“الذبح على الهوية” هذا ما يخشاه السوريون إثر عودة مشهد نكأ ذكريات أحداث عالقة ببال الشارع السوري بعد عام 2012، إذ انتقل الحراك الشعبي حينها من التظاهرات السلمية إلى مواجهة المتظاهرين بأزيز الرصاص والعنف المفرط، حينها كانت رائحة الطائفية تفوح من فوهات البنادق المصوبة نحو أجساد الأبرياء، فقط لأنهم من طائفة مختلفة.
معاقل فلول النظام
في ذلك الوقت وقبل أكثر من عقد من الزمن، اتفق السوريون الشرفاء على أن من يمارسون هذه التصرفات لا يتعدون كونهم عصابة لا تعرف دين ولا ذمة أو ضمير، بل يسعون إلى زرع الفتنة، لبث مزيد من التفرقة وإطالة أمد الاختلاف.
اليوم انتصرت الثورة بعد تضحيات جسيمة وبعد تهجير قسري لأكثر من 6 ملايين سوري، ومصرع نحو نصف مليون من أبناء البلد عدا فقدان عشرات الآلاف في كل مدينة ومحافظة، وفي هذا الوقت ترتفع الأصوات كي لا يعود الذبح على الهوية مجدداً، ويرى مراقبون أن أبناء المجتمع السوري من كل الطوائف هم براء من تلك الممارسات، ولاسيما ما حدث في حمص الغربية.
وكانت إدارة العمليات شنت حملة أمنية لملاحقة من وصفتهم بـ”فلول النظام” في ريف حمص، وذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان تنفيذ مسلحين تابعين للإدارة الجديدة 35 عملية إعدام خلال الأيام الماضية. في المقابل اعتقلت الجهات المختصة التابعة للأمن العام عشرات الأعضاء من مجموعات مسلحة محلية خاضعة لما يسمى التحالف الإسلامي الحاكم الجديد الذين شاركوا في العمليات الأمنية وسط أعمال انتقامية وتصفية حسابات قديمة ضد أبناء الأقلية العقائدية.
بطاقة التسوية “لا نفع لها”
مجموعة السلم الأهلي دانت بشدة الانتهاكات، وأعمال العنف التي أعقبت الحملة العسكرية داخل بلدة فاحل، شمال غربي حمص، إثر دخول أفراد الحملة التي أوقفت 58 شخصاً في الأقل معظمهم ضباط متقاعدون وسابقون ومجندون بجيش النظام السابق، وممن يحملون “بطاقات تسوية” (أعطيت هذه البطاقات للعسكريين بعد سقوط النظام عبر مراكز خاصة في المحافظات بعد التأكد من عدم ارتكابهم جرائم)، إضافة إلى عدد من المدنيين، تخلل ذلك شتائم ذات مضامين طائفية وجنسية للرجال والنساء، علاوة على التنكيل والاعتداء.
وطالبت المجموعة بمحاسبة مرتكبي الانتهاكات والقتل خارج نطاق القانون، واستعرض بيان خاص لمجموعة السلم الأهلي أسماء 15 من العسكريين والضباط المتقاعدين، مما أعطى انطباعاً لدى السوريين عن مدى صدقية بطاقات التسوية التي تمنحها “إدارة العمليات”، إذ من المفترض أن تكون “بطاقة التسوية” بحكم “صك براءة” لحاملها، لكنها جرت كثيرين إلى مقصلة الإعدام والتصفية.
في المقابل أعلنت القيادة العامة في سوريا تشكيل لجنة خاصة للتحقيق في الانتهاكات التي ارتكبها بعض العناصر الذين انضموا حديثاً إلى “هيئة تحرير الشام” في ريف حمص الغربي، وتشمل هذه الانتهاكات تجاوزات لفظية وأعمال ضرب.
وجاء في بيان للقيادة العامة، “لن نتهاون مع أي تجاوزات في حق المواطنين، ومحاسبة أي شخص يثبت تورطه في الاعتداء على المواطنين، وفق الإجراءات القانونية المناسبة”. وبحسب البيان، فإن الهدف من هذه الخطوة هو تعزيز الثقة المتبادلة بين الهيئة وأهالي المنطقة، وضمان حماية حقوق المواطنين وكرامتهم.
في الأثناء خرجت تظاهرة سلمية في قرية الشنية في ريف حمص الغربي في الـ25 من يناير (كانون الثاني) الجاري، رفع خلالها المتظاهرون أصواتهم وصرخوا بملء الحناجر، “نريد أولادنا سالمين” على خلفية أعمال الخطف، بينما شهدت قرية مريمين انتهاكات وإساءة للمعتقدات الدينية، ومنها الطائفة المرشدية، مما أسفر عن استنفار أبناء الطائفة في القرى المجاورة، علاوة على ظهور مقاطع مصورة بثها المركز الوطني لتوثيق الانتهاكات في سوريا يظهر فيها آثار حريق في مقام الشيخ سلمان بالرواس في قرية مجيدل.
الحذر من صوت الفتنة
ولفت الدبلوماسي والوزير السابق عبدالحميد سلوم إلى “عدم تفكير أي أحد بالحرب الطائفية فهذا دمار للجميع، ومن يفكر بذلك يجب التصدي له، من أي طائفة كان. والسوريون واعون وهم من يخمد أي صوت يدعو إلى الفتنة، فلا خشية من داخل سوريا، الخشية من الخارج هناك قوى كثيرة إقليمية ودولية تتربص، وهذه قد تلجأ لأساليب عدة وخبيثة لجر السوريين نحو مواجهة بعضهم بعضاً”، بحسب رأيه. وأضاف سلوم أنه “يجب الإصغاء إلى قلق وخشية المكون العلوي، لأنه بات هناك اعتقاد بأن هذا المكون كله مستهدفاً. يجب سحب جميع التنظيمات الأجنبية من المناطق السورية كافة، وخصوصاً المختلطة طائفياً، وحصرها في إدلب، هؤلاء غرباء لا يعرفون ثقافة الشعب السوري، ولا عاداته أو تقاليده، ويرتكبون كثيراً من الأفعال والاستفزازات، وبعض هؤلاء يعتبرون العلويين كفاراً وأن قتلهم واجب ديني وخدمة للدين”.
وقال سلوم “لا يختلف أحد على محاسبة كل من تسبب بسفك الدم السوري من الأطراف كافة، إذ كانت حرباً مجنونة ولم يكن أحداً فيها يرمي الآخر بالورود. الكل مع محاسبة رموز الفساد الاقتصادي وشركاء السلطة وسارقي الشعب، وهم معروفون، ولكن ما نراه هو العفو عنهم واستقبالهم، وهذا محير”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عودة الهدوء
وعلى خلفية الأحداث التي انتشرت في أرجاء محافظة حمص في شقها الغربي والأكثر قرباً إلى الساحل السوري وقراه، زار محافظ حمص عبدالرحمن الأعمى المنطقة على رأس وفد حكومي وأمني، ودار نقاش حضره وجهاء الطائفتين المرشدية والعلوية، واتفق المجتمعون على إجراء محاكمة عادلة للمتورطين بتلك التجاوزات، ورصد متابعون عودة الهدوء التدريجي للريف الغربي.
في سياق متصل انفجرت سيارتان مفخختان يوم الثلاثاء الـ28 من يناير (كانون الثاني) بالقرب من قرية المخرم الفوقاني بريف حمص الشرقي، واستهدفت مقر المخفر وحاجزاً يتبع للأمن العام التابع لقوات الإدارة السورية الجديدة، واقتصرت الأضرار على الماديات.
وطالب سلوم بضرورة الكشف عن كل الجرائم التي وقعت حتى اليوم وتقدرها منظمات حقوق الإنسان بـ140 جريمة في محافظات حمص وحماه وطرطوس واللاذقية، وحتى اليوم لم نسمع أن أحداً تمت محاسبته، وما الحكم الذي صدر في حقه، وفق حديثه.
في المقابل تحدث مدير المكتب الإعلامي للأمن العام في محافظة حمص منسق شؤون المحافظة حمزة قبلان عن الحملات الأمنية التي استمرت لساعات عدة حدث خلالها تمشيط المنطقة، وتوقيف المشتبه بهم ضمن لوائح محددة. وأردف “فوجئنا بانتهاكات حصلت، وسارعت على إثرها القوات الأمنية، واستنفرت لمتابعة ما حصل، وتبين وجود انتهاكات مارستها مجموعات إجرامية دخلت بعد فترة، وتمكنت من إلقاء القبض على مجموعة منهم”.
وتفيد المعلومات الواردة عن عقد سلسلة اجتماعات بين الفعاليات الشعبية ومسؤول من المحافظة توصل إلى الاتفاق على وقف جميع حملات التفتيش في المنطقة، وكل شخص مطلوب يستدعى عبر مختار المحلة، ويتم الإفراج عن جميع الموقوفين تباعاً ممن لم تتلطخ أيديهم بالدماء”.
صكوك الاتهام والبراءة
أهالي ريف حمص القاطنين في قرى ذات غالبية علوية ينشدون السلم والاستقرار، وبالتواصل مع أبناء البلدات من سكان القرى في ريف حمص الغربي، أعربوا عن رغبتهم في ضرورة محاسبة الجناة، وأنهم مع القانون العادل، مطالبين بعدم معاملة العسكريين والمدنيين بعقلية “الجميع متهم حتى تثبت البراءة”.
وقال أحدهم “هناك أفراد من الجيش ممن لم يطلق طلقة واحدة خلال الحرب بحكم وجوده في الإدارات أو شغل وظائف محاسبة أو غيرها من الوظائف الإدارية، أو يكون عسكرياً مجنداً في قطعة محاربة، ولكن بحكم الفساد الذي كان مستشرياً عبر رشى بمبالغ مادية مرتفعة تقدم للضباط، يتجنب الخدمة في الصفوف الأمامية وخطوط التماس”.
“لابد التفريق بين الطائفة الأسدية، وأبناء الطائفة العلوية” هكذا يقول الشاب فادي من أبناء ريف حمص الغربي، مضيفاً أن “السائد هو أن الظلم الذي مارسه النظام البائد هي على أبناء أهل السنة، لكن القليل يعلم أن هذا الظلم أبناء الطائفة العلوية كان يقع عليهم الظلم، وبعض منهم خرج مطالباً بالحرية، فالظالمون لا دين لهم”.
ولفت الشاب فادي الانتباه إلى أنه “في وقت كثير من العلويين كانوا وحتى اللحظة غير موافقين على سفك دماء الشعب الواحد، لكن النظام نجح في زرع الخوف في نفوس أبناء الطائفة من المطالبين بالحرية والثورة حفاظاً على كرسي الرئاسة، ولعل ما يحدث في ريف حمص غير مقبول، لأن الانتقام يعيد تدوير القضية مجدداً”.
وبالعودة لـ”الذبح على الهوية”، لا تزال أكثر عبارة يمقتها السوريون ويجمعون على وأدها في مهدها، بل ويحاول الجميع تفاديها مع فتح صفحة جديدة في بناء سوريا، من خلال محاكمة عادلة انتقالية خصوصاً كبار المسؤولين الذين أعطوا قرارات القتل والإجرام في حق أبناء البلد الواحد، والانتقال إلى إعادة الإعمار، وعدم الغوص في الانتقام، وترك القانون وحده يأخذ مجراه.
نقلاً عن : اندبندنت عربية