تتردد بين جدرانها أصداء لأسرار كثيرة، وتشهد أروقتها على محطات مفصلية في تاريخ هذا الوطن الصغير بمساحته والكبير بتحدياته، إنها القصور الرئاسية اللبنانية. من قلب العاصمة بيروت النابض في منطقة القنطاري، إلى تلال بعبدا وما بينهما، ترتسم قصة الرئاسة اللبنانية، كمرآة عاكسة لصراعات البلاد. فهذه القصور ليست مجرد مبان من الحجر والزخارف والحدائق، بل صفحات مفتوحة تحكي حكايا الرؤساء، وتقلب فصولاً من التاريخ وسط اضطرابات سياسية وأزمات وجودية. ففي كل زاوية من هذه القصور، تكمن روح زمن مضى، من لقاءات جمعت الرؤساء والقادة والفنانين والسفراء والزوار، إلى لحظات صعبة شهدت فيها الجدران خلافات وحروباً وأحداثاً، بعضها دون وبعضها ذهب مع الزمن، وأخرى تنتظر التدوين.

صيف وشتاء ليسا تحت سقف واحد

من القنطاري في شارع الحمرا في العاصمة بيروت، إلى ذوق مكايل في قضاء كسروان، ومن سن الفيل في ضواحي بيروت الشرقية، إلى الرملة البيضاء على شاطئ بيروت، شهد القصر الرئاسي في لبنان مراحل متعددة من الانتقال والتنقل، ليحكي قصة تاريخية فريدة تعكس محطات وأحداث الوطن.
في فصل الشتاء، اتخذ القصر مكاناً مستقراً في التلة المطلة على العاصمة في منطقة بعبدا، ليكون شاهداً على قرارات مصيرية وأحداث محورية.

أما في الصيف، فكان للرئاسة اللبنانية وجهة موسمية مميزة، تغيرت مع الرؤساء ومناطقهم، فتنقلت بين أجواء إهدن (شمال)، وبكفيا (قضاء المتن)، وعاليه (محافظة جبل لبنان)، وعجلتون (قضاء كسروان)، وزحلة (محافظة البقاع)، إلى أن وجد صيف الرئاسة مقراً دائماً في قصر بيت الدين التاريخي في جبال الشوف (محافظة جبل لبنان)، الذي يحتضن بين جدرانه عبق الماضي وأسرار الحاضر، ليصبح بيتاً للجمهورية في عطلتها الصيفية.

القنطاري أول قصر رئاسي لكنه شخصي

قبل أن يجد قصر بعبدا مكانه الدائم كبيت لرئاسة الجمهورية اللبنانية، شهدت الرئاسة الأولى جولات متعددة، بدأتها من قصر القنطاري، الذي يحمل بين جدرانه حكايات الاستقلال وبداية عهد الجمهورية. إذ كان هذا القصر شاهداً على أولى خطوات الاستقلال في عام 1943، إذ تحول إلى مركز لإدارة شؤون البلاد، وشهد لحظات تاريخية عدة.
بناه حنا حنين في عام 1860، وانتقلت ملكيته بعد ذلك إلى زوج ابنته درويش حداد، ثم إلى ابنة حداد في عام 1925 التي تزوج منها فؤاد الخوري، الذي دعا شقيقه بشارة الخوري إلى الإقامة فيه في عام 1939. وعندما انتخب الأخير كأول رئيس للجمهورية اللبنانية بعد الاستقلال جعل من قصر القنطاري مقراً للرئاسة، وبقي فيه منذ عام 1943 حتى عام 1952. كما أقام فيه كميل شمعون عندما انتخب رئيساً حتى عام 1958 على رغم أن ملكيته حينذاك كانت لا تزال للخوري، واعتمده قصراً رئاسياً حتى نهاية ولايته.
كان القصر مكوناً من ثلاث طبقات واسعة ومزوداً بكل ما تحتاج إليه مؤسسة رئاسية، من قاعات الاجتماعات إلى مكاتب العمل وغرف الاستقبال. ولم يكن قصر القنطاري مجرد مقر إداري، بل كان مركزاً للنضال السياسي. نظمت فيه التظاهرات المناهضة للانتداب الفرنسي، ووزعت المناشير التي تدعو إلى الاستقلال، وكان شاهداً على رفع العلم اللبناني للمرة الأولى بعدما نزعت منه الألوان الفرنسية، كما شهد محطات بارزة مثل إعلان الاستقلال ومداهمة القوات الفرنسية للقصر واعتقال بشارة الخوري وسواها من الأحداث.
لكن ذاكرة القنطاري لم تنته عند ذلك، إذ شهد القصر سرقات ودماراً خلال الحرب الأهلية، وضاع معه جزء كبير من الوثائق المهمة التي حملت في طياتها تاريخ تلك الحقبة، لكنه بقي رمزاً للأيام الأولى للجمهورية اللبنانية، يحمل ذكريات الاستقلال وذكريات الرؤساء الأوائل، وعاد واشتراه رئيس الحكومة السابق الراحل رفيق الحريري.

بعد القنطاري

بعد انتخاب الرئيس فؤاد شهاب في عام 1958 رفض أن تقيم رئاسة الجمهورية في سكن خاص، فقرر نقل مقر إقامتها إلى ذوق مكايل في فيلا استأجرتها الحكومة اللبنانية قريباً من سكنه العائلي في جونية، الذي ظل يسكنه، ويذهب إلى الفيلا الرئاسية يومياً بدوام عمل.
مع تغير الزمن انتقلت الرئاسة إلى مواقع أخرى، فاختار كل رئيس ما يلائمه، فالرئيس شارل حلو الذي انتخب عام 1964 استأجر قصراً في منطقة سن الفيل كبديل، يعود لصاحب “بنك بيروت” سليم صفير.

إلى بعبدا در

من الصدف التي تلتقي ربما بتسمية لبنان بسويسرا الشرق، أن يكون قصر بعبدا الرئاسي قد بنته شركة سويسرية. ففي ربوع بلدة بعبدا الجبلية، وبإطلالة بانورامية على العاصمة بيروت، اختيرت هذه البقعة الاستراتيجية لتكون مقراً للرئاسة اللبنانية، وشيدت القصر الرئاسي الشركة السويسرية “ايدور ايه جوليار” “Edor et Juliar”، التي فازت بالمناقصة خلال عهد كميل شمعون، الذي وضع حجر الأساس عام 1956، ولكنه لم يسكنه. وتأرجح العمل في بنائه بين التوقف والاستئناف، ولم تكتمل ملامح هذا الصرح إلا مع حلول السنة الأخيرة من ولاية الرئيس الراحل شارل حلو في أواخر الستينيات، حين أشرفت وزارة الأشغال على التنفيذ. وأسهم مدير الآثار آنذاك، الأمير موريس شهاب، والسيدة الأولى نينا حلو في اقتراح تعديلات على التصميم العام للمشروع الذي كانت هندسته تبدو بسيطة وعملية لتضفي طابعاً لبنانياً على البناء. فتميز القصر بمزيج فريد من العمارة اللبنانية التقليدية واللمسات الحديثة. واستخدم الحجر الأصفر المستخرج محلياً في البناء، مما أضفى دفئاً وأصالة على الهيكل الخارجي. وزينت الواجهات بالقناطر والمندلون الشرقي المستوحى من قصر بيت الدين التاريخي، مما يربط بين الماضي والحاضر في تصميم متناغم.
ويضم قصر بعبدا حدائق واسعة ومناظر طبيعية خلابة، توفر بيئة هادئة ومريحة وعملية للفعاليات الرسمية. كما يمتاز القصر بنافورته التي تتوسط حدائقه، وتعد تحفة معمارية تجمع بين البساطة والرقي، وتقع في نقطة مركزية تجعلها مرئية من مختلف زوايا الحديقة، مما يضفي على أجواء القصر طابعاً حيوياً.
واختيرت بعبدا نظراً إلى موقعها الذي يجمع بين القرب من بيروت، إذ تبعد عن العاصمة بأقل من 10 كيلومترات، والهدوء الذي توفره المرتفعات، مما يتيح بيئة مناسبة لممارسة المهمات الرئاسية بعيداً من صخب المدينة إلى حد ما.
وعلى رغم كون بعبدا، قضاء بحد ذاته يتبع لمحافظة جبل لبنان، إلا أنها في الوقت عينه تعد إحدى الضواحي الشرقية لبيروت، وتعد ضمن نطاق بيروت الكبرى التي تضم العاصمة وضواحيها الجنوبية والشمالية والشرقية، إذ إن الدستور اللبناني ينص على أن يكون قصر الرئاسة في العاصمة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عطلة الصيف بطلها قصر بيت الدين

كما اتخذ معظم رؤساء الجمهورية قصر بيت الدين في الشوف كمقر صيفي بعيداً من صخب المدينة، إذ تعود ملكيته للدولة من ناحية، ونظراً إلى رمزيته التاريخية من ناحية ثانية، إضافة إلى فن العمارة الرائع الذي يتمتع به. وهو ليس مجرد قصر عادي، بل حكاية محفورة في الحجر، تسرد فصولاً من الجمال والإبداع والفن المعماري. وهو شاهد على عظمة التراث اللبناني وأسرار الحقبة الأميرية، إذ يعد تحفة الأمير بشير الشهابي الثاني الذي شيده في أواخر القرن الـ18، ويقال إن بناءه استغرق أكثر من 30 عاماً. وتظهر في تصميمه لمسات الفن الشرقي، من الأقواس المزخرفة، إلى الفسيفساء الملونة والنوافير الراقصة وسط باحاته الواسعة. وما أن تطوى صفحات الزمن وصولاً إلى العصر الحديث، يظهر أن قصر بيت الدين أصبح ليس فقط مقر عطلة صيفية لرؤساء الجمهورية اللبنانية، بل مركزاً يحتضن الفنون والثقافة، إذ يقام مهرجان بيت الدين الدولي كل عام، ويتحول القصر إلى مسرح عالمي مفتوح للإبداع.
أول الرؤساء الذين اصطافوا في بيت الدين كان بشارة الخوري، ثم كميل شمعون، ثم شارل حلو الذي قضى صيف سنة الحكم الأولى في عاليه بسبب ترميم قصر بيت الدين، ثم أكمل صيف حكمه فيه. وسكنه كل من الرؤساء إلياس سركيس وإميل لحود وميشال سليمان وميشال عون صيفاً، بينما اختار الرئيس فؤاد شهاب بلدته عجلتون، واختار سليمان فرنجية بلدة إهدن، وأمين الجميل بلدته بكفيا، وإلياس الهراوي بلدته زحلة للإقامة الصيفية.

قصر بعبدا بين إقامة وشغور وقصف وترميم

يمكن القول إن البدايات الرسمية لقصر بعبدا كانت عندما انتقلت دوائر الرئاسة إليه بداية عام 1969، فدشن الرئيس شارل حلو العمل الرسمي بالقصر في شهر يناير (كانون الثاني) من عام 1969 خلال حفلة استقبال رؤساء البعثات الدبلوماسية بمناسبة العام الجديد، وشهد القصر في الـ23 من سبتمبر (أيلول) 1970 أول مراسم تسليم وتسلم رئاسية بين حلو وخلفه سليمان فرنجية.
من أبرز الأحداث التي مرت على القصر كانت الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت نحو 15 عاماً، من عام 1975 وحتى عام 1990، إذ تعرض للقصف المكثف في الـ16 من مارس (آذار) 1976 خلال الحرب الأهلية، فدمرت أجزاء كبيرة منه، فاستحدث الرئيس إلياس سركيس ملجأ تحته للحماية من القصف. وبين عامي 1983 و1988، تعرض القصر للقصف مجدداً. وأدى فراغ كرسي الرئاسة عند انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل في سبتمبر (أيلول) عام 1988 بسبب أزمة سياسية حالت دون انتخاب رئيس جديد، إلى تعيين الجميل، قائد الجيش حينها، العماد ميشال عون، رئيساً للحكومة الانتقالية. ولم يتمكن الرئيس المنتخب رينيه معوض من الوصول إلى القصر فاغتيل بعد انتخابه بـ17 يوماً في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1989. وفي الـ13 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1990، أخرج العماد عون من القصر خلال عملية عسكرية قام بها جيش النظام السوري، مما أدى إلى دمار كبير.

وأقام الرئيس إلياس الهراوي (الذي انتخب بعد اغتيال معوض) في مقر موقت في بيروت بمنطقة الرملة البيضاء، إلى حين اكتمال ترميم قصر بعبدا في يوليو (تموز) عام 1993 بعد إضافة أقسام جديدة إليه، كالمسبح وملعب التنس المغلق. وأشرفت السيدة الأولى حينها، منى الهراوي على تحسين الديكور الداخلي، مع ألوان ذهبية ونبيذية.
وسكن الفراغ الرئاسي القصر مرة أخرى بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2007، لتعود الحياة له بعد “اتفاق الدوحة” (بين الفرقاء اللبنانيين)، واستؤنفت الحياة الرئاسية في القصر مع انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً في الـ25 من مايو (أيار) عام 2008. وفي عهده أضيفت إلى القصر كنيسة مار شربل، وصالة لاجتماعات مجلس الوزراء، وغرفة للصحافة، إلى جانب تحسين الحدائق وإعادة تنظيمها بأشجار أرز وزيتون قديمة، وأضيفت لوحات فنية وموجودات أثرية بالتعاون مع وزارة الثقافة.
ومع انتهاء ولاية الرئيس سليمان عام 2014، دخل لبنان في فراغ رئاسي استمر لمدة عامين، إذ تعذر انتخاب رئيس جديد بسبب الانقسامات السياسية. خلال هذه الفترة، تولت حكومة الرئيس تمام سلام صلاحيات الرئاسة بالوكالة.

وفي الـ31 من أكتوبر (تشرين الأول) 2016، عاد العماد ميشال عون ليقطن القصر، لكن كرئيس للجمهورية هذه المرة، منهياً بذلك الفراغ الرئاسي. ليختتم بعدها ولايته في عام 2022، ويترك القصر فارغاً من جديد، وكأن الشغور بات عرفاً في الجمهورية اللبنانية. وتتولى اليوم حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي صلاحيات الرئاسة بالوكالة، في ظل تحديات سياسية واقتصادية وعسكرية تواجه البلاد.
واليوم تتجه عيون اللبنانيين إلى ساكن القصر الجديد الموعود، إلى الرئيس المنتظر، الذي يحمل قبل أن تطأ قدماه عتبة القصر مسؤوليات وتبعات جمة ولدها الفراغ، والتغييرات الإقليمية والمحلية والحرب الأخيرة والتوزانات السياسية. ويبدو أن التقليد المستجد الذي بدأ مع استلام قادة الجيش زمام الرئاسة منذ فؤاد شهاب وإميل لحود إلى ميشال سليمان وثم ميشال عون (لم يكن قائد جيش حين ترشح للرئاسة)، سيكمل ليوصل قائد الجيش جوزيف عون إلى قصر بعبدا.

نقلاً عن : اندبندنت عربية