البداية بالنسبة إلى غلام كانت عندما سلمه أحد زملائه استمارة لتعبئتها، عارضاً عليه فرصة للخروج من وضعه الراهن، وطوال 12 عاماً كان منضوياً في صفوف وحدة نخبوية من القوات الخاصة الأفغانية التي أنشأتها ودربتها الحكومة البريطانية، وقامت بدفع رواتب أفرادها. أما الآن وبعدما أجبرته الظروف على الفرار من “طالبان” ومغادرة بلاده إلى إيران، فهو يعمل لساعات طويلة في مصنع لإعادة التدوير، محاولاً في الوقت نفسه تفادي ملاحقات الشرطة له بسبب وضعه غير القانوني، ولعدم حيازته الوثائق اللازمة للبقاء في البلاد.
زميله الأفغاني الذي أعطاه النموذج كان على علم بخلفيته العسكرية وخبرته القتالية، واعتقد أن العرض قد يلقى قبولاً لديه. وبالنسبة إلى الذين هم في وضع غلام، فإن الخطوة الأولى تكون بتسلم مثل تلك الاستمارة، بينما يتلقى آخرون اتصالات هاتفية من محاربين أفغان سابقين، أو تقدم لهم عروض عمل مباشرة وجهاً لوجه. لكن مهما اختلفت الوسيلة، وبغض النظر عن التفاصيل، فإن مضمون العرض المقدم لهؤلاء لعناصر النخبة، الكوموندوز، الذين دربتهم المملكة المتحدة واحد إلى حد بعيد: الانضمام إلى القوات الروسية بقيادة فلاديمير بوتين للقتال ضد أوكرانيا.
كان غلام عضواً في “القوة الإقليمية [البرية] الأفغانية 444” Afghan Territorial Force 444 (ATF444) التي أنشأها البريطانيون إلى جانب “قوة الكوماندوز الأفغانية 333” Commando Force 333 (CF333) خلال العقد الأول من القرن الـ21. وحاربت هاتان القوتان اللتان تعرفان باسم “Triples” جنباً إلى جنب مع القوات البريطانية ضد “طالبان”. لكن هذه الشراكة عرضت مقاتلي النخبة هؤلاء للخطر منذ إمساك حركة “طالبان” بمقاليد البلاد في 2021. وعلى رغم أن حكومة المملكة المتحدة تعيد النظر في قرارات رفض منح الحق في اللجوء إلى بريطانيا لآلاف من هؤلاء المحاربين القدامى، إلا أن هذه العملية تسير ببطء شديد. ويعيش كثير من هؤلاء في حال من الخوف مع غياب التواصل مع وزارة الدفاع (البريطانية) أو ندرته في ما يتعلق بمصيرهم.
وكشف تحقيق أجرته “اندبندنت” بالتعاون مع غرفة الأخبار الاستقصائية “لايت هاوس ريبورتس” Lighthouse Reports والموقع الأفغاني “اطلاعات روز” Etilaat Roz، أن عناصر وحدات “القوة الإقليمية الأفغانية 444″، الذي تركوا في حال من عدم اليقين، أصبحوا هدفاً لخصوم بريطانيا الذين يسعون إلى استغلال أوضاعهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فالحرب التي يشنها فلاديمير بوتين في أوكرانيا، التي تقترب الآن من عامها الثالث، أثبتت أنها طويلة ومكلفة بالنسبة إلى موسكو. إذ لجأ الجيش الروسي إلى تجنيد مدنيين وحتى سجناء، وقام بإرسالهم إلى الجبهة الشرقية التي أطلق عليها لقب “مفرمة اللحم”. ويعتقد أن الخسائر البشرية الروسية تخطت 700 ألف شخص، فيما تجاوز عدد القتلى عتبة 100 ألف. ومع مواصلة السلطات الروسية البحث عن عن [جنود] وسعت نطاق التجنيد إلى الخارج ليشمل مقاتلين من كوبا وسوريا والهند، وأخيراً من كوريا الشمالية، للانضمام إلى صفوفها.
كير جايلز وهو زميل استشاري بارز وخبير في شؤون روسيا وأوراسيا في مركز الأبحاث “تشاتام هاوس” Chatham House، أشار إلى أن الأفغان الذين يتمتعون بخبرة قتالية نخبوية، سيكونون بالتأكيد موضع استقطاب الجهات التي تتولى مهمة التجنيد العسكري. وأوضح أن “روسيا تحاول استنفاد مختلف مصادر القوى البشرية الممكنة لتعزيز قواتها المسلحة على الجبهات، من دون الحاجة إلى إعلان تعبئة شاملة داخل البلاد”.
وأضاف جايلز: “إننا أمام وضع من المرجح أن يرحب فيه تحالف فضفاض من دول حليفة لروسيا – أي إيران وكوريا الشمالية والصين – بتوفير سبل لدعم موسكو في حربها على أوكرانيا. وسبق أن رأينا كوريا الشمالية وهي ترسل قوى بشرية إلى حليفتها، ولن يكون مستغرباً أن يتسع هذا النمط ليشمل دولاً أخرى، خصوصاً إذا كان من الممكن إنكار تورطها. على سبيل المثال، قد تقوم إيران بتقديم الدعم لروسيا من طريق تجنيد مواطنين من دول أخرى”.
وإثر التحدث مع 14 عنصراً من قدامى المحاربين الأفغان في إيران، إلى جانب عشرات آخرين في أفغانستان، تبين لنا أن الموجة الأولى من عروض التجنيد الروسية لعسكريين أفغان سابقين، حصلت في عام 2023، ثم تلتها موجة ثانية في وقت سابق من هذه السنة.
واطلعنا على عدد من استمارات التجنيد، بما فيها الاستمارة التي قدمت لغلام، التي جرى توزيعها على قدامى المحاربين الأفغان في إيران. هذه النماذج، المكتوبة باللغة الدارية، تسأل عن معلومات شخصية وتفاصيل الاتصال بمعبيها.
إحدى الاستمارات طرحت أسئلة من قبيل: “ما مدى معرفتك بالأمور العسكرية وبطبيعة عمل الجندي؟ وما خبرتك العسكرية؟”، كما طلب النموذج معلومات عن المستوى التعليمي لمقدم الطلب وما إذا كانت لديه رخصة قيادة مركبة.
وتناهى إلى غلام الذي اعتقلته الشرطة الإيرانية وجرى ترحيله إلى أفغانستان قبل أن يحسم قراره، أن جنرالاً أفغانياً سابقاً هو الذي يشرف على عملية التجنيد هذه، وكانت الخطوة التالية هي إجراء مقابلة معه لتقييم مستوى خبرته.
كذلك أفاد بعض الجنود السابقين في الوحدات الأفغانية الخاصة الذين انتقلوا إلى إيران، بأنهم تلقوا عروض تجنيد من معارف من عناصر سابقين في الجيش الأفغاني أو من رجال أمن، في حين تواصل مهربو بشر أفغان مع آخرين بصورة شخصية. وقال مشرف – وهو طبيب سابق في الجيش الأفغاني – إنه عقد اجتماعاً وجهاً لوجه مع أشخاص روس في سفارة بلادهم في طهران في شأن التجنيد.
وزعم مشرف أنه مثل مئات من الجنود السابقين في القوات الأفغانية الخاصة خلال المفاوضات مع الروس، قائلاً: “كنت أذهب إلى السفارة الروسية لمناقشة عملية التجنيد مع مسؤولين روس، وقررنا الانتقال إلى روسيا مع هؤلاء الأفراد السابقين في الوحدات الخاصة البالغ عددهم 200 عنصر. كنا نعتقد أنه حيث سنحصل على طعام، سنتمكن من البقاء على قيد الحياة. لقد اضطررنا إلى اتخاذ هذا القرار لأن الحياة في إيران أصبحت صعبة للغاية”.
وأضاف: “كنت أجري محادثات مباشرة مع الروس، وعرضوا علي راتباً شهرياً قدره 3 آلاف دولار (2370 جنيهاً استرلينياً).
وأوضح أن كل شيء كان “جاهزاً للمضي قدماً”، لكن بعد التشاور مع قائده السابق في وحدة “تريبلز”، نصح بعدم الإقدام على مثل هذه الخطوة. وقال إنه في تلك المرحلة اختار عدم الذهاب إلى روسيا، وسار على خطاه العناصر الآخرون الذين قام بتجنيدهم.
أكد مشرف أن بعض أصدقائه جندوا هذه السنة، وحصلوا على تأشيرات سفر بواسطة السفارة الروسية في طهران. وقال: “أعرف أن بعض الأشخاص ذهبوا من خلال البرنامج إلى أوكرانيا”، لكنه لم يتمكن من تقديم أدلة تثبت ذلك.
أما حميد الذي كان ضابط تدريب في “القوة البرية الأفغانية 444” خلال مسيرته المهنية التي دامت 13 عاماً، فأفاد بأنه في غضون 18 شهراً، قدم له وسطاء أفغان ثلاث مرات عروض عمل مع القوات الروسية، وذلك في الفترة التي كان فيها يشتغل في مجال البناء في إيران.
وأكد أن أحد هذه العروض جاء في وقت سابق من هذه السنة، وأوضح قائلاً: “تلقيت في البداية عرضين في غضون أسبوع واحد، ثم مرة أخرى بعد شهر. وكان الأفراد الذين اتصلوا بي – من الأفغان المتورطين في الاتجار بالبشر أو مقاولين – أي الأشخاص الذي يسهلون عمليات تهريب الأشخاص عبور الحدود إلى دول أخرى”.
وتابع: “أبلغوني بأن هناك عناصر من الأفغان في روسيا جندوا بالفعل، وأن مهمتي تقضي بالتوجه إلى هناك وتدريبهم بصورة احترافية. إنني في الواقع لا أعرف شيئاً عما يحدث في روسيا، لأنني كنت أخبرتهم بوضوح أنني غير مهتم بالعرض. لست على استعداد للانخراط في أية معارك أو مهمات أخرى، ولا سيما من أجل دولة أخرى. ولدي آمال كبيرة في نقلي إلى المملكة المتحدة، وسأظل مخلصاً للبريطانيين”.
وعلى رغم أن أياً من عناصر وحدات “تريبلز” الذين تحدثنا معهم لم يقبل العرض، إلا أن الوضع بالنسبة إلى الأفغان الموجودين في إيران يزداد صعوبة وتعقيداً، فالحكومة الإيرانية تخطط لترحيل نحو مليوني مهاجر، معظمهم من الأفغان، بحلول شهر مارس (آذار) المقبل، في حين تواصل القيود الجديدة الحد من الحريات القليلة التي كانوا يتمتعون بها. ومع تفاقم هذه الضغوط، أصبح الخيار أمام كثير من هؤلاء الأفغان أكثر صعوبة: إما قبول عرض القتال إلى جانب روسيا، أو المخاطرة بالعودة لأفغانستان، إذ سيضطرون هم وأسرهم إلى مواجهة حركة “طالبان”، التي قامت بضرب وتعذيب وقتل عشرات منهم، منذ أن استولت على السلطة في أغسطس (آب) عام 2021.
وفي هذا السياق، تواجه عملية مراجعة طلبات الأفغان الذين عملوا جنباً إلى جنب مع القوات البريطانية، ورفضت طلباتهم ضمن برنامج إعادة التوطين، تأخيرات كبيرة. ففي شهر فبراير (شباط) الماضي، أعلنت وزارة الدفاع البريطانية أنها ستقوم بإعادة النظر بنحو ألفي طلب سبق أن جرى رفضها بموجب المخطط المعروف بـ”سياسة إعادة توطين ومساعدة الأفغان” (أراب) Afghan Relocations and Assistance Policy (Arap – في غضون 12 أسبوعاً. وجاء ذلك في أعقاب تحقيق مشترك أجرته “اندبندنت” في العام الماضي بالتعاون مع “لايت هاوس ريبورتس” وشبكة “سكاي نيوز”، الذي كشف عن رفض السلطات البريطانية لطلبات مئات من أفراد وحدات “تريبلز” الأفغانية، المقدمة بموجب البرنامج. وألمح مسؤولون حكوميون إلى أنهم يتوقعون تعديل القرار المتخذ في ما يتعلق بربع الطلبات التي يجري النظر فيها (بحيث يمنح المتقدمون فرصة ثانية بعد رفض طلباتهم في البداية).
لكن بعد مرور نحو تسعة أشهر، لا تزال عملية المراجعة غير مكتملة. وأقر وزير الدولة البريطاني لشؤون القوات المسلحة لوك بولارد في أكتوبر (تشرين الأول)، بأن التأخير كان “مصدر أسف عميق”، مشيراً إلى أن “العملية ما كان ينبغي أن تستغرق هذا الوقت كله”.
وفي هذا الإطار، أعلنت الحكومة البريطانية أنه أعيد تقييم أكثر من ثلاثة أرباع الطلبات حتى الآن، وأن القرارات الإيجابية بدأت تحظى بمصادقة بولارد.
أما الطلبات التي تعتبر غير مؤهلة بموجب المراجعة، فلن يخطر أصحابها. لا بل إن الحكومة البريطانية قررت عدم إبلاغ المتقدمين الأفغان الذين تخضع طلباتهم للمراجعة بأن قضاياهم ما زالت قيد إعادة النظر.
في المقابل يواصل عناصر وحدات “تريبلز” في كل من إيران وأفغانستان العيش في حال من الخوف الدائم وعدم الاستقرار، عاجزين عن أن يحظوا بحياة طبيعية في وطنهم. ووسط هذه المعاناة، يحتفظون بالأمل في أن يكونوا من بين نحو 500 شخص قيل إنه سيكون بإمكانهم الانتقال إلى بر الأمان في المملكة المتحدة.
في الوقت ذاته أفاد رافي هوتاك المترجم الأفغاني السابق الذي ما زال على تواصل مع أحد عناصر وحدات “تريبلز” في إيران، بأنه أبلغ عن التقاء ضباط أفغان سابقين من القوات الخاصة في اجتماعات للبحث في إمكان الانضمام إلى القتال إلى جانب روسيا.
وأكد هوتاك على “ضرورة أن تسرع وزارة الدفاع البريطانية عملية المراجعة”، مشيراً إلى أن “هذه المسألة لا يجوز تقييمها استناداً إلى الأرقام فحسب، بل من منطلق المسؤولية الأخلاقية”. وقال إن “هؤلاء هم الذين وقفوا إلى جانبنا وأدوا واجبهم، واليوم لا يجدون أرضاً يعودون لها ولا بلداً يحتضنهم.”
وفي تعليق على ما تقدم قال متحدث باسم وزارة الدفاع البريطانية: “لقد أوضح وزير الدولة لشؤون القوات المسلحة أخيراً أمام البرلمان أننا ندرك تماماً مدى الإحباط الذي تسبب به طول فترة المراجعة”.
وأضاف: “تمت معالجة القضايا الأساسية المرتبطة بها، ونحن نعمل بجد على ضمان تمكين المؤهلين من العناصر السابقين في وحدات ’عائلاتهم، من الانتقال إلى المملكة المتحدة لبدء حياة جديدة”.
وتابع المتحدث قائلاً: “تظل إعادة النظر في طلبات هؤلاء أولوية قصوى بالنسبة إلى الحكومة التي أصدرت توجيهات واحة بضرورة إتمامها بسرعة، مع الحرص على إيلائها العناية والدقة اللتين تستحقهما”.
يشار إلى أن عضواً سابقاً في الجيش البريطاني، خدم إلى جانب عناصر وحدات “” في أفغانستان، حذر من أن كثيرين منهم باتوا على وشك الانهيار. وقال: “إن هؤلاء هم على دراية تامة بأسلوب عمل المملكة المتحدة وطريقة إدراة عملياتها، بدءاً من جمع المعلومات الاستخبارية، وصولاً إلى تنفيذ العمليات العسكرية المتخصصة. لقد تم تبادل كم هائل من المعرفة معهم على مدار العقدين اللذين عملنا خلالهما جنباً إلى جنب”.
وخلص إلى القول: على رغم عدم الوفاء بالوعود السابقة، لا يزال عناصر وحدات “تريبلز” مخلصين للمملكة المتحدة، ومع ذلك فإن كثيرين منهم بالكاد يتمكنون من البقاء على قيد الحياة، وهم غارقون في الفقر والخوف، وسيأتي وقت لن يعود بإمكانهم الانتظار أكثر”.
جرى تغيير الأسماء لضمان حماية هويات أفراد الجيش الأفغاني السابقين، الذين تحدثوا شرط عدم الكشف عن هويتهم.
نقلاً عن : اندبندنت عربية