يستلهم الرسام محمد بنوي أعماله من “كتاب الموتى – الخروج إلى النهار” الذي يُعدّ أحد أبرز نصوص الأدب الجنائزي الفرعوني، ويضم عشرات البرديات الموثقة بين عصر الدولة الحديثة وسقوط الأسرة الـ26 (من القرن الـ16 إلى القرن السادس قبل الميلاد). وهذه النصوص تحمل بين طياتها تصورات المصري القديم عن الحياة والموت والبعث، وتجسّد بعمق رؤيته الفلسفية للوجود.

يشير رمز “كا” هنا إلى مفهوم مصري قديم يعبر عن “طاقة الحياة” التي تبقى مع الإنسان بعد وفاته، ممثلة برمز اليدين المرفوعتين. يختلف هذا المفهوم عن “البا” التي يُرمز إليها بطائر، لتجسد الروح التي تغادر الجسد. واستند بنوي في معرضه إلى هذه الرموز ليشيّد عالماً بصرياً يتسم بالتناغم بين التاريخ والحداثة.

في مساحة العرض، تلفت الانتباه هذه المجسمات الكبيرة المصنوعة بخامات مختلفة لرمز الجعران وهو مثبت على الحائط. هذا الرمز الذي يشير إلى التجدد والخلق في الثقافة المصرية القديمة هو أول ما تقع عليه عينك عند الدخول، وأعاد الفنان تشكيله بأسلوب معاصر. كما استبدل الفنان الكرة التي يدفعها الجعران بنجمة خماسية، وهي وحدة زخرفية تقليدية تحمل دلالات روحية وجمالية عند المصري القديم. تتكرر هيئة الجعران والنجمة ورمز الـ “كا” في أعمال المعرض بتكوينات هندسية متنوعة، متمثلة في صفوف أو دوائر محكمة البناء، مما يعكس بوضوح أسلوب بنوي الذي يمزج بين الدقة الهندسية والابتكار الفني.

يعتمد بنوي في أعماله على خامات ووسائط متعددة، مما يضفي على تكويناته عمقاً وبُعداً فريدين. كما يمزج الفنان في أعماله بين التصوير المسطح والنحت المجسم، ويوظف مواد مثل الخشب والمعدن والرمال الملونة، مما يجعل أعماله أكثر تفاعلية وغنى بصرياً. ويضفي هذا الأسلوب الذي يعتمد عليه الفنان في بناء أعماله حساً ملموساً، فتبدو العناصر وكأنها تنبض بالحياة، حاملةً رسائل عابرة للزمن بين الماضي والحاضر.

ما يميز تجربة بنوي هو ابتعاده من النمطية والاستنساخ المباشر لرموز الحضارة المصرية القديمة. وهو يعيد هنا صياغة هذه الرموز بمنظور معاصر، مما يمنحها حياة جديدة. وهذه المقاربة تبرز قدرة الفنان على استيعاب جماليات الفن القديم وتحويلها إلى تكوينات عصرية تحاكي المشهد البصري الحديث، من دون أن تفقد أصالتها.

الطابقان اللذان احتضنا المعرض شهدا عرضاً منسجماً لمجموعة من الأعمال التي تدمج بين العناصر البصرية الفرعونية والسياق الفني المعاصر. وهذه التشكيلات التي تشمل صفوفاً منتظمة ودوائر هندسية دقيقة، تقدم تجربة بصرية غنية تأخذ المشاهد في رحلة بين الزمنين. فعبر المزج بين الزخارف التقليدية ومواد الحداثة، يظهر بنوي كيف يمكن للفن أن يكون جسراً يربط بين الإرث الثقافي والابتكار الفني.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويبرز اختيار بنوي للجعران كمحور رئيس في معرضه أبعاداً أخرى، فالجعران الذي يشير في الكتابة المصرية القديمة إلى فعل الكينونة، يضفي على الأعمال معنى عميقاً يرتبط بديمومة الحياة والوجود الإنساني. كما يعيد استخدام النجمة الخماسية ليعكس علاقة الإنسان بالكون، في إشارة إلى التوازن والجمال الكوني.

ما يجعل أعمال الفنان محمد بنوي استثنائية هو قدرتها على مفاجأة المشاهد ودفعه إلى التساؤل. وهذه التشكيلات التي تبدو بسيطة في ظاهرها تحمل في طياتها كثيراً من المعاني، كما أن توظيفه لعناصر التراث المصري القديم بأسلوب جديد، يضع بنوي نفسه ضمن أبرز الفنانين الذين نجحوا في استلهام الجماليات الفرعونية من دون الوقوع في فخ الاستنساخ.

لا تحاكي هذه الأعمال رموزاً بصرية فحسب، بل تحمل رسائل أعمق حول الاستمرارية الإنسانية وارتباطها بجذورها الثقافية. ويقف معرض “كا: طاقة الحياة” كدليل على هذا الربط بين العصور، ويبرز كيف يمكن للفن أن يكون لغة عالمية تجمع بين الأزمنة والأماكن. أما هذه التشكيلات الملونة والمصنوعة ببراعة من خامات مختلفة، فترسم لنا خيطاً بديعاً يربط بين الماضي والحاضر، ويبقى هذا المزيج الساحر في أعمال محمد بنوي مصدراً للدهشة والتساؤل.

نقلاً عن : اندبندنت عربية