابن الباشا” و”زهرة عمري”، في حين ستبث قناة الشرقية مسلسلات “ميليشيات نسائية” و”الجنة” و”كمامات وطن” و”لم شمل”، بينما سيكون متابعو منصة “عربيو” مع مسلسل “فضاء داخلي”.

أن يربح المنتج أولاً

الفنانة آلاء حسين بطلة مسلسل “العشرين”، وهو من نصوص “غرفة الكتابة” التي تشكلت بعد عرض “الجنة والنار”، ذكرت في حديث خاص لـ”اندبندنت عربية” أن “ضعف اختيار الممثلين يقع على عاتق المنتج المنفذ بسبب موضوع الأجور، فحتى هذه الحملة التي سوقت على أنها توجه نحو الجيل الجديد والوجوه الشابة التي يتم نسيانها بعد عام، هي من أجل جلب ممثلين جدد بأجور أقل، فهذه حملة وهمية عنوانها (يكفي تكرار الوجوه نفسها) التي ربما تعني ممثلين بعينهم مثل قاسم الملاك وإياد راضي، وهم لم يذهبوا للبحث عن ممثلين في معهد وكلية الفنون الجميلة، إنما لجأوا إلى مواقع التواصل و’تيك توك‘ والبرامج الركيكة”.

حسين لخصت وضع الإنتاج الدرامي بأن” الهم الرئيس هو طموح المنتج المنفذ في الاستفادة، فكلما كان طموحه بتحقيق عائد أكبر قلت قيمة العمل وكان عادياً، بحسب معيار النجوم الموجودين والمشاهد التي تحتاج إلى صرف”.

الأهم وفق آلاء حسين، هو “شراء نص يناسب طموحات المنتج المادية، لذا الأولوية للنص ذي السعر الزهيد وهذا ما يهبط بتفاصيل العملية الفنية كلها من تصوير ومستوى مشاركات”، بينما من ينتج أعمالاً على حسابه، لن تشتريها إدارات الفضائيات.

بطلة مسلسل “العشرين” تصوب نحو المحطات الفضائية التي تعتقد أنها السبب الرئيس لضعف أي عمل درامي في العراق خلال العقدين الأخيرين، ومعها المنتج المنفذ لأن “ما يحصل حالياً هو تنفيذ لعمل درامي من دون وجود سوق، فقط لسد فراغ ساعات من رمضان تعرض فيها دراما، القناة تغبن حق المنتج المنفذ والمنتج يغبن حق الممثل، وفي النهاية الغالبية تبحث عن العائد المادي والربح هو الغالب على طموحات المنتجين، وليس مستوى العمل”.

الجمهور يتضاءل

غرفة الكتابة هي تشكيل يضم مجموعة من الكتاب المهتمين بالإنتاج الدرامي، تجمعوا عقب احتجاجات أكتوبر (تشرين الأول) 2019 تحت هذا العنوان في ورشة يشرف عليها الكاتب مصطفى الركابي، بعد ظهور ورشة التأليف الخاصة بفريق برنامج “ولاية بطيخ” 2016 الذي توقف عن برنامجه هذا وتوجه للدراما.

“ليس من المبكر وحسب، التبشير بدراما عراقية جديدة، بل إنه مستحيل وفق الآليات الاشتغالية التي تسلكها الدراما وصانعوها حالياً، فالمسلسلات العراقية للاستهلاك المحلي فقط وسنة بعد أخرى يتضاءل جمهورها المحلي أيضاً بعد أن هجرها الجيل الجديد نحو الدراما الكورية والعالمية”، هذا الرأي للكاتب كاروان الكوره جي يأتي ضمن سياق تعليقه على إغراق الـ”سوشيال ميديا” بملصقات المسلسلات العراقية الجديدة في رمضان.

وفق الكوره جي فإن “من البدهي حاجة الفن إلى سوق، فهو صناعة تحتاج إلى عرض بضاعتها لتحقق الأرباح، السوق غير موجودة والصناعة أيضاً، فالنتاج الوحيد المتوافر هو من القنوات الخاصة وفق ما يخدم رسالتها وتوجهها وبحسب ما هو متوافر من موازنة لها من دون التفكير بالربحية، إضافة إلى ما تنتجه قناة الدولة الرسمية بين الحين والآخر بالأموال التي تمنح لها كمبادرات أو منح غير قابلة للاسترداد أيضاً”.

هذا الموسم لم يخل من تفجر بعض المشكلات والاتهامات بالابتزاز بين ممثلة ومخرج مسلسل “عفو عام”، بحيث وصلت الأصداء إلى الرأي العام وتفاقمت ردود الفعل بمنحى سلبي له ارتداداته على مجمل الوسط الفني.

أزمة مخرجين لا ممثلين

المخرج والممثل مهند حيال، لم يبتعد في تقييمه للدراما العراقية من رؤية الكوره جي، فهو لا يتوقع أن يحمل الموسم الدرامي هذا العام مفاجآت حقيقية، والسبب برأيه أن “الأعمال الرمضانية تنتج ضمن نظام إنتاجي مضبوط بزمن وموازنة، إذ تكتب على عجالة وتصور وتمنتج خلال فترة قصيرة، مما يجعل من المستحيل تحقيق قفزة نوعية أو تقديم رؤية فنية مختلفة في موسم رمضاني يخضع لسياق إنتاجي استهلاكي”.

حيال يختلف مع الذين يلقون باللوم على الممثل العراقي فقط واختزال مشكلة الدراما المحلية في أدائه، فهو “يمتلك ميزة نادرة، وهي الخلفية المسرحية التي تمنحه أدوات قوية قادرة على خلق أداءات غنية ومعقدة، لكن المشكلة أنه لا يمنح المساحة الكافية لاستثمار هذه الأدوات”.

 

ويواصل المخرج والممثل الدفاع عن زملائه، قائلاً إن “كثيراً من الأداءات التي توصف بالمبالغة أو الـoveracting ليست بالضرورة خللاً في الممثل، بل نتيجة طبيعية لغياب الوقت الكافي لدراسة الشخصيات، ولعدم وجود مخرجين يمتلكون القدرة على إدارة الممثل وتوجيهه لاستخراج أداء متزن وعميق”.

حيال يوجز مشكلة الدراما العراقية بأنها “تعاني أزمة في المخرجين أكثر مما تعاني أزمة ممثلين. وغالب المخرجين الذين يمنحون الفرصة اليوم لا يمتلكون رؤية سينمائية حقيقية، ولا خلفية ثقافية تؤهلهم لصناعة أعمال تحمل بصمة واضحة. ولا يمكن لمخرج يفتقد للعمق أن يخرج أداء مغامراً من ممثليه”، فكثير منهم في رأيه “ظهروا بفعل ظرف استثنائي، وليس لأنهم خاضوا رحلة فنية حقيقية. والأزمة هنا ليست وليدة اليوم، فمنذ التسعينيات مروراً بما بعد 2003 نحن نعيش في ظروف أنتجت مخرجين طارئين، دخلوا المجال دون أن يكونوا جزءاً من عملية تراكمية حقيقية”.

صاحب فيلمي (عيد ميلاد سعيد) و(شارع حيفا) وبطل مسلسلي (بغداد الجديدة) و(الجنة والنار)، يشير إلى “حاجة الدراما إلى وعي بالزمن وبالصورة وبالحركة، وبكيفية خلق تجربة تنبض بالحياة. وهذا ما نفتقده اليوم لأن من يمسك بزمام العملية الإبداعية ليسوا صناع رؤى، بل منفذي أعمال. لذلك، لا أعتقد أن هناك مفاجآت قادمة ما دامت المنظومة نفسها لم تتغير”.

طارئون صاروا أبطالاً

عانت الدراما خلال الأعوام الأخيرة من دخول طارئين على العملية الفنية، جاؤوا من منصات الـ”سوشيال ميديا” مثل “البلوغرز” وبعض “الأنفلونسرز” إلى عالم التمثيل مع إسناد أدوار رئيسة لهم، وهذا ما دفع بفنانين معروفين إلى رفع أصواتهم رفضاً لمثل هذا التكريس الذي تكرر في أكثر من موسم رمضاني.

نقلاً عن : اندبندنت عربية