في الولاية الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترمب كانت المهمة الملحة لمساعديه الكبار هي “عقلنة” قراراته الارتجالية. أما في الولاية الثانية، فإن ترمب يبدو أقل تطرفاً من مساعديه وحتى من أنصاره في حركة “ماغا”. وليس شعار لنجعل أميركا “عظيمة ثانية” الذي ضمن له الفوز مرتين سوى الضحية الأولى لممارساته السياسية. أما الضحية الثانية، فإنها أوروبا لا فقط أوكرانيا. والثالثة هي الشرق الأوسط، لا فقط فلسطين. وكله تحت عنوان المسارعة إلى وضع حرب أوكرانيا وحروب الشرق الأوسط وراء ظهر واشنطن للتركيز على المواجهة مع الصين وتحديات المحيطين الهندي والهادئ. ومن “الخطأ والخطورة التركيز على منطقة والانسحاب من أخرى كما فعل الرئيس السابق باراك أوباما في العراق”، كما يقول زعيم الجمهوريين السابق في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل.

ذلك أن ترمب يبدو كأنه يريد أن يضع حداً لحقبة ما بعد الحربين العالمية الثانية والباردة. فهو يتخلى عن النظام الليبرالي العالمي الذي بنته أميركا على مدى ثلاثة أرباع القرن. يهدد عملياً الشراكة مع أوروبا. ويعمل على تفكيك “البنية الفوقية” للغرب. يهاجم حلفاء أميركا، ويتودد إلى خصومها. ويعامل الأوروبيين كزبائن، لا كحلفاء وشركاء، ويرى أنهم يعاملون بلاده تجارياً بصورة “أسوأ من الأعداء”. شيء يتجاوز توصيف دونالد رامسفيلد وزير الدفاع أيام الرئيس جورج بوش الابن لأوروبا بأنها “القارة العجوز”. وشيء أبعد من قول روبرت كاغان في كتاب “الجنة والقوة”، “الأميركيون من المريخ والأوروبيون من الزهرة”. فالشراكة مع أوروبا لم تتوقف. ولم يحدث أن سمع الأوروبيون في مؤتمر ميونيخ للأمن مسؤولاً أميركياً يقول لهم كما قال نائب الرئيس الأميركي دي فانس “إن التهديد الذي يقلقني أكثر من غيره في شأن أوروبا ليس روسيا ولا الصين ولا أي لاعب خارجي آخر بل التهديد من الداخل وتراجع القارة عن بعض قيمها الأساسية”. وهو ما رد عليه قادة أوروبا بقوة. ومتى؟ خلال أكبر حرب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا.

غير أن أوروبا لا تستطيع الاستمرار في الهرب من قدرها بالاعتماد على المظلة الأمنية الأميركية. فهي أخذت إجازة طويلة من التاريخ، ولم يعد ينقصها سوى أن يحيلها ترمب على التقاعد. وفي رأي سيمون سرفاتي من مركز الدراسات الاستراتيجية في وارسو، فإن “أوروبا قوة في العالم، لكنها ليست قوة عالمية”. أما المؤرخ بول جونسون، فإنه يرى أوروبا “قارة مريضة تخلت عن تاريخها المولود من زواج ثقافة إغريقية- رومانية- مسيحية”. وما يحذر منه هو أن “التوتاليتارية لها جذور في الفلسفة الأوروبية، من روسو ونيتشه إلى هيغل وماركس”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن أميركا ليست اليوم في وضع أفضل. الرئيس أوباما قال، “نحن ندخل أزمة معرفية، والأميركيون فقدوا القدرة على التمييز بين الحقيقة والكذبة، وفي هذه الحال تفشل الديمقراطية”. وترمب يفلت إيلون ماسك مع ساطور على “الدولة العميقة والدولة الإدارية” ويقود عدداً من الأثرياء في قرارات سلطة أوليغارشية. ولعل أوروبا تعبت من التاريخ. فهي استعمرت العالم وحكمته على مدى قرون. ولم تتقاعد عن العمل كإمبراطوريات إلا بالقوة بعد الحرب العالمية الأولى ثم بعد الحرب العالمية الثانية.

والانطباع السائد هو أن أوروبا لا تستطيع الوقوف وحدها، من دون أميركا وراء أوكرانيا. حتى في حروب البلقان، فإن القوة الأميركية هي التي حسمت الصراعات. ولا مبرر لأن تبقى أوروبا عاجزة عن مواجهة روسيا وفي حاجة إلى تقديم أميركا نحو 70 في المئة من موازنة حلف “الناتو”، لا سيما بعدما رفع ترمب شعار، “ادفعوا ثمن الحماية، كأن أميركا صارت مثل بندقية للإيجار”. فالدخل القومي للاتحاد الأوروبي يوازي 12 ضعف الدخل القومي الروسي الذي كان قبل حرب أوكرانيا أقل من 40 في المئة من الدخل القومي الألماني، وعلى مستوى دخل مدينة نيويورك وحدها. وفي دول الاتحاد، حسب الإحصاءات، 1.3 مليون جندي. لكن التنافس العسكري مع موسكو مختل. وكل جهود فرنسا وألمانيا لدعوة دول الاتحاد إلى تبني استراتيجية أوروبية من خارج الـ”ناتو” وليست مستقلة عنه لا تزال تواجه عقبات وتحفظات ومخاوف على دول الرفاه وكسل العاملين منذ ما بعد “مشروع مارشال” في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لا بل إن “الاعتماد الكبير في أوروبا هو على الأسلحة الأميركية” كما يقول رئيس بولندا أندريا دودا.

وها هو ترمب يقرر التفاوض الثنائي الأميركي- الروسي على تسوية في حرب أوكرانيا، من دون دور لأوروبا التي قدمت كثيراً من المال والسلاح لكييف، ومن دون مقعد للرئيس فولوديمير زيلينسكي. وليس في البيت الأبيض من يصغي لقول أندريا كيندال تايلور ومايكل كوفمان إن “على أميركا وأوروبا الاستثمار في مقاومة روسيا الآن أو دفع ثمن أكبر لاحقاً”.

ولا رحمة للضعيف في عالم الكبار.

نقلاً عن : اندبندنت عربية