بينما يتجه الألمان نحو عام يكتنفه القلق، تذكرت حدثاً وقع قبل عقد من الزمان وبدا لي عندها أنه كان سخيفاً، ولكنه يجعلني الآن مدهوشاً بحق من دقته في التنبؤ بما سيأتي.
كنت أترأس مؤتمراً حول الإنترنت في برلين، برعاية “غوغل” عندما اقترحت إحدى المشاركات أن تنشئ الحكومة الألمانية شركة إنترنت عامة. قالت بجدية إن وادي السيليكون هو حكر على الأثرياء الأميركيين ولا يمكن الوثوق به في قول الحقيقة أو الحفاظ على الديمقراطية.
لقد سخرت من الفكرة، على رغم أنني كنت مهذباً إلى درجة منعتني من قول رأي هذا صراحة. نصف التحليل الذي قدمته، كان ولا يزال، غريباً وسخيفاً للغاية. إن فكرة الاعتماد على الدولة لتوفير منصة على الإنترنت من أجل التعليق والمعلومات، في بلد غوبلز وشتازي، كانت مبالغاً فيها. ولكن يجب أن أعترف بأن المتحدثة تنبأت بالخباثة التي قد يبديها أمثال إيلون ماسك قبل وقت طويل من توقعي أنا أو أي شخص أعرفه ذلك.
إن ماسك يضرب السياسة في ألمانيا بمطرقة ثقيلة، في أكثر لحظات البلاد حساسية، وهو يتلذذ بالخوف الذي يذكيه. وكلما أصبحت إهاناته أكثر تنوعاً (التي يوجهها عبر “إكس”، المنصة التي تعد [أشبه بـ] إقطاعيته الشخصية)، ازداد غضب الطبقة السياسية. وهذا هو هدفه وهدف رئيسه دونالد ترمب.
وهل هناك مكان أفضل لتقويض الديمقراطية من بلد مهووس باحترام الدستور؟
وصف ماسك المستشار أولاف شولتز بأنه “أحمق غير كفء”. وفي منشور آخر، أطلق عليه “أولاف الوسخ”. ووزع الإدانات على الأحزاب الرئيسة الأخرى كافة. ولكن هجومه الأخير على فرانك فالتر شتاينماير رئيس الدولة، كان هو الذي تسبب بالقسط الأكبر من الإساءة، إذ وصف الوصي المفترض على الديمقراطية بأنه “طاغية مناهض للديمقراطية”.
من الناحية النظرية، لديهم جميعاً الحق في مقاضاته. فالقانون الألماني يوازن بين حرية التعبير والحق في عدم التعرض للإهانة في العلن. ويحتوي القانون الجنائي على فئة كاملة من “جرائم الشرف”، التي تتضمن الإهانات والتشهير والقذف ونشر البيانات الكاذبة التي تسبب الأذى والخسائر المالية أو الضيق من الناحية العاطفية.
وكل هذا من شأنه أن يخدم مصالح ماسك ومعركته المزعومة من أجل “حرية التعبير”. وفي كل الأحوال، فإن أية غرامة لن تخلف سوى ثغرة صغيرة للغاية في جيبه.
والأمر الأكثر خطورة هو دعم ماسك العلني لـ “حزب البديل من أجل ألمانيا” وهو حزب يميني متطرف. مع تصدر الحزب المرتبة الثانية في استطلاعات الرأي قبل الانتخابات العامة المقررة خلال الـ23 من فبراير (شباط)، فإن تأييد ماسك، على صفحات صحيفة “فيلت أم سونتاغ” المحافظة المحترمة عادة، لـ “حزب البديل من أجل ألمانيا” وكل ما يمثله، أي إعادة المهاجرين [إلى أوطانهم من جديد] والقومية القائمة على العرق وكراهية أوروبا، هو أمر بالغ الأهمية. ليس بسبب فطنة ماسك السياسية، ولكن بسبب سيطرته على وسائل التواصل الاجتماعي.
إن لدى أغنى رجل في العالم أجندته السياسية والاقتصادية التي تتعلق بألمانيا. في تعليق له في الصحيفة قبل بضعة أيام، أشاد ماسك بـ “حزب البديل من أجل ألمانيا” بسبب خططه الرامية “للحد من الإفراط في التنظيم الحكومي وخفض الضرائب وتحرير السوق”. وللعلم، مصنع “تسلا” في منطقة براندنبورغ، شرق برلين، هو أول مصنع للسيارات الكهربائية له في أوروبا وسيستفيد من أية إجراءات لتخفيف التنظيمات.
وكتب ماسك في مقاله المترجم قائلاً إن “البديل من أجل ألمانيا هو بارقة الأمل الأخيرة لهذا البلد”.
وتابع أن هذا الحزب اليميني المتطرف “يستطيع أن يقود البلاد إلى مستقبل لا يكون فيه الرخاء الاقتصادي والنزاهة الثقافية والابتكار التكنولوجي مجرد أمنيات، بل حقيقة”.
وسرعان ما أدى تعليق ماسك إلى استقالة محررة الرأي في الصحيفة، إيفا ماري كوجل. أما لارس كلينغبيل رئيس “الحزب الديمقراطي الاشتراكي” الذي ينتمي إليه شولتز، وهو حزب يتخلف كثيراً عن منافسيه إذ يأتي في المركز الثالث [بحسب استطلاعات الرأي]، فقد اتهم ماسك بالرغبة في “إغراق ألمانيا في الفوضى”. وإذ عقد مقارنة بينه وفلاديمير بوتين، قال كلينغبيل إن “كلاً منهما يريد أن يؤثر في انتخاباتنا ويدعم أعداء الديمقراطية في حزب البديل من أجل ألمانيا على وجه التحديد”.
إن السيناريو الذي يدعو إلى قدر أقل من التفاؤل فيتمثل في أن ماسك يستغل الإحباط الكامن في الديمقراطية الليبرالية في ألمانيا، تماماً كما يفعل هو وترمب في المملكة المتحدة
انتقد كل من شولتز وفريدريش ميرتس زعيم “الحزب الديمقراطي المسيحي” (CDU) والرجل الأكثر احتمالاً لخلافته في منصب المستشار، ماسك. لكنهما اختارا كلماتهما بعناية. وقال شولتز في خطابه بمناسبة العام الجديد “أنتم، المواطنون، من يقرر ما يحدث في ألمانيا. الأمر ليس بيد مالكي وسائل التواصل الاجتماعي”.
إلا أن النبرات المتوازنة التي يتحدثون بها تخفي وراءها شعوراً متنامياً بالانزعاج. فقد أظهر الهجوم الإرهابي على سوق عيد الميلاد في ماغديبورغ أن ثمة ضعف مستمر في مواجهة مثل هذه الحوادث، على رغم أن أحداً لا يتمتع بالحصانة حيال حوادث من هذا النوع، ويشهد على ذلك أحدث الهجمات التي شهدتها مدينة نيو أورليانز. وفتحت هذه الضربة الباب أمام مزيد من التنديد بالمهاجرين، و”الآخرين”.
وألمانيا، من بين جميع البلدان تعرف إلى أين يمكن أن يؤدي هذا العداء.
ربما ارتفعت أسهم “حزب البديل من أجل ألمانيا” بنسبة مئوية واحدة أو نحو ذلك، ولكنه لا تزال نسبة شعبيته 20 في المئة وهذا لا يقلل من أهمية [هذا الرواج] كإنجاز لافت للنظر. ويبقى حزب “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” متقدماً [على البقية] بنسبة 30 في المئة، في حين يعاني “الحزب الاشتراكي الديمقراطي” و”الخضر” وغيرهما من الأحزاب تراجعاً واضحاً…
ولا يزال “جدار الحماية” المتفق عليه بين الأحزاب الرئيسة قائماً، مما يضمن عدم التعاون أو المناقشات الائتلافية مع حزب البديل من أجل ألمانيا أو غيره من الجماعات المتطرفة على المستوى الوطني، وإن كان ذلك الجدار بدأ يتآكل على المستوى المحلي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
السيناريو المتفائل هو أن الناخبين الألمان ليسوا على استعداد لقبول ما يقوله لهم رواد الأعمال الأميركيون مما كانوا عليه قبل عقد من الزمن وما يجب عليهم فعله وأن تودد ماسك إلى حزب البديل من أجل ألمانيا لن يحدث فارقاً كبيراً. وتظل النتيجة الانتخابية المرجحة أكثر من غيرها هي “ائتلاف ميرتس” – “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” مع “الحزب الديمقراطي الاشتراكي” أو “الخضر” أو كليهما.
أما السيناريو الذي يدعو إلى قدر أقل من التفاؤل فيتمثل في استغلال ماسك الإحباط الكامن في الديمقراطية الليبرالية في ألمانيا، تماماً كما يفعل هو وترمب في المملكة المتحدة، من خلال دعمهما لنايجل فاراج، وكذلك دعمهما في فرنسا لمارين لوبان.
إن الألمان يشعرون سلفاً بالرعب من احتمال تنصيب ترمب في غضون أسبوعين. السؤال إذاً، هو إلى أي مدى قد يكون الرئيس الـ47 للولايات المتحدة، وهو اللقب الذي كان يوصف في السابق بأنه “زعيم العالم الحر”، مستعداً للذهاب لتقويض الديمقراطية في البلاد التي تعرف أفضل من أية دولة أخرى ما يمكن أن تجلبه الديكتاتورية اليمينية المتطرفة؟
وباعتبار أن الحملات الانتخابية في ألمانيا تميل إلى إثارة المفاجآت الغريبة، فهناك متسع من الوقت أمام ماسك وأمثاله لإلحاق الضرر بالديمقراطية الليبرالية التي بُنيت على مدى العقود الثمانية الماضية بشق الأنفس.
نقلاً عن : اندبندنت عربية