التنبؤ بسياسة إدارة ترمب القادمة تجاه الصين، ورد فعل بكين المحتمل، أشبه بلعبة تخمين. ففي ولايته الرئاسية الأولى كان النهج المعاملاتي [القائم على عقد الصفقات] الذي تبناه دونالد ترمب يختلف غالباً عن النهج التنافسي الذي انتهجه فريقه. وهذه التوجهات المتباينة سوف تحدد ملامح ولايته الثانية. ولكن على الرغم من حالة الضبابية وعدم اليقين المحيطة بنهج إدارة ترمب، فإن التحدي الأساسي الذي تواجهه واضح وهو يتمثل في وضع الولايات المتحدة في موقع يسمح لها بالتفوق على الصين في وقت بدأت فيه نافذة المنافسة الحرجة تضيق.
مع بداية إدارة بايدن، اجتمع كبار المسؤولين، واطلعوا على التقارير الاستخباراتية، وخلصوا إلى أن عقد العشرينيات من القرن الحالي سيكون العقد الحاسم في المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، وأن الولايات المتحدة، في حال عدم اتخاذ إجراءات تصحيحية، معرضة لمواجهة خطر متزايد يتمثل في التفوق الصيني عليها من الناحية التكنولوجية، والاعتماد الأميركي على الصين اقتصادياً، وهزيمة الولايات المتحدة عسكرياً في بحر الصين الجنوبي أو مضيق تايوان.
وسيضطلع فريق ترمب الجديد بمهمة توجيه الولايات المتحدة خلال النصف الثاني من هذا العقد الحاسم. وهناك أمور كثيرة يجب القيام بها. إن الأشخاص الذين عينهم ترمب في فريق الأمن القومي، من بينهم مايك والتز مستشاراً للأمن القومي، وماركو روبيو وزيراً للخارجية، وإليز ستيفانيك سفيرة لدى الأمم المتحدة، يدركون بوضوح التحديات المقبلة وتنسجم رؤاهم مع التوافق الحزبي المتزايد في شأن ضرورة التفوق على الصين. لكن العقبة الكبرى أمام تنفيذهم نهجاً تنافسياً قد تكون ميل ترمب نفسه إلى عقد الصفقات، ونهجه القائم على المعاملات، وإعجابه بالرئيس الصيني شي جينبينغ، مما قد يقوض في بعض الأحيان النهج الأكثر صرامة الذي يتبعه فريقه، بما في ذلك تشديد ضوابط التصدير والدفاع الصريح عن حقوق الإنسان من بين تدابير أخرى اتُخذت في ولايته الأولى.
إذا تمكن فريق ترمب الجديد من التغلب على هذا التحدي، فستتاح له فرصة تحسين موقع أميركا التنافسي. وقد يتطلب سد الفجوة خلال العقد الحاسم الانطلاق من إنجازات الرئيس جو بايدن والاستفادة منها، تماماً مثلما استفاد فريق بايدن من أعمال إدارة ترمب. لقد ركزت إدارة بايدن على إعادة بناء القوة الأميركية من خلال التركيز على أسسها في الداخل والعلاقات مع الشركاء في الخارج، وهو نهج لُخص في شعارها المعروف “الاستثمار، وتنسيق الجهود، والتنافس”. يمكن لهذه الصيغة أن تخدم أيضاً في تحقيق رؤية إدارة ترمب “السلام من خلال القوة”. لكن إعادة بناء قوة أميركا ستتطلب أيضاً جهوداً جديدة من إدارة ترمب تعتمد على دعم كلا الحزبين في الكونغرس وتأييد الشعب الأميركي.
القوة تبدأ من الداخل
بعض الأسئلة الأكثر إلحاحاً حول سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين تتمحور حول السياسة الداخلية، التي تشكل ركيزة القوة الأميركية. بيد أن أسس هذه القوة تدهورت، وخصوصاً منذ نهاية الحرب الباردة. وسوف تحتاج الإدارة إلى إجراء إصلاحات هيكلية كبيرة لمعالجة نقاط الضعف هذه.
في الواقع، تحتاج الولايات المتحدة إلى إصلاح قاعدتها الصناعية الدفاعية لردع الصين بسرعة، وإذا لزم الأمر، هزيمتها في صراع محتمل. في الوقت الحاضر، سوف تستهلك الولايات المتحدة كل ذخائرها في غضون أسبوع من القتال المستمر وسوف تجد صعوبة في إعادة بناء السفن بعد غرقها، إذ إن قدرتها على بناء السفن الوطنية لا تتجاوز قدرة حوض واحد من أكبر أحواض بناء السفن في الصين. ويتعين على إدارة ترمب أن تركز على إحراز تقدم في جدولين زمنيين: مشكلة العامين المتمثلة في نشر مزيد من الأنظمة غير المأهولة والصواريخ الباليستية وصواريخ كروز في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فضلاً عن مشكلة الخمسة إلى 10 أعوام المتعلقة بإحياء صناعة بناء السفن في الولايات المتحدة، التي شهدت انحداراً لعقود من الزمن بسبب غياب قطاع تجاري فعال يدعم استمراريتها.
تحتاج واشنطن أيضاً إلى حماية بنيتها التحتية الحيوية من الهجمات الإلكترونية. سبق أن اخترقت الصين البنية التحتية الحيوية للولايات المتحدة التي يعتمد عليها ملايين الأميركيين، بما في ذلك أنظمة المياه والغاز والنقل والاتصالات، بهدف إثارة الفوضى، ونشر الذعر، والحد من الإرادة الأميركية في سيناريو الصراع. ومع استثمارها في القدرات الهجومية، سيكون على إدارة ترمب أيضاً تعزيز الدفاعات الأميركية من خلال مجموعة من التدابير التنظيمية، والتشريعات الجديدة التي تحاسب الشركات إذا كانت دفاعاتها الإلكترونية ضعيفة، والجهود التقنية المبتكرة التي يمكن أن تصعب على الجهات السيئة اختراق الشبكات الأميركية.
تحتاج الولايات المتحدة إلى إصلاح قاعدتها الصناعية الدفاعية لردع الصين بسرعة، وإذا لزم الأمر، هزيمتها في صراع محتمل
وأخيراً، تحتاج الولايات المتحدة إلى الاستثمار في إعادة التصنيع والقيادة التكنولوجية. في الحقيقة، تمثل الصين بالفعل أكثر من 30 في المئة من التصنيع العالمي، ويمكنها الابتكار بنجاح، وتتصدر بشكل متزايد القطاعات المستقبلية، وتعيد توجيه كميات هائلة من رأس المال نحو التصنيع مع ركود [تباطؤ] سوق الإسكان لديها. والنتيجة هي أن “صدمة صينية” ثانية تشبه تلك التي أغرقت الأسواق الأميركية بالسلع الصينية الرخيصة في بداية هذا القرن، ستهدد مستقبل الولايات المتحدة كقوة صناعية وتجعل اعتمادها على الصين أكبر من اعتماد الصين عليها. إن معالجة هذه المشكلة لن تتطلب تعريفات جمركية فحسب، بل أيضاً سياسات صناعية لتحفيز التصنيع والصناعات العالية التقنية والتنسيق مع الحلفاء والشركاء. والتدابير العقابية التي تستهدف الحلفاء، مثل الرسوم الجمركية، من شأنها أن تجعل من الصعب على الولايات المتحدة إشراكهم في الجهود الرامية إلى مواجهة فائض القدرات الإنتاجية الصينية.
ومن أجل تنفيذ هذه الأجندة الداخلية، لا تستطيع إدارة ترمب الاعتماد على سلطات الفرع التنفيذي فحسب، بل ستحتاج أيضاً إلى دعم كبير من الحزبين في الكونغرس. وقد اتبعت إدارة بايدن هذا النهج في بعض المبادرات المحلية الرئيسة، مثل مشروع قانون البنية التحتية و”قانون الرقائق والعلوم” CHIPS and Science Act، ويمكن لإدارة ترمب أن تحذو حذوها.
وسوف تحتاج إدارة ترمب أيضاً إلى تعبئة الرأي العام الأميركي. فمنذ هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001، ألقى كل رئيس أميركي خطاباً متلفزاً في وقت الذروة من المكتب البيضاوي حول بعض القضايا المتعلقة بسياسات الشرق الأوسط. ولكن لم يُلقِ أي منهم خطاباً مماثلاً حول الصين. وربما يفكر ترمب في توجيه خطاب إلى الأمة حول السياسة تجاه الصين، لكن الطريقة التي سيحدد بها طبيعة المنافسة مع بكين ستكون أكثر أهمية من إلقاء الخطاب نفسه. ومن خلال نبرة واضحة، ولكن غير ديماغوجية [غير تحريضية]، تؤكد المنافسة وليس بالضرورة المواجهة، وتربط المنافسة مع الصين بمصالح الأميركيين مباشرة، قد يتمكن ترمب من حشد الرأي العام الأميركي والمجتمع المدني والأوساط الأكاديمية والقطاع الخاص لدعم جهود إدارته.
القوة في الاتحاد
التحدي الذي تمثله الصين يتعلق جزئياً بحجمها. فعدد سكان الصين يعادل أربعة أضعاف سكان الولايات المتحدة. وهي الدولة الصناعية الرائدة في العالم وأكبر شريك تجاري لأكثر من 100 دولة. ولكي تتمكن الولايات المتحدة من المنافسة، يتعين عليها أن تحقق توازناً في الحجم بطريقتها الخاصة. وأفضل طريق لمضاهاة الصين في الحجم سيكون عبر الحلفاء والشركاء.
فقوة أميركا تنبع من شبكة التحالفات والشراكات الغنية التي تمتلكها. إذاً، فإضافة إلى معالجة المشكلات الهيكلية الداخلية، ستحتاج إدارة ترمب إلى تعزيز تنسيقها مع الدول الصديقة في مجالين رئيسين: الاقتصاد والتكنولوجيا، والأمن.
ولكي تتجنب الولايات المتحدة “صدمة صينية” ثانية وتخلق الظروف المواتية لإحياء التصنيع، ستحتاج الإدارة إلى توحيد أسواق الحلفاء والشركاء والتنسيق معهم في شأن التعريفات والإجراءات التنظيمية التي تحمي الصناعة الغربية. وفي سبيل الحفاظ على الريادة بمجال التكنولوجيا، سيكون من الضروري التعاون في فرض قيود على التصدير لمنع وقوع التكنولوجيا الحساسة في أيدي الصين.
ومن أجل ردع عدوان الصين في مضيق تايوان أو بحر الصين الجنوبي، ينبغي لإدارة ترمب أن تنطلق من النجاحات التعاونية التي حققتها إدارة بايدن في المنطقة، بما في ذلك تحالف “أوكوس” AUKUS، وهي شراكة أمنية ثلاثية الأطراف لتزويد أستراليا بغواصات ذات قدرة نووية؛ والشراكة الرباعية “كواد” Quad، التي جمعت الولايات المتحدة وأستراليا والهند واليابان؛ والجهود الرامية إلى توسيع انتشار القوات العسكرية الأميركية في أستراليا واليابان وبابوا غينيا الجديدة والفيليبين وأماكن أخرى. وقد أسهمت هذه الخطوة الأخيرة في تقليل الأخطار التي تشكلها أنظمة الصواريخ الصينية على القوات الأميركية القريبة من الصين، كما مكنت الولايات المتحدة من العمل بمرونة أكبر وقدرة أعلى على الصمود. ويتطلب الردع أيضاً تعزيز قدرات الحلفاء والشركاء من خلال مبيعات الأسلحة وتمركز القوات الأميركية على أراضيهم، مثلما فعلت الولايات المتحدة أخيراً حينما نشرت نظام صواريخ “تايفون” في الفيليبين، لزيادة تكلفة العدوان الصيني. وأخيراً، من شبه المؤكد أن الأمر سيتطلب العمل مع الحلفاء والشركاء لزيادة التكاليف الاقتصادية والسياسية المترتبة على مغامرات الصين في آسيا، بما في ذلك فرض عقوبات منسقة وإصدار تصريحات وبيانات مشتركة رداً على النشاط العسكري الصيني. لن يكون أي من هذه الخطوات ممكناً إذا تصرفت الولايات المتحدة بمفردها.
إن نجاح إدارة ترمب في تحقيق التعاون في شأن هذه الأولويات يعتمد على الطريقة التي تتعامل بها مع الحلفاء والشركاء. ويخشى القادة الأوروبيون، لأسباب وجيهة، أن يفرض ترمب تعريفات جمركية على اقتصادات الدول الأوروبية، أو يقلص المساعدات العسكرية لأوكرانيا، أو يضغط على أوروبا لزيادة الإنفاق الدفاعي، أو ربما يسعى إلى شكل خاص به من أشكال “الانفراج” مع روسيا على أمل أن تؤدي زيادة المشاركة الأميركية إلى إضعاف العلاقة الصينية- الروسية. وينبغي لمسؤولي الإدارة استخدام نفوذهم على الدول الأوروبية من أجل تحقيق إعادة تنظيم أوسع للعلاقة عبر الأطلسي، بما يضمن تعزيز أوروبا لدفاعاتها، وزيادة دعمها لأوكرانيا، وفرض تدابير اقتصادية وتقنية أكثر صرامة على الصين، مثل ضوابط التصدير، بالتنسيق مع الولايات المتحدة. سيكون هذا النهج أكثر حكمة من السعي للحصول على حزمة من التنازلات الفورية والمبهرة والقصيرة الأجل التي قد تضر بالتحالفات عوضاً عن إعادة تنظيمها بشكل فعال. وعلى نحو مماثل، في آسيا، فإن تهديدات ترمب خلال فترة ولايته الأولى بسحب القوات الأميركية من الدول الحليفة، أو المطالبة بدفع مزيد من المال مقابل وجود القواعد الأميركية، أو التخلي عن الالتزامات الدفاعية الأميركية، كانت تستند إلى نفوذ أميركي حقيقي. لكن هذه التهديدات تجاهلت حقيقة أن حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة يجب أن يتعاملوا مع أوضاع سياسية داخلية، غالباً ما يتفاعل الناخبون فيها بشكل سلبي مع الضغوط العلنية من الولايات المتحدة. وسوف يكون من الأفضل اعتماد نهج ملائم يهدف إلى كسب دعمهم استراتيجية الإدارة تجاه الصين.
التهديدات والمراوغة والوعود
من جانبها، سبق أن بدأت بكين باتخاذ خطوات استعداداً للإدارة الأميركية القادمة. تشعر الصين بقلق بالغ في شأن تهديد ترمب بفرض تعريفات جمركية بنسبة 60 في المئة على السلع الصينية، وقد أشارت بالفعل إلى استعدادها للرد من خلال فرض تعريفات جمركية مضادة، وضوابط على التصدير، وعقوبات خاصة بها، إضافة إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد الشركات الأميركية العاملة في الصين. إذا اعتقد المسؤولون الصينيون أن الرد بالمثل قد يؤدي إلى تصعيد إضافي من ترمب، فقد تتسم استجابتهم بالتحفظ، مثلما حدث خلال الحرب التجارية في فترة ولاية ترمب الأولى. ومع ذلك، إذا رأوا أن الرد قد يدفع إدارة ترمب إلى التراجع خوفاً من ارتفاع التضخم أو الأخطار التي تواجه الشركات الأميركية الكبرى، فمن المرجح أن يكون ردهم قوياً، وربما يسعون إلى “التصعيد من أجل التهدئة”، وهي استراتيجية اعتمدتها بكين عندما استهدفت شركة “ميكرون” Micron الأميركية المصنعة لأشباه الموصلات، وعندما استخدمت، أخيراً، ضوابط التصدير على العناصر الأرضية النادرة رداً على قيود التصدير الأميركية. ولكن هناك احتمالاً ثالثاً: إذا فرض ترمب تعريفات بنسبة 60 في المئة في وقت مبكر من رئاسته وأظهر اهتماماً محدوداً بالتفاوض، وخلصت الصين إلى أن الأخطار التي تهدد اقتصادها (وسمعة شي) وجودية ولا يمكن تحملها، فقد لا يكون أمام بكين من خيار سوى الرد بقوة، بغض النظر عن الاستجابة الأميركية المتوقعة.
ليس من الواضح ما إذا كان تهديد إدارة ترمب بفرض التعريفات الجمركية مجرد تكتيك تفاوضي يهدف إلى تغيير سلوك الصين، أو سياسة أميركية غير قابلة للتفاوض تهدف إلى فك الارتباط مع الصين، أو مزيجاً من الاثنين معاً. بالنسبة إلى بكين، فقد يكون أفضل سيناريو هو عقد الآمال على أن يكون الاحتمال الأول هو الصحيح، والسعي، من خلال اعتماد مزيج من الردود الانتقامية والدبلوماسية الشخصية، إلى دفع ترمب نحو صفقة قد تشمل التجارة والتكنولوجيا وحتى تدابير مكافحة المخدرات. ومن أجل زيادة احتمالية تحقيق هذا السيناريو، فقد ترد بكين في البداية على الشركات المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بترمب، مثل شركة “تسلا” Tesla التابعة لإيلون ماسك، من أجل تحفيز خفض التصعيد. وقد يسعى المسؤولون الصينيون أيضاً إلى فصل ترمب عن موظفيه الأكثر تشدداً واستغلال مصلحته الشخصية المباشرة، مثلما فعلوا في المفاوضات التي أعقبت اندلاع الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين خلال فترة ولايته الأولى. وقد أسفرت استراتيجيتهم عن تقليل ترمب من أهمية حملة القمع الصينية ضد المحتجين في هونغ كونغ، والتعبير عن دعمه معسكرات الاعتقال في شينجيانغ، وعرض رفع القيود على صادرات “هواوي” Huawei “زد تي إي” ZTE، بل موافقته حتى على صفقة تجارية لم تتناول ممارسات الصين في السياسات الصناعية. بالنظر إلى هذا التاريخ، فإن إمكانية أن تقترح بكين صفقة شاملة على ترمب تشمل تخفيف القيود على تصدير أشباه الموصلات وسياسات أميركية أخرى قد تُعد غير قابلة للتفاوض، وربما تشمل سياسة الولايات المتحدة تجاه تايوان، يجب أن تثير قلق الموظفين الأكثر ميلاً للمنافسة في الإدارة. وينبغي رفض مثل هذا الاقتراح.
وقد يكون المسار الأذكى الذي تنتهجه إدارة ترمب في شأن التعريفات الجمركية هو اتباع استراتيجية “غلي الضفدع” من خلال زيادة التعريفات تدريجياً، أو التهديد بزيادتها، عوضاً عن فرضها دفعة واحدة. من شأن هذا النهج أن يعقد قدرة بكين على الرد بقوة أو اتهام الولايات المتحدة بأنها القوة الوحيدة المزعزعة للنظام التجاري. كما سيمنح الشركات الأميركية والأجنبية الوقت للتكيف. وقد يتيح للولايات المتحدة الحصول على تنازلات جوهرية من بكين من خلال منح القادة الصينيين الحيز السياسي للعمل على صفقة، بدلاً من وضعهم في موقف حرج فوراً وإجبارهم على الرد بالمثل.
بعيداً عن الحرب التجارية، ستسعى بكين إلى تقديم نفسها بصفتها قائداً عالمياً وتصوير الولايات المتحدة على أنها دولة تسير نحو الانحدار. قبل سبعة أعوام، رداً على انتخاب ترمب خلال ولايته الأولى، حاول شي جينبينغ وضع الصين في موقع المدافع عن العولمة خلال منتدى دافوس، معلناً أن “أي محاولة لقطع تدفق رأس المال والتقنيات والمنتجات والصناعات والأشخاص بين الاقتصادات… تتعارض مع الاتجاه التاريخي”. وتوفر الحرب التجارية فرصة أخرى مشابهة. ولكن هذه المرة، إضافة إلى رفع راية الدفاع [إضافة إلى الادعاء بأنه المدافع] عن النظام الاقتصادي العالمي، قد يسعى شي إلى جعل الصين طرفاً وسيطاً في الصراعات الحالية في الشرق الأوسط وأوروبا، مهما بدا ذلك غير واقعي.
بدأت بكين فعلاً في اتخاذ خطوات استعداداً للإدارة الأميركية القادمة
تعتقد بكين أيضاً أن التوترات مع إدارة ترمب ستتطلب إصلاح العلاقات مع القوى الكبرى الأخرى. لذلك، زادت من تفاعلها الدبلوماسي مع أوروبا واليابان وسعت إلى التوصل إلى ترتيب لخفض التصعيد مع الهند. وبطريقة موازية، تعمل الصين على تحسين العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة وشركائها، ليس لتقليل الضغوط عليها فحسب، بل أيضاً لتوفير بديل يمكن لهذه البلدان أن تلجأ إليه إذا اعتبرت نهج واشنطن عقابياً بشكل مفرط. وترى بكين أن شبكة التحالفات التي تتمتع بها الولايات المتحدة هي الميزة الأساسية لواشنطن في المنافسة الجيوسياسية، وتأمل أن تضر إدارة ترمب الثانية بتلك الشراكات مثلما فعلت إداراته الأولى، مما يمنح الصين فرصاً جديدة. لذلك، ينبغي على ترمب ألا يقع في هذا الفخ الذي تسعى بكين إلى نصبه.
ولا يزال من غير الواضح كيف ستتعامل إدارة ترمب مع ملف الدبلوماسية الثنائية مع الصين. أكثر قنوات التواصل فاعلية هي عبر البيت الأبيض، مثلما كانت الحال في إدارة بايدن، حينما كانت الدبلوماسية على مستوى القادة والقناة الرابطة بين مستشار الأمن القومي الأميركي ومدير مكتب لجنة الشؤون الخارجية الصينية أساسية، من الأدوات الأساسية لإدارة المنافسة لا بل أيضاً لتوضيح الخطوط الحمراء. قد يكون من المفيد لإدارة ترمب إعادة إطلاق قناة التواصل على مستوى إدارة الأمن القومي التي طورتها إدارة بايدن. لكن الدبلوماسية على مستوى القادة، بالنظر إلى ميل ترمب المعروف إلى الارتجال والسعي لعقد صفقات، قد تجعل الحفاظ على نهج تنافسي حقيقي أكثر صعوبة.
بعيداً من مسألة الدبلوماسية الثنائية والتعريفات الجمركية، ستتعامل إدارة ترمب مع سياسة خارجية صينية أكثر حزماً. فبعد فترة قصيرة من خفض التصعيد، أصبح مضيق تايوان يشهد توتراً متزايداً بسبب شكوك بكين في القيادة الجديدة لتايوان والتزايد المستمر في تدريباتها العسكرية حول تايوان. كما أن المضايقات الصينية المستمرة للسفن الفيليبينية، بما في ذلك الحوادث في جزيرة “سكند توماس المرجانية” التي أدت إلى إصابة عديد من البحارة الفيليبينيين وهددت بتفعيل التزامات الدفاع الأميركية، قد وضعت بحر الصين الجنوبي على شفا أزمة. إضافة إلى ذلك، تدعم الصين حرب روسيا في أوكرانيا بطرق أكثر جرأة، إذ توفر لموسكو مواد لقاعدة صناعتها الدفاعية، ووفقاً لأجهزة الاستخبارات الأوروبية، تقدم لها المساعدة القتالية الفتاكة.
بالنسبة إلى فريق الأمن القومي المقبل، فإن التصدي للاستفزازات الصينية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في حين تدار النزاعات في الشرق الأوسط وأوروبا سيشكل تحدياً. ويجب على الإدارة مقاومة الانجذاب إلى تلك الصراعات وإعطاء الأولوية لإعادة إحياء مصادر القوة الأميركية. ومن الجدير بالذكر أن الأمن القومي لا يتعلق بالسياسة الخارجية فقط. لذا، يجب على فريق ترمب أن يتذكر أن مفتاح هذا العقد الحاسم لا يقتصر على ما تفعله الولايات المتحدة في الخارج فحسب. فإجراءاتها في الداخل الرامية إلى تحسين وضعها التنافسي قد تكون أكثر أهمية.
مترجم عن “فورين أفيرز” 29 نوفمبر 2024
راش دوشي هو مدير “مبادرة استراتيجية الصين” في “مجلس العلاقات الخارجية” وأستاذ مساعد في “مدرسة إدموند أ. والش للخدمة الخارجية” في جامعة “جورج تاون”. شغل سابقاً منصب نائب المدير الأول لشؤون الصين وتايوان في مجلس الأمن القومي خلال إدارة بايدن.
نقلاً عن : اندبندنت عربية