<p class="rteright">يحلم السوريون بوطن جديد يشمل جميع أطيافه (أ ف ب)</p>
كان رئيس الوزراء البريطاني الراحل هارولد ويلسون يقول إن “أسبوعاً في السياسة زمن طويل”، لكن المسافة الزمنية لانتظارات السوريين بعد السقوط الصامت لنظام الأسد مرشحة لأن تطول إلى ثلاثة أو أربعة أعوام، ولا شيء يوازي الوضوح سوى الغموض على الطريق بين الماضي والحاضر والمستقبل، فالكل يطرح السؤال التقليدي: سوريا إلى أين؟ وعلى الكل أن يطرح على نفسه السؤال الآخر، أين سوريا الجديدة على خريطة الصراع الجيو-سياسي عشية البحث عن نظام أمني إقليمي محروس دولياً؟
وليس ما رآه بعضهم من المفاجآت سوى ما كان، بطبائع الأمور، من التوقعات بعد اليوم الأول للثورات، فالسوريون انتظروا وعد “المؤتمر الوطني” فجاءهم عهد “مؤتمر النصر”، وتوقعوا المبادرة إلى “إعلان دستوري” يرسم الإطار العام لعمل السلطات ويحدد الضوابط للمسؤولين فجاءتهم قرارات أكبر مما أعلنه بول بريمر في العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين، وه شيء بدا مثل إلقاء قنبلة فراغية على ما كان للنظام من مؤسسات، وتجميد العمل بالدستور وحل مجلس الشعب وحل حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية وحل الجيش السوري وحل الأجهزة الأمنية وتسمية أحمد الشرع رئيساً انتقالياً لسوريا، ولا إعلان دستورياً يملأ الفراغ، وسلطة مطلقة، وبعضهم يقول إن نظام الأسد كان عملياً نوعاً من الفراغ عبر إلغاء الشعب في سوريا التي تتقاسم أرضها خمسة جيوش خارجية، لكن مؤسسات سوريا الجديدة لم تكتمل في غياب المؤسسات المحلولة، ومئات آلاف الذين صاروا خارج الخدمة ليسوا أرقاماً بل أناس بينهم أصحاب خبرة وبينهم مرتكبو جرائم وتعذيب، وبينهم من يعرف كيف يهدد الأمن، وكلهم في حاجة إلى تسوية أوضاع.
العمل في سوريا الجديدة يدار على مسارين في وقت واحد، مسار الاتصالات العربية والإقليمية والدولية مع الرئيس أحمد الشرع وبعض الوزراء، إذ يسمع السوريون وضيوف دمشق كلاماً يبعث على الاطمئنان إلى المشاركة في مصير البلد ومستقبله، ومسار العمل على الأرض حيث الإمساك بكل مفاصل السلطة على أيدي الفصائل في ولاية إدلب، فماذا يبقى للحكومة الشاملة الانتقالية؟
صحيح أن الثورات تعتمد دائماً على “الشرعية الثورية” التي تؤخذ السلطات باسمها ولو من دون دستور وقانون وقضاء وعدالة انتقالية لا انتقامية، لكن الصحيح أيضاً أن الثورة في سوريا ليست فقط ما حدث خلال الأيام الـ 10 الأخيرة التي سقط فيها النظام، بل هي أيضاً ما جرى في أعوام منذ بداية الثورة عام 2011 في درعا على أيدي أطفال المدرسة الذين كتبوا على جدرانها “إجاك الدور يا دكتور”، وجرى تعذيبهم على يد ابن خالة بشار عاطف نجيب الذي جرى اعتقاله أخيراً.
والصحيح أيضاً وأيضاً أن “الشرعية الثورية” لا تكتمل إلا بـ “الشرعية الشعبية” التي هي أبعد حتى من شرعية المؤتمر الوطني المفترض عقده بعد أسابيع، والمطلوب منه اتخاذ قرارات البناء الإيجابي لسوريا الجديدة بعد قرارات الهدم الطبيعي للمؤسسات القديمة على يد مؤتمر النصر، فلا يمكن اختصار حتى الفصائل المسلحة بـ 18 فصيلاً مسلحاً ضمهم “مؤتمر النصر” في غياب فصائل الشمال والجنوب وسواها، ولا مجال لاختصار السوريين الذين تظاهروا في الشارع وقاتلوا وتعرضوا للسجن والتعذيب أو المنفى والذين لجأوا إلى الخارج والذين صمتوا خوفاً من القتل، بالفصائل التي كانت محظوظة بنيل فرصة الإجهاز على النظام خلال أيامه الأخيرة، فكله كان التراكم الكمي البطي الذي أدى إلى تحول كيفي سريع، بحسب الديالكتيك الماركسي، ذلك أن ما ضاعف رصيد أحمد الشرع ورفاقه هو ارتياح الناس للخلاص من نظام سلطوي قاسٍ، لكن هذا الرأسمال يحتاج إلى زيادته عبر قيام نظام جديد قائم على الحريات والعدالة الاجتماعية، وهو معرض للتآكل إذا بدا النظام الجديد نسخة أخرى ولو معاكسة من النظام القديم، أي سلطات مطلقة بلا حريات، وحتى الحريات السياسية، على أهميتها، فإنها تبقى قاصرة من دون الحريات الاجتماعية، فالتزمت الرسمي في حياة الناس مشكلة كبيرة، ولا معنى لمجتمع رجال من دون مشاركة النساء في الحياة الاجتماعية والنشاط السياسي والثقافي والنقابي، فضلاً عن أن التنوع السوري الذي هو قوة كبيرة في حد ذاته، لم يبق فقط تنوعاً إثنياً وطائفياً وفكرياً، بل أضيف إليه تنوع آخر عبر الجيل الجديد الذي ولد في البلدان العربية والأوروبية خلال اللجوء، وصار في سن الشباب حاملاً أفكاراً جديدة يجب أن تُغني التنوع السوري، وإذا كان المؤرخ البريطاني أريك هو بسباون قد تحدث عن “اختراع التقاليد”، فإن سوريا التي عجزت الأنظمة السلطوية عن تغيير تقاليدها الاجتماعية الجميلة ليست في حاجة إلى اختراع تقاليد، وخصوصاً على أيدي متشددين.
يقول ألكسيس دو توكفيل “كلما بدأ عهد جديد سنشاهد في فرنسا دور الحكومة، وفي بريطانيا دور حاكم عظيم، وفي أميركا نتأكد من فن الترابط”، والتحدي في سوريا الجديدة هو الرهان على ما كان فيها من فن الترابط بين الناس.
نقلاً عن : اندبندنت عربية