خلال وقت ترسخ فيه روسيا موطئ قدم عسكرية لها داخل منطقة الساحل الأفريقي شديدة الاضطراب، تسعى البلاد أيضاً إلى قيادة حملات دعاية موجهة لتحصين نفوذها وتلافي مصير فرنسا التي واجهت قواتها وممثلوها عمليات طرد متوالية.
وأنشأت روسيا قبل أشهر ما يعرف بـ”المبادرة الأفريقية” وهي عبارة عن مدرسة للصحافة داخل العاصمة المالية باماكو، تقوم بتأسيس عشرات الطلاب في مجال الإعلام.
وأفادت صحيفة “لوموند” أن الهدف من جهود “المبادرة الأفريقية التي تديرها مباشرة الاستخبارات الروسية هو تعزيز مصالح موسكو في القارة السمراء”. ومنذ إنشائها اقتصر عمل “المبادرة الأفريقية” وطاقمها على وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، إذ تم توجيه انتقادات علنية للسياسات الغربية داخل القارة السمراء على غرار البرامج الصحية والمساعدات الإنسانية وغيرهما.
وأطلقت “المبادرة الأفريقية” قنوات على منصة “تيليغرام” يتابعها الآلاف وهي قنوات نشرت مقالات تتحدث على سبيل المثال عن إنشاء الجيش الأميركي لمختبرات بيولوجية في الدول الأفريقية، لإجراء تجارب على السكان المحليين.
ولم يقتصر مجال عمل “المبادرة الأفريقية” على المجال الصحافي، إذ نظمت خلال وقت سابق “مؤتمراً دولياً للرعاية الصحية والسيادة” في العاصمة البوركينية واغادوغو، وهو مؤتمر شهد انتقادات لاذعة للغرب وشركاته المتخصصة في الأدوية.
تحدي الهيمنة الغربية
ومنذ أشهر، تواجه روسيا انتقادات في شأن حملات دعائية تقودها بهدف الحفاظ على مصالحها، إذ سبق أن كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية أن “وكلاء الاستخبارات الروسية يسعون إلى تقويض النفوذ الأميركي عبر نشر معلومات مضللة تشكك في عديد من البرامج والسياسات الغربية”.
ولفتت الصحيفة الأميركية إلى أن “من بين هذه المعلومات، نجد معلومة تزعم أن الأفارقة كانوا موضع اختبار في برامج أبحاث بيولوجية تابعة للبنتاغون من خلال حقنات وأدوية جُربت عليهم”.
وقال المؤرخ والباحث السياسي ورئيس تحرير “ديبلومات ميديا” رولان لومباردي إن “مدارس الدعاية التي أنشأتها روسيا في أفريقيا ليست مجرد أداة لاستعراض النفوذ فحسب، بل أيضاً أداة لإعادة تشكيل النظام العالمي وفقاً للمصالح الروسية من خلال تحدي الهيمنة الغربية”.
وفي تصريح لـ”اندبندنت عربية” أردف لومباردي أن “من الممكن أن تنجح الاستراتيجية الروسية في أفريقيا، بما في ذلك تدريب الدعاة بصورة جيدة على المدى القصير من خلال تعزيز الشراكات المحلية وإضعاف المواقف الغربية… ومع ذلك فإنه يحمل أخطاراً بالنسبة إلى موسكو نفسها، إذ قد تؤدي المشاركة الروسية المفرطة إلى خلق توقعات غير واقعية بين حلفائها الأفارقة، ناهيك بأنه إذا فشلت الأنظمة المدعومة من روسيا بأفريقيا في تلبية توقعات شعوبها فقد تشهد موسكو تشويهاً لصورتها”.
وبين أن “هذه الدعاية الروسية تنطوي على عديد من الأخطار على غرار زيادة عدم الاستقرار إذ قد يؤدي نشر الرسائل الشعبوية والمعادية للغرب إلى تفاقم التوترات الداخلية في هذه البلدان، ولا سيما من خلال تأجيج الخطابات الاستقطابية”.
وشدد لومباردي على أن “روسيا تستهدف في حملاتها الدعائية داخل أفريقيا الدول القريبة تاريخياً من الغرب مثل مالي، إذ تعتمد موسكو على الاستياء الشعبي المرتبط بالإرث الاستعماري أو فشل القوى الغربية في تحقيق نتائج ميدانياً داخل المنطقة، على سبيل المثال الإخفاقات الأمنية”.
مطالبات بوجود أكبر
ويبدو أن روسيا تسعى إلى استغلال مشاعر المعاداة المتنامية للقوى الغربية في الساحل الأفريقي لتعزيز مواقعها في المنطقة، التي تعاني فوضى سياسية وأمنية.
وتنشر روسيا قوات لها في مالي وبوركينا فاسو والنيجر في محاولة “لدعم الجيوش الوطنية في هذه الدول، التي تواجه حركات تمرد وجماعات إرهابية”.
وجاء التوسع الروسي في الساحل الأفريقي نتيجة انقلابات عسكرية أطاحت حكاماً موالين لفرنسا والغرب كان آخرهم رئيس النيجر محمد بازوم، الذي خلعه الحرس الرئاسي بقيادة عبدالرحمن تياني الذي لجأ إلى التحالف مع روسيا.
وقالت الباحثة السياسية المتخصصة في شؤون الساحل الأفريقي ميساء نواف عبدالخالق إن “هذه الخطوات الروسية تندرج في إطار القوة الناعمة، التي باتت تعتمدها روسيا بعد خروج فرنسا من هذه المنطقة، ولابد من الإشارة إلى أن بعض الشعوب في منطقة الساحل الأفريقي يطالبون بوجود أكبر لروسيا”.
وأضافت عبدالخالق في تصريح خاص “روسيا تستغل هذا الظرف، أي خروج فرنسا من هذه المنطقة، من ثم روسيا مستمرة في البقاء داخل المنطقة بحثاً عن مصالحها، وبخاصة أن هذه المنطقة غنية بثرواتها”.
ولفتت إلى أنه “لابد من الإشارة إلى أن روسيا تدخلت عبر ’فاغنر‘ في شمال مالي، والترقب سيد الموقف الآن حول كيف سيكون وضع المنطقة خلال المرحلة المقبلة في ظل التدخلات الدولية سواء من الأميركيين والروس، وسط تراجع كبير للدور الفرنسي في المنطقة”.
سرد مناهض للديمقراطية
وكثيراً ما اتهمت الولايات المتحدة الأميركية روسيا بالقيام بحملات دعاية وتضليل ضد الحضور الغربي في القارة السمراء. وقال تقرير لوزارة الخارجية الأميركية إنه خلال عام 2022 قام قائد مجموعة “فاغنر” الروسية يفغيني بريغوجين بتمويل “وكالة أبحاث الإنترنت”، وهي مجموعة من النشطاء الذين عملوا على الترويج للدعاية الروسية في أفريقيا ونشر معلومات مضللة عن الحضور الغربي في القارة.
لكن الباحثة السياسية والأكاديمية الروسية أولغا كراسينياك عدت أن “روسيا لم تنشئ مدارس للدعاية في أفريقيا، لذلك لن أستخدم هذا المصطلح بل هي تعمل في مجال أوسع وهو الدبلوماسية العامة والتعاون الإنساني”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابعت كراسينياك في تصريح خاص أن “التقارير الغربية التي تفيد بإقامة روسيا مدارس دعائية في أفريقيا أو غير ذلك، هي تعبر عن خشية القوى الغربية من فقدان نفوذها نهائياً في جنوب الصحراء”.
وأكدت أن “روسيا تروج ربما لسرديات مناهضة للاستعمار في أفريقيا، وإذا ما كانت هذه المدارس حقيقية فإنها تجسد نهجاً تعليمياً تستعمله موسكو كقوة ناعمة لتعزيز تحالفها مع الأفارقة، وموسكو لا تخفي هدفها هذا وهو أمر عبرت عنه أيضاً خلال قمة سان بيترسبورغ الأخيرة مع الأفارقة”.
ولاء صعب
ولا تخفي روسيا مساعيها إلى التوسع في غرب القارة السمراء، بالاستعانة بأدوات مثل “الثقافة والدعاية لنفسها وقوتها العسكرية والاقتصادية” في خطواتها.
ودشنت الحكومة الروسية عديداً من المراكز الثقافية أخيراً في دول مثل تشاد ومالي، مما يثير تساؤلات حول فرص نجاحها في الإحلال محل فرنسا.
وتعليقاً على ذلك يقول الباحث السياسي المالي حمدي جوارا إن “كل القوى العالمية سواء روسيا أو فرنسا أو الصين لها مراكز ومدارس تعمل لنشر ثقافتها ودعم مكانتها، ومن الواضح أن روسيا أصبحت علاقتها مع مالي فوق الاستراتيجية فمن الطبيعي أن ترسل عملاءها لتكوين الأطر المالية لدحض الدعاية الغربية ضدها”.
وأبرز جوارا في تصريح خاص أن “أياً كان الأمر فإن هذه المنشآت الثقافية الروسية المنتشرة قد يكون لها تأثير خلال الوقت الحالي، لكن نظراً إلى وجود تباعد في اللغة والثقافة فمن الصعب أن يصل الولاء إلى موسكو كما هي الحال مع الثقافة الفرنسية المتجذرة، فلغة الدولة الرسمية هي الفرنسية”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية