ليست الحرب لدى الرسامة تغريد درغوث،  ذات مفهوم مجرد، بل هي واقع مادي يتمثل في أدوات القتل والدمار الرهيبة، من طائرات ودبابات وجماجم وانفجارات. كل ذلك يُصاغ بأسلوب فني مُرهف، بل وربما شاعري،  كأنما تتلاعب الفنانة بالضوء واللون لتقديم قصيدة بصرية عن العنف.  يقام المعرض تحت عنوان “من بطاقات الاقتراع إلى الرصاص” وهو مستمر حتى 20 فبراير (شباط).

في هذه الأعمال تسعى الفنانة إلى تسليط الضوء على جانب غير مرئي في الصراعات التي تمزق العالم اليوم، وهو الرابط الخفي بين هذه الصراعات وسباق التسلح الذي تديره القوى الكبرى. فالأسلحة التي تُستخدم في هذه الحروب غالباً ما تأتي من الدول الغربية التي تزود جميع الأطراف، مستفيدة من استمرار الصراع لتحقيق أرباح طائلة. تشير لوحات درغوث بطريقة غير مباشرة إلى أن هذه الحروب في كثير من الأحيان لا تكون سوى انعكاس لصراع أقطاب دولية وحروب بالوكالة. ربما تتجسد هذه الفكرة في هيئة الجنود الذين يظهرون في هذه الأعمال كالدمى التي تحركها أصابع خفية.

الطائرات الحربية التي ترسمها تغريد درغوث هنا تبدو كاستعارة للهيمنة، إذ تُشكل مجموعة الطائرات الحربية في لوحات درغوث حضوراً رمزياً وجمالياً لافتاً. الطائرة التي تبدو كأنها طافية في فضاء اللوحة تحمل أكثر من مجرد دلالتها كأداة للقتل. كما أن الخلفيات ذات الألوان الزاهية: الزرقاء والحمراء والخضراء، تفرض حالة تناقض صاخبة مع المظهر القاتم للطائرات. هنا تظهر الطائرة وكأنها تتأرجح بين دورها كرمز للتدمير وأيقونة تكنولوجية جميلة. في لوحة الطائرة ذات الخلفية الحمراء، على سبيل المثال، يبدو وكأنها تسبح في محيط من الدم، بينما الخلفية الخضراء في لوحة أخرى تمنحها طابعاً غريباً، وكأنها جزء من عالم طبيعي مشوه. استخدام الفنانة لهذا التنوع في الألوان والخلفيات لا يُضيف فقط جمالية للوحة، بل يُبرز أيضاً قدرتها على نقل المشاهد بين تناقضات الحرب والحياة. إن وجود طائرة بخلفية وردية قد يبدو للوهلة الأولى كأنه تجسيد لمشهد رومانسي، لكننا ندرك سريعاً أن المشهد ما هو إلا تذكير صارخ بجمال زائف يخفي وراءه فظاعة. هنا، تبدو الطائرة وكأنها كائن حي، كائن يُهيمن على السماء، لكنه في الوقت ذاته يُشير إلى عبثية وجوده في هذا العالم.

في لوحات الدبابات، يتكرر الأسلوب ذاته: أدوات القتل تبدو كأنها منحوتات مهيبة وسط بحر من الألوان النابضة. الدبابات هنا أيضاً ليست مجرد أدوات حرب، بل رموز للهيمنة والقوة. تضيف الخلفيات ذات الألوان الزاهية، والتي قد تكون وردية أو زرقاء أو حتى ذهبية، بعداً مثيراً للتناقض؛ إذ تجعل الدبابة تبدو كأنها شيء خارج الزمن، ينتمي إلى عالم موازٍ يُجمّل القبح. وإذا كانت الطائرات والدبابات تُشير إلى القوة المدمرة، فإن الجماجم البشرية والحيوانية تُذكّرنا بالنهاية الحتمية. الجماجم ليست مجرد رموز للموت، بل هي شهادات صامتة على أفعال الحرب. ما يميز هذه الأعمال هو كيفية تعبيرها عن هشاشة الحياة عبر ضربات الفرشاة القوية واللون المتدرج الذي يُضفي على الجماجم طابعاً درامياً، يجعلها تبدو وكأنها تنطق بالرثاء.

أما مشاهد الجنود والانفجارات، فهي تمثل ذروة التوتر الجمالي في أعمال درغوث. الجنود، على رغم أنهم محاطون بالنيران والانفجارات، يبدون وكأنهم منحوتات رومانية، ثابتة ومهيبة، في تناقض صارخ مع الحركة والعنف حولهم. النيران، التي تُرسم بطريقة تبدو رومانسية، تعيدنا إلى سؤال وجودي: كيف يمكن للدمار أن يكون جميلاً؟ هنا تكمن فرادة التجربة البصرية التي أمامنا في خلق لوحات تحمل جماليات بصرية تُغلف مأساة إنسانية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يعتمد أسلوب تغريد درغوث في التلوين على الضربات القوية والطبقات اللونية الكثيفة، مما يمنح لوحاتها طاقة خاماً تتماشى مع موضوع الحرب. غياب الخطوط المحددة يُبرز تمسك الفنانة بتقنياتها في التلوين كمصورة ماهرة تعتمد على اللون وحده في تجسيد عناصر العمل. تُحيلنا أعمال درغوث أيضاً إلى تجارب فنية مشابهة عند فنانين مثل فرانسيس بيكون ( – Francis Bacon1909-1992) ، حيث التشويه يصبح وسيلة للتعبير عن الألم الإنساني، أو الألماني أنسيلم كيفر (Anselm Kiefer – 1945 )، الذي جعل من اللون والتركيب وسيلة لتفكيك التاريخ وإعادة تأطيره. إن الأعمال التي تقدمها تغريد درغوث ليست مجرد تأمل في العنف، بل هي محاولة لفهم تناقضاته واستيعاب أبعاده. هي تثير على نحو غير مباشر تساؤلات حول مصير الإنسانية في مواجهة قوة الآلة الحربية. لوحاتها المعروضة هنا تُظهر التحديات التي يفرضها هذا التناقض، بين الجمال كفكرة رمزية، والعنف كواقع مادي قاسٍ، ما يدفعنا للتفكير في دورنا كبشر وسط كل هذا الدمار.

نقلاً عن : اندبندنت عربية