لما عاد المستكشف الإنجليزي الأشهر ريتشارد بورتون (1821 – 1890)، وهو بالطبع غير ريتشارد بورتون الآخر الممثل الذي ينتمي إلى القرن الـ20 واشتهر بشكسبيريته وكونه زوجاً للفاتنة إليزابيث تايلور، لبومباي من واحدة من رحلات شبابه المبكر التي ستشتهر لاحقاً، لم يمكث فيها هذه المرة سوى المدى الذي مكنه من كتابة وصف لرحلته المشاكسة والمحفوفة بالأخطار التي تسلل فيها إلى مكة المكرمة ليصبح لاحقاً أول شخص غير مسلم يطأ تلك الأرض المقدسة. وسيكون ذلك الوصف أشهر كتبه على أية حال، وربما أكثرها مسالمة وهدوءاً فرضهما عليه احتكاكه بالمدينة وانبهاره بها، كما سيقول بنفسه. ومن بومباي نظم بورتون رحلة ثانية إلى داخل العالم العربي وجهته هذه المرة مدينة هرر في الصومال، وهي المدينة التي أيضاً لم يكن قد سبق لأي أوروبي أن زارها من قبل. وهنا مرة أخرى تزين بورتون، وكما سبق أن فعل في مكة المكرمة كما في بومباي، بثياب توحي بأنه شرقي وهذه المرة كبحار، ونزل أولاً من زيلا على الساحل الصومالي مع ثلاثة من خدمه، وكان ذلك في نوفمبر (تشرين الثاني) 1854، ثم سار نحو هرر على رأس قافلة صغيرة. وفي سبيل الحصول على السماح له بالمثول في حضرة السلطان أحمد بن أبي بكر، لم يتردد بورتون في أن يكتب بنفسه رسالة تفيد بأن حاكم عدن هو الذي انتدبه ليمثله لدى السلطان. صحيح أن السلطان لم ينتبه للخدعة، لكن بورتون كاد يفضح نفسه عندما رفض تقبيل يد السلطان.
بين دخول المدن ومبارحتها
وبعد بضعة أسابيع انتبه بورتون لحقيقة قاسية تفيد بأن الدخول إلى المدن الممنوعة أسهل بكثير من الخروج منها، إذ بدا واضحاً له أن بن أبي بكر لا يريد هذه المرة أن يسمح له بالانصراف من المدينة. مهما يكن فإن بورتون انتهز فرصة وجوده في المدينة ليرصد كل ما يراه، ويتعلم اللهجة المحلية على رغم أن عدد متكلمي هذه اللهجة لا يزيد على 8 آلاف نفس. وفي نهاية الأمر سمح له بمبارحة هرر، لكنه بدلاً من الانصراف مباشرة إلى ميناء زيلا، آثر أن يقوم بنصف دورة ويعبر ميناء بربرة حيث وصل وصحبه منهكين تعبين، بعد أن أمضوا 36 ساعة لم يقيض لهم خلالها أن يشربوا ولو نقطة ماء واحدة. غير أن هذا كله لم يمنعه من أن يرحل في الشهر التالي مرة أخرى في اتجاه زيلا، ولكن هذه المرة في صحبة ثلاثة ضباط إنجليز شبان هم هيرن وسترويان وسبيك. لكن المسألة هذه المرة كانت أصعب، إذ في الليل شن على معسكرهم هجوم قتل بنتيجته الضابط سترويان. وهنا شعر بورتون بأنه هذه المرة بات منجذباً ناحية أفريقيا الوسطى التي كان جزء كبير منها لا يزال يشغل على الخريطة مساحات بيضاء تثير مطامع القوى العظمى وفضول المستكشفين وهمة المبشرين، على رغم امتلائها بقوافل تجار العبيد. وهكذا، في الوقت نفسه الذي شارك فيه بورتون بحرب القرم، راح يفكر كرة أخرى بحملات يقوم بها في أفريقيا. ومن ثم ما أن وقع الصلح إثر تلك الحرب، حتى حصل من شركة عموم الهند على سفينة حرب صغيرة قادها هو والضابط سبيك باتجاه زنجبار. ومن هناك غاص الاثنان عميقاً في البر بحثاً عن البحيرات الأسطورية التي ربما كان اكتشافها سيؤدي إلى حل لغز منابع النيل.
في الـ17 من حزيران (يونيو) 1857 اصطحب بورتون وسبيك برتغاليين من “غوا”، وبدآ رحلتهما الشاقة.
عاجز عن الدهشة
وبعد ذلك بثمانية أشهر، أي في شباط (فبراير) 1858، وصلوا إلى بحيرة تانجانيكا، وكانوا من الإعياء والمرض بحيث عجزوا حتى عن إبداء الدهشة أمام ذلك المسطح الفسيح من الماء العذب، المسطح الذي يعتبر الأطول على وجه البسيطة. ومنذ الأسابيع الأولى ضربتهم الحمى وتقلبات الطقس، وتخلى عنهم عدد من رجالهم الذين فروا حاملين الحقائب والحاجيات معهم، ونهبهم الزعماء المحليون وانتهزهم الآخرون، واضطروا إلى شق طريق لأنفسهم عبر أدغال من النباتات الخطرة ومراتع الضواري التي بدت على خطورة السكان المحليين بالنسبة إليهم. وبفعل رطوبة الجو راحت حتى ثيابهم تمتلئ بكل أنواع الفطريات وصدأت بنادقهم بينما تحولت دفاترهم والكتب إلى شيء يشبه الإسفنج والخبز إلى عجين عفن. لكن بورتون وسبيك واصلا مسيرتهما على رغم الحمى القوية. في البداية كان رجالهما الباقون يساندوهما خلال المشي، لكنهم بعد ذلك اضطروا إلى حملهما. ثم بعد خمسة أسابيع من الراحة أمضوها في طابورا، شعر بورتون لدى الوصول إلى أوجيجي على ضفة بحيرة تانجانيكا، أنه بات على وشك أن يشل من الإعياء. ولقد احتاج بعد ذلك إلى عام كامل من النقاهة قبل أن يتمكن من استعادة حركة ساقيه، وحال سبيل لم تكن أفضل، بل إنه أصيب بالعمى إثر التهاب ضرب عينيه، لكن أياً من الرجلين – مع هذا – لم يفكر ولو للحظة بالتخلي عن الهدف وقد بات على قاب قوسين أو أدنى.
هل عثرا على منابع النيل؟
فهل تراهما عثرا على منابع النيل أو على أحدها في الأقل؟
“إذ نسيت الآلام والأخطار وشكي في إمكانية العودة، شعرت أنني الآن مستعد لتحمل ضعف ما كنت قد تحملته”. وهذا على أية حال ما سيكتبه بورتون الذي، على رغم إرادته القوية، اضطر إلى البقاء في أوجيجي بينما حاول سبيك الحصول على وسيلة نقل تمكنه من استكشاف ضفاف البحيرة. ولغياب الأفضل، اضطر الاثنان إلى الاكتفاء بالقيام بعملية استكشاف مختصرة لمنبعين، لكن الرجال لم يرغبوا في التوغل أكثر مما اضطر الحملة إلى العودة لأوجيجي، من دون أن يدرك بورتون أو سبيك أهمية الاكتشاف الذي حققاه. وفي طريق العودة شعر بورتون بالإعياء، فاضطر إلى التوقف في طابورة، ثم في سبيل التخلص من سبيك الذي أضحت صحبته أمراً لا يطاق، أرسله بورتون ليستكشف بحيرة أخرى تقع إلى الشمال وكان أهل المنطقة حدثوه عنها. وهكذا ارتكب بورتون الغلطة الكبرى في حياته، إذ ترك لسبيك مجد اكتشاف بحيرة فكتوريا التي هي المنبع الحقيقي لنهر النيل. على أية حال حين سيعلن سبيك لبورتون نبأ اكتشافه هذا، لن يصدقه بورتون بل سيشعر بالامتعاض مما سيعزز من توتر العلاقات والخصومة بينهما. والحال أن حالة سبيك التي كانت تزداد سوءاً يوماً بعد يوم كانت تمنع أية إمكانية للتفاهم بينهما، فسبيك إذ أهلكته حشرة دخلت أذنه ولم تخرج منها، وإذ أتعبته الحمى المزمنة التي أصيب بها، لم يعد لديه أي حس إنساني، بل وصار خلال أزماته الصحية ينبح كالكلاب عاجزاً عن التفوه ولو بكلمة. وهكذا اتخذت عودتهما سمة الهرب الكبير، وصارت أشبه بالكابوس حتى وصلا إلى مدينة كيلوا فاكتشفا أن الكوليرا غزتها ورأيا على الشاطئ ألوف الأجساد المحتضرة والجثث، لكن بورتون بدلاً من أن يفزعه المشهد التقط بعض الجثث كهدية لمتحف التشريح في لندن!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل قتل بورتون سبيك؟
وأخيراً في الرابع من آذار (مارس) 1859 وصل الرجلان إلى زنجبار وباتا أقرب إلى الشبحين، لكنهما كانا أنجزا واحدة من أروع رحلات الاستكشاف في ذلك العهد. ومن هنا فإن بورتون لم يكن مخطئاً حين قال بأنه ساعد في “تقدم حملات الاستكشاف المستقبلية التي لن يكون على أصحابها سوى اتباع خطواتي”، ومن الذين استفادوا حقاً: لفنغستوف وستانلي. لكن حظ بورتون لم يكن كبيراً حتى في هذا المجال، فهو حين وصل إلى لندن يوم الـ28 من مايو (أيار) 1859 وجد أن سبيك سبقه بـ15 يوماً وأرجع لنفسه كل مآثر الرحلة فنال التمجيد والتشريف لذلك، تاركاً بورتون في الظل. لكن بورتون عرف كيف يرد الكيل كيلين عبر إغفاله تماماً ذكر شريكه في كتابه “منطقة البحيرات في وسط أفريقيا”، مكتفياً بالإشارة إليه أحياناً بـ”شريكي في الرحلة”. وظل الخصمان منفصلين حتى عام 1864 حين التقيا من جديد في “بات” حيث كان من المفترض أن يدور نقاش حول منابع النيل. ولكن عشية النقاش حدث ما لم يكن متوقعاً: حدث أن انتحر سبيك بإطلاق النار على نفسه من بندقية. أما بورتون فعلق على الحادثة قائلاً: “إن الناس الطيبين يقولون إنه انتحر، أما الآخرون فيؤكدون أنني أنا الذي قتلته”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية