في إقليم كردستان العراق يقال إن للسيارات عوالم خاصة، لكل منها حكاية أكسبتها أهمية واسماً بديلاً في الفضاء الشعبي، لكن آلافاً منها تسير في عالم مواز من دون هوية، في ملاذ بعيد من أعين الرقابة والضوابط القانونية، لتتحول إلى معضلة يتداخل فيها الكسب غير المشروع مع التهديد الأمني في واقع إداري منقسم.

قصة “الملكة” أو “الشاهينة” بالكردية ترتبط بسيارة يابانية من طراز “تويوتا كراون”، وباتت الفئة المهربة منها إلى الإقليم اليوم في مواجهة الملاحقات القانونية لتتحول إلى عالة على عشاقها.

فمنذ أواخر سبعينيات القرن الـ20 حظيت تلك السيارة بخصوصية، لكن استيرادها تأثر بصورة كبيرة إثر تدهور اقتصاد البلاد على وقع تداعيات حرب الكويت عام 1990، قبل أن تعاود الظهور من جديد بطرق غير قانونية في أعقاب سقوط نظام صدام حسين على يد الأميركيين بعد عام 2003.

مغريات السعر والجودة

يعد اقتناء سيارة خاصة في الإقليم أمراً ملحاً في ظل غياب وسائل النقل العام الحديثة مثل القطارات وحافلات الترام ومترو الأنفاق، مما أسهم في تزايد مطرد في أعداد السيارات لتصل إلى نحو مليونين ونصف المليون، وهو رقم كبير بالمقارنة مع عدد سكان لا يتجاوز 6 ملايين و350 ألف نسمة، خصوصاً أن القوانين المعمول بها تسمح باستيراد سيارات حديثة الطراز حصراً، التي لا يتجاوز تاريخ صنعها مدة العامين باستثناء الفئة الكلاسيكية.

يعزو بعض عشاق السيارات تفضيلهم “الملكة” على غيرها لخاصيتها التي تجمع بين رخص أسعارها وجودة مواصفاتها من جهة المتانة ومقاومتها الأجواء العراقية، إلا أنها مدرجة في لائحة المركبات المحظورة لدى السلطات لمخالفتها ضوابط وشروط السلامة، لإجراء تحوير في مقودها من اليمين إلى اليسار، وآخر قُطع هيكله وأعيد تلحيمه. كما تفتقد أوراقاً ثبوتية رسمية، إضافة إلى كونها تشكل تهديداً أمنياً لصعوبة تتبعها في حالات ارتكاب مخالفات أو جرائم.

 

 

وأخيراً بعد اتخاذ قرارات صارمة بمصادرتها، أصبحت السيارة التي تقدر أعدادها مع أنواع أخرى في الإقليم بـ70 ألفاً محل شد وجذب بين السلطات من جهة، وأصحابها الذين يقولون إنهم كانوا ضحية لتواطؤ بين متنفذين حكوميين مع شبكات التهريب، لتتحول إلى أزمة متشابكة يتداخل فيها الكسب غير المشروع يقدر بعشرات الملايين من الدولارات مع التهديد الأمني، ليجد مالك هذه السيارة نفسه معرضاً لخسائر تراوح ما بين 5 و7 آلاف دولار.

رحلة طويلة

تنبع قصة دخول سيارات “الشاهينة” بدءاً من الإمارات لتُصدر بعد ذلك إلى العراق قبل أن تجد لها طريقاً للوصول إلى إقليم كردستان. وفي تفاصيل رحلة الملكة قال هلو سعد وهو صاحب معرض للسيارات في أربيل في حديثه إلى “اندبندنت عربية”، إن “انتشارها يعود إلى قبل نحو سبعة أعوام، إذ يجري استيرادها للعراق من الإمارات على صورة خردة أو قطع مجزأة، وبعد ذلك يُعاد تجميعها في إحدى المحافظات أو إرسالها خردة إلى الإقليم بطرق غير شرعية”.

وفي شأن أسعارها، أوضح سعد أن “كلفة شرائها خردة تراوح ما بين 1000 و20 ألف دولار، ثم يرتفع سعرها بعد عملية التجميع ما بين 4 و7 آلاف وأحياناً إلى 10 آلاف دولار بحسب الطراز والمواصفات”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويعد الفارق في السعر والجودة بالمقارنة مع فئات أخرى عاملاً مباشراً يدفع المشترين إلى المجازفة في اقتناء هذه السيارة على رغم أنها قد تتحول لهم إلى مصدر للمتاعب، وفق سعد، الذي أكد أنه بمرور الأعوام تمكن التجار من إدخال عشرات الآلاف من هذه السيارات إلى الإقليم، بعد أن وجدت ملاذاً لها في مناطق خارج المدن الرئيسة، بخاصة في القرى والمناطق الريفية بعيداً من أعين الرقابة.

وينتشر القسم الأكبر من تلك السيارات في المناطق التابعة لمحافظة السليمانية، إذ مركز نفوذ حزب “الاتحاد الوطني” بزعامة جلال طالباني، بينما تجول النسبة الأقل في ساحة شريكه الرئيس في الحكومة التي يقودها الحزب “الديمقراطي” بزعامة مسعود بارزاني في المناطق البعيدة من مركزي محافظتي أربيل ودهوك.

“تواطؤ حكومي”

وسبق أن تحدثت تقارير نشرتها وسائل إعلام كردية عما وصفته بـ”تواطؤ بين جهات حكومية وشبكات التهريب من خلال تغاضي منافذ حدودية عن دخول هذه المركبات مقابل مبالغ مالية تقدر بنحو 3 آلاف دولار على كل سيارة تذهب إلى جيوب متنفذين وتجار”.

ودفعت المحاذير من ارتفاع أعداد “الملكة” الجهات الأمنية في السليمانية إلى إصدار تعليمات صارمة تلزم “حظرها بصورة قطعية”. وبالفعل جرى تعميم أوامر مشددة لنقاط التفتيش بمصادرة أية مركبة غير مرخصة، عازية الخطوة إلى “انتشار أعدادها بخاصة ذات الزجاج المظلل التي تحمل لوحات تسجيل مزورة، مما يمثل تهديداً للأمن والاستقرار”، وخيرت أصحابها بين إخراجها من الإقليم أو عدم استخدامها مطلقاً.

ولا يبدو طابع هذا الإجراء بعيداً من الخلاف الإداري والسياسي القائم في الإقليم بين الحزبين الحاكمين، وظهر ذلك من خلال تصريحات لوزير الداخلية عن الحزب “الديمقراطي” ريبر أحمد قال فيها إن “السيارات غير المرخصة تدخل إلى الإقليم عبر معبري باشماخ وبرويز خان” الحدوديين مع إيران من جهة السليمانية. أما في شأن سيارة الملكة فأكد أنها “تأتي من مناطق وسط وجنوب العراق”.

خسائر صادمة

لقيت الإجراءات المفاجئة ردود فعل سريعة من قبل مالكي هذا النوع من المركبات، ومعظمهم من فئات متوسطة أو منخفضة الدخل، ليخرجوا في احتجاجات غاضبة أمام مقار حزب طالباني مطالبين باتباع “حلول واقعية”.

ويقول هيمن قادر أحد مالكي هذه الفئة من السيارات، إن “شراء هذا النوع من السيارات محكوم بمدخولي المادي، وكلفتني 6 آلاف دولار، ومصادرتها بالنسبة إليَّ سيكون بمثابة مصادرة شقاء عمري”، مضيفاً “نحن مستعدون لدفع رسوم التسجيل أو الامتثال لأية آلية قانونية، لكن نرفض أن نخسر أموالنا من دون تعويض”.

 

 

في حين قال أحد السماسرة رفض نشر اسمه “اشتريت في الآونة الأخيرة سيارتين بهدف بيعهما لغاية الربح، لكني اليوم وجدتني خاسراً نحو 7 آلاف دولار في أقل تقدير، وعليه ندعو إلى إيجاد حل بديل ونحن مستعدون لالتزام أية شروط تحفظ لنا حقوقنا”.

من جانبه، قال ممثل السيارات غير المسجلة سوار أنور، إن “سوق بيع وشراء هذه المركبات توقفت تماماً بعد صدور قرار المصادرة، وانخفضت أسعارها بصورة كبيرة، ولم يعد لأحد الرغبة في شرائها”، داعياً السلطات المعنية إلى “مراعاة حقوق أصحابها لأن حل الأزمة لا يمكن أن يكون بهذه الصيغة”.

وطالب أنور باتباع حلول عملية تحقق توازناً بين تطبيق القانون وحماية حقوق المواطنين، عبر السماح بتسجيل هذه السيارات ضمن آلية موقتة تشمل فحصاً أمنياً وتحصيل رسوم معتدلة.

منابر بديلة للترويج

ومع صعوبة المتاجرة بهذه السيارات في المعارض المرخصة، يمتلك عشاقها وسائل بديلة لطرحها على المشترين، فإضافة إلى وجود أماكن في المناطق النائية، فإن مواقع التواصل الاجتماعي تشكل وسيلة آمنة وسريعة، وهناك العشرات من الحسابات المروجة لها.

ومن خلال بحث سريع، صادفنا أحد الحسابات يحمل اسم “ملكات كردستان” بعدد أعضاء يتجاوز 40 ألفاً، يدعو فيه أحد الأعضاء أقرانه إلى الاحتجاج، قائلاً “إن اليوم هو الوقت المثالي وفرصة لن تتكرر لكي نطالب بحقوقنا، يجب أن ننضم إلى المحتجين والمضربين من المعلمين وموظفي مديرية المرور من المطالبين بصرف مرتباتهم التي تأخرت لأكثر من شهرين”. حذر من أن “استمرار صمتنا سيؤدي إلى مصادرة سياراتنا بصورة نهائية”، كما كتب مشترك آخر منشوراً ساخراً يقول فيه إن “الصمت علامة الرضا”.

 

 

ولقي قرار المصادرة صدى إعلامياً واسعاً بين مؤيد ومعارض مع صدور دعوات ومقترحات إلى إيجاد مخرج للأزمة، في ظل أن وجود هذه السيارات بات أمراً واقعاً مع مراعاة تدهور الحالة الاقتصادية للمواطنين بسبب البطالة واستمرار أزمة مرتبات موظفي القطاع على وقع الخلاف بين حكومتي أربيل وبغداد.

وفي ضوء ما سبق يطرح الكاتب هيفار هيوا حلين “إما منح لوحات تسجيل موقتة مع فرض قيود صارمة تقضي على عمليات التهريب كلياً، أو منحها تصريحاً بالسير ضمن نطاق مناطق محددة تحت إشراف الجهات المعنية، على أن تكون خاضعة لقوانين المرور عبر رقم تسجيل موقت، وبخلافه تُصادر، ويُعاقب صاحبها بتهمة التزوير”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية