جزر المالديف وجهة فريدة من نوعها، تجذب عشاق السفر من مختلف أنحاء العالم بجمالها الساحر. هذه الدولة الجزرية الصغيرة، الواقعة في قلب المحيط الهندي، تضم 1192 جزيرة مرجانية، منها 187 جزيرة مأهولة بالسكان. تمتاز بشواطئها البيضاء النقية، ومياهها الفيروزية الصافية، وأكواخها الفاخرة المعلقة فوق الماء، مما يجعلها إحدى أكثر الوجهات السياحية حصرية في العالم.

تعد جزر الأحلام الخيار المثالي للأزواج الباحثين عن الخصوصية والرومانسية في أجواء طبيعية خلابة، كما أنها وجهة مثالية لعشاق المغامرات البحرية، مثل الغوص والغطس في الشعاب المرجانية الغنية بالحياة البحرية. ومع ذلك فإن تكاليف الإقامة في المنتجعات الفاخرة قد تصل إلى آلاف الدولارات لليلة الواحدة، مما يجعلها وجهة حصرية لفئة معينة من السياح.

الاستجمام… محرك التحول في جزر المالديف

انطلقت السياحة في جزر المالديف رسمياً عام 1972 مع افتتاح أول منتجع سياحي، “قرية كورومبا”، وسط تحديات عدة، إذ تردد المستثمرون الدوليون في دخول سوق ناشئة وصغيرة ومعزولة جغرافياً، لكن الموقع الفريد للجزر، بشواطئها الرملية البيضاء ومياهها الشفافة، جعلها وجهة واعدة.

أسهم تطوير البنية التحتية، ولا سيما مطار ماليه الدولي الذي افتتح عام 1966، في فتح الباب أمام السياحة الدولية.

وفي ظل قيادة الرئيس إبراهيم ناصر، وضعت الحكومة المالديفية السياحة في صدارة أولويات التنمية الاقتصادية، مما أسهم في ازدهار القطاع سريعاً خلال العقود التالية.

 

في تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” عام 1977، صرح إبراهيم ناصر قائلاً “تسهم السياحة بصورة كبيرة في تنميتنا، فهي لا توفر لنا الثروة فحسب، بل تعزز أيضاً تواصلنا مع العالم”، مشيراً إلى أن عدد زوار البلاد في ذلك العام لم يتجاوز “325 زائراً فقط”.

وجهة عالمية

خلال السبعينيات والثمانينيات، ركزت الحكومة على بناء البنية التحتية السياحية، مما أدى إلى جذب استثمارات أجنبية تضاعفت بصورة ملاحظة.

أما في التسعينيات فبدأت جزر المالديف بتسويق نفسها كوجهة سياحية فاخرة، مستهدفة النخبة من السياح، إذ شهدت هذه المرحلة تطوير منتجعات تقدم تجارب استثنائية، مثل الفلل فوق الماء والجزر الخاصة.

وبحلول العقد الأول من القرن الـ21، باتت جزر المالديف واحدة من أبرز الوجهات السياحية الفاخرة عالمياً، إذ أصبح قطاع السياحة ركيزة أساسية للاقتصاد، إذ يشكل نحو 28 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وأكثر من 60 في المئة من إيرادات النقد الأجنبي.

 

بحسب أحدث تقرير صادر عن وزارة السياحة المالديفية، بلغ إجمالي عدد السياح الوافدين إلى البلاد 1505366 سائحاً، وهو رقم كبير مقارنة بعدد سكانها الذي يقدر بنحو 500 ألف نسمة.

وتعد الجزر الفاخرة في يومنا هذا من الوجهات الأكثر شعبية لقضاء شهر العسل، إذ توفر الخصوصية والرومانسية وسط طبيعة خلابة. كما أنها وجهة مثالية للمغامرين ومحبي الأنشطة البحرية، مثل الغوص والغطس. لكن الإقامة فيها ليست بمتناول الجميع، إذ تصل كلفة الليلة في بعض الفيلات الفاخرة إلى آلاف الدولارات.

بين الترف والتحديات

وعلى رغم ازدهار السياحة لأكثر من أربعة عقود لا تزال البلاد تواجه تحديات اقتصادية كبيرة، أبرزها الفقر عدم المساواة في الدخل وارتفاع الدين العام، فكيف لدولة رائدة في السياحة العالمية أن تظل معتمدة على المساعدات الدولية؟

تواجه جزر المالديف تحديات اقتصادية حادة، تشمل التفاوت الاجتماعي والديون المرتفعة والتأثيرات البيئية. ووفقاً لتقرير منظمة العمل الدولية (ILO)، يهيمن قطاع الخدمات على الاقتصاد بنسبة 72.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، بينما تهمش الزراعة والصناعة. وتشير التقارير إلى أن الجزر السكنية تعاني نقص الخدمات الأساسية مقارنة بالمنتجعات الفاخرة، مما يفاقم فجوة عدم المساواة.

 

أما على مستوى الديون، فيكشف البنك الدولي عن أن الدين العام يتجاوز 100 في المئة من الناتج المحلي، مع استحقاق قرض “الصكوك الإسلامية” بقيمة 500 مليون دولار في 2025، مما يثير مخاوف حول قدرة الحكومة على السداد.

من جهته يسلط صندوق النقد الدولي (IMF) الضوء على تأثير جائحة كوفيد-19، إذ أدى تراجع السياحة الحاد إلى ركود اقتصادي زاد من الضغوط المالية على البلاد.

الفساد والضرائب المرتفعة

وأشار خبير الضيافة لثلاثة عقود والمدير العام لأفخم منتجعات المالديف شميم محمد إسماعيل، ضمن حديثه لـ”اندبندنت عربية”، إلى أن قطاع السياحة في المالديف على رغم نجاحه يواجه تحديات كبيرة تعرقل استدامته، أبرزها تفشي الفساد الذي يعوق التنمية الاقتصادية. وأضاف أن الضرائب المتزايدة التي تفرضها الحكومة تحت مسمى “التنمية الاجتماعية” أسهمت في ارتفاع كلفة السياحة، مما جعل المالديف وجهة باهظة الثمن مقارنة بدول منافسة، داعياً إلى مراجعة السياسات الضريبية لتعزيز القدرة التنافسية للقطاع.

وفي ما يتعلق بدعم السكان المحليين في قطاع السياحة، أوضح أن الحكومة لا توفر برامج متخصصة لتمكينهم أو تأهيلهم لشغل مناصب إدارية عليا في المنتجعات، وهو ما أدى إلى سيطرة الشركات الاستثمارية الأجنبية على معظم المنشآت السياحية.

وعن أبرز التحديات الاقتصادية أشار إلى أن سوء إدارة الموارد المالية مقترناً بارتفاع مؤشرات الفساد، يمثل عائقاً أساسياً أمام نمو الاقتصاد الوطني. وأضاف أن اعتماد المالديف بصورة شبه كاملة على قطاع السياحة، بدلاً من تنويع مصادر الدخل، جعلها عرضة لصدمات اقتصادية حادة في حال وقوع أزمات عالمية، مستشهداً بجائحة كوفيد-19 وتسونامي عام 2024، إذ تأثرت البلاد بصورة كبيرة نتيجة الانكماش السياحي.

وفي هذا السياق شدد إسماعيل على ضرورة تبني استراتيجية لتنويع الاقتصاد، مستشهداً بتجارب ناجحة لدول إسلامية مثل السعودية، التي عززت مواردها عبر الاستثمار في قطاعات متنوعة. وأوضح أن محاولات الحكومة المالديفية لتطوير قطاع الصيد، عبر بناء مرافق التخزين البارد ومصانع تعليب التونة، لم تحقق حتى الآن نتائج ملموسة، مما يعكس الحاجة إلى جهود أكثر فاعلية في هذا المجال.

المستفيد الأول هو المستثمر الأجنبي

وفي ما يتعلق بملكية المنتجعات، كشف إسماعيل عن أن 70 في المئة منها تعود لمستثمرين أجانب، وهو ما أسهم في انخفاض احتياطات العملة الأجنبية لدى الدولة. كما أشار إلى أن الحكومة لا تقدم أي حوافز أو تسهيلات مالية للمستثمرين، بل تفرض عليهم مساهمات إجبارية وتبرعات متكررة، مما دفع بعضهم إلى مغادرة البلاد نتيجة ارتفاع التكاليف ومتطلبات الصيانة الباهظة.

أما في شأن تأثير التغيرات السياسية في المالديف على السياحة والاستثمارات الأجنبية، فيرى إسماعيل أن بعض الإصلاحات التنظيمية، لا سيما المتعلقة بالاستدامة البيئية، قد تعوق تدفق الاستثمارات، إذ تستغل أحياناً من السياسيين لفرض أعباء مالية إضافية على المستثمرين الأجانب، مما ينعكس سلباً على بيئة الأعمال.

وفي إطار المبادرات الحكومية لتوفير مساكن ميسورة الكلفة وفرص عمل للسكان المحليين، أشار إلى أن معظم هذه المشاريع تعتمد على المساعدات الخارجية أو القروض، وهو نهج غير مستدام قد يؤدي إلى أزمات اقتصادية طويلة الأمد.

 

أما على الصعيد الخارجي، فيرى إسماعيل أن التوترات الجيوسياسية مع الصين والهند من أكبر العقبات التي تواجه البلاد حالياً، إذ تؤثر بصورة مباشرة في الاستقرار الاقتصادي والمعيشي للمواطنين. وأكد ضرورة تبني الحكومة نهجاً دبلوماسياً لحل هذه الأزمات، حفاظاً على مصالح المالديف الاقتصادية والسياسية.

وختم خبير الضيافة لثلاثة عقود والمدير العام لأفخم منتجعات المالديف شميم محمد إسماعيل، في إجابته لـ”اندبندنت عربية”، بأن تفوق بلاده في قطاع السياحة الفاخرة يعود لتطوير البنية التحتية والدعم الحكومي، واعتماد لوائح تنظيمية تضمن مستويات عالية من الفخامة، فضلاً عن توفير تجارب سياحية حصرية ومتنوعة.

تنويع الاقتصاد

وأشار عضو البرلمان المالديفي أحمد أزان، في تصريح لـ”اندبندنت عربية”، إلى أن حاجة بلاده إلى المساعدات الدولية تعود لعوامل متعددة. وعلى رغم أن قطاع السياحة يحقق إيرادات بملايين الدولارات سنوياً، فإن المالديف تواجه تحديات اقتصادية تعوق تحقيق الاستقلال المالي، من أبرزها الاعتماد الكبير على الواردات والتوزيع الجغرافي المشتت والتغير المناخي.

وأضاف أن جزءاً كبيراً من الإيرادات يخصص للبنية التحتية والرعاية الصحية والتعليم، إلا أن سوء الإدارة والإنفاق غير الفعال يعرقلان التنمية، وأكد أن الحكومة تعمل على تعزيز الشفافية وتنويع الاقتصاد لضمان الاستدامة.

وأشار إلى أن صندوق النقد الدولي ومنظمات دولية أخرى سلطت الضوء على مخاوف تتعلق بالحكم والإدارة المالية في جزر المالديف، موضحاً أن “الفساد يقوض النمو الاقتصادي من خلال تحويل الموارد بعيداً من المشاريع التنموية الأساسية وتقليل ثقة المستثمرين”. ولفت إلى أن الحكومة تعهدت تحسين الشفافية المالية، وتعزيز المؤسسات المعنية بمكافحة الفساد، وضمان استخدام الأموال العامة، خصوصاً العائدات السياحية، بفعالية لدعم التنمية المستدامة.

وأكد أزان أن بلاده تعتمد بصورة كبيرة على السياحة، مما يجعل اقتصادها عرضة للصدمات العالمية مثل الأوبئة والكوارث الطبيعية والتوترات الجيوسياسية.

ولتخفيف هذه الأخطار تركز الحكومة على تنويع الاقتصاد من خلال قطاعات مثل الصيد والطاقة المتجددة والخدمات المالية، إضافة إلى تنفيذ سياسات لدعم ريادة الأعمال المحلية وتعزيز التحول الرقمي لتقليل الاعتماد على قطاع واحد فقط.

كما أوضح أن معظم المنتجعات السياحية تديرها كيانات خاصة، سواء محلية أم أجنبية، بينما تلعب الشركات المملوكة للدولة (SOEs) دوراً غير مباشر في دعم القطاع عبر تطوير البنية التحتية وتحسين الخدمات العامة وتعزيز وسائل النقل. وأكد أن الحكومة مستمرة في تشجيع الاستثمار المحلي، مع الحفاظ على بيئة استثمارية جاذبة للمستثمرين الأجانب.

وفي ما يتعلق بجهود الحكومة لتنويع الاقتصاد قال عضو البرلمان إن السلطات تركز على تنويع الأسواق السياحية وتعزيز البنية التحتية، والترويج لجزر المالديف كوجهة سياحية فاخرة ولكن في متناول الجميع. وأشار إلى أن مبادرات مثل تطوير سياحة بيوت الضيافة، وتحسين وسائل النقل بين الجزر، وإطلاق حملات تسويقية استراتيجية في الأسواق الناشئة، أسهمت في تعزيز قدرة البلاد على الصمود في وجه الأزمات. كما لعبت الشراكات بين القطاعين العام والخاص والاستثمار في التسويق الرقمي دوراً رئيساً في الحفاظ على تنافسية البلاد في القطاع السياحي.

وختم حديثه قائلاً “تؤثر الأزمات العالمية بصورة كبيرة على جزر المالديف نظراً إلى اعتمادها الأساس على السياحة، إذ أدت جائحة كوفيد-19 إلى انخفاض حاد في أعداد السياح، مما أثر في الإيرادات والتوظيف، إلا أن البلاد تكيفت بسرعة عبر الترويج لمفهوم السياحة الآمنة”.

وبهذا السياق التقت “اندبندنت عربية” موظفة عربية تعمل في منتجع فاخر بالمالديف، إذ تتجاوز كلفة الليلة فيه آلاف الدولارات. تحدثت عن واقع العمالة في هذه المنتجعات، مشيرة إلى تفاوت الأجور بين الجنسيات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أوضحت أن عمال النظافة القادمين من بعض الدول مثل الهند، يحصلون على رواتب تتراوح بين 300 و400 دولار شهرياً، على رغم عدم امتلاكهم شهادات أكاديمية، مشيرة إلى أن الامتيازات التي يحصلون عليها محدودة مقارنة بالعاملين الآخرين.

وأكدت أن المعيشة في المالديف مرتفعة جداً، خصوصاً للموظفين الذين يقيمون هناك، فحتى مع زيادة الأجور تبقى تكاليف الحياة مرتفعة، مما يجعل تغطية الاحتياجات الأساسية أمراً صعباً.

وأضافت “على رغم أن السياحة تعد مصدر دخل رئيس للبلاد وتوفر فرص عمل للسكان المحليين، فإن العائدات الأكبر تذهب للمستثمرين وأصحاب المنتجعات، بينما يحصل السكان على حصة صغيرة منها، مما يؤدي إلى تفاوت اقتصادي ملاحظ”.

وأشارت في حديثها إلى أن المنتجعات تعتمد بصورة كبيرة على العمالة الأجنبية بسبب نقص الكفاءات المحلية، وهو ما يجعل الوظائف ذات الرواتب العالية غالباً من نصيب الوافدين، بينما يواجه المواطنون المحليون صعوبات في الحصول على وظائف ذات دخل مجز، في ظل ارتفاع تكاليف السكن والغذاء.

نقلاً عن : اندبندنت عربية