الملكة زنوبيا اسم لمع في التاريخ وفي الدراما السورية والعربية والمسرح والفن التشكيلي، فهل يشطب اسمها؟
لئن أشار وزير التربية السورية نذير القادري إلى “أن المناهج الدراسية في جميع مدارس سوريا لا تزال على وضعها إلى حين تشكيل لجان اختصاصية لمراجعتها وتدقيقها”، فإن الحقيقة التي لا لبس فيها أن العهد السياسي الجديد يحمل فلسفته التربوية الخاصة إلى جانب رؤيته السياسية الشاملة، وهذا من حقه الطبيعي، وباشر باكراً في وضع اللمسات الأولى على منهج تعليمي يميل إلى أن يكون متشدداً. ثم إن هذا التعديل لهو مجرد دليل على إرادة سياسية في ترسيخ فهم للعالم والمجتمع والدولة والأفكار الكبرى، كان لأكثر من نصف قرن مغيباً بفعل القهر والاستبداد والقمع الوحشي الذي مارسه النظام السابق، مع كثير من الزبائنية والمصلحية الضيقة، وكثير من الفساد.
ومن المعروف، في التاريخ الحديث، أن من أهم أركان أي نظام جديد إعداد منهج تربوي، بل فلسفة تربوية تقوم على مبادئ تراعي التغيرات السياسية والاجتماعية الحاصلة في البلد المعني. ولنا في التاريخ الحديث، نابليون بونابرت مثال واضح للحرص على وضع فلسفة تربوية جديدة، أي مطابقة لرؤيته السياسية غير الثورية، وترجمتها إلى كتب مدرسية، لشد ما كان حريصاً على إدارة عملية تأليفها ونشرها، ليضمن رسوخاً لسلطته في عقول أجيال المتعلمين اللاحقة.
تاريخية زنوبيا
بداية لا بد من الإشارة إلى أن شخصية زنوبيا، على ما تناقلته المصادر التاريخية، استناداً إلى هيستوريا أوغوستا، أو تاريخ الأباطرة (للقرن الرابع الميلادي)، وموسوعة النساء في العالم القديم، والطبري (839-923م)، والمؤرخ جيبيون في كتابه “انهيار الامبراطورية الرومانية”، إنما هي شخصية تاريخية، أي حقيقية، وكان أن سطرت لها تاريخاً خاصاً بمدينة تدمر التي جعلتها عاصمة لمملكتها الواسعة في حينه، إذ امتدت لتشمل أواسط آسيا الصغرى، شمالاً وبلاد ما بين النهرين شرقاً، وسيناء جنوباً. ولدت زنوبيا، بحسب هذه المصادر عام 240م، في حين لم يعرف لها تاريخ دقيق لوفاتها. وكانت سوريا في ذلك الوقت مقاطعة رومانية، على أن عائلة والدها كانت منحت امتياز المواطنة الرومانية وفقاً لرواية الطبري. وكانت زنوبيا تلقت تعليمها باللغتين اليونانية واللاتينية، إلى جانب إتقانها اللغة المصرية والآرامية الواسعة الانتشار، في زمنها. أما سليم البستاني، مؤلف رواية زنوبيا المشار إليها أعلاه، فيضيف إلى هذه اللغات التي كانت زنوبيا تعرفها، العربية التي ترسخ حضورها شمال شبه الجزيرة العربية، ولا سيما ما كانت تندرج تحت اللغات (اللهجات) التميمية، على ما يقول صبحي الصالح (دراسات في فقه اللغة)، التي تداولتها القبائل العربية المقيمة بمدينة تدمر، والعابرة بقوافلها باديتها المترامية، وصولاً إلى حواضر الحجاز، قبل ظهور الإسلام بنحو 300 عام.
وتقول كتب التاريخ كذلك إنه تزامن صعود نجم زنوبيا مع وجود إمبراطور روماني يدعى أوريليان (215-275م)، شق سبيله في سلك العسكر الروماني، جندياً في المشاة، إلى أن بلغ جنرالاً في الجيش، ومن ثم إمبراطوراً حاصلاً على جميع ألقاب العظمة المتاحة في حينه، لانتصاره على كل أعداء الإمبراطورية الرومانية، من مثل الوندال والألمان والقوط، بعد انتصاره عام 272 على مملكة تدمر، على رأسها الملكة زنوبيا. وحاصل الأمر أن زنوبيا، ولما ظنت أنها قادرة على مزاحمة روما في الشرق، إذ امتد سلطانها من سوريا، إلى بلاد ما بين النهرين، وقسم لا يستهان به من الأناضول وفلسطين فمصر، عمدت إلى حرمان روما من القمح، فعرفت الأمبراطورية شحاً في الخبز. وعندئذ أدرك الأمبراطور أوريليان أن لا بد من إخضاع مملكة تدمر، وإعادة الأمور لنصابها، في الجهة الشرقية من الإمبراطورية. وللحال جرد أوريليان حملة عسكرية جرارة على مملكة تدمر، بدءاً من آسيا الصغرى، إذ دمر كل بلدة ومدينة موالية لزنوبيا، وطارد فلول جيوشها المنهزمة من أمام وجهه، حتى مدينة تدمر التي عاملها بالحسنى واللين، بخلاف مسلكه العسكري الأول، عملاً بنصيحة أحد الفلاسفة المقربين منه ويدعى أبولونيوس. وفي آخر المطاف، ألقي القبض على الملكة زنوبيا.
ولنا في شأن أسر زنوبيا صيغ عدة، إحداها أنه ألقي القبض عليها وهي متوارية في أحد الأنفاق، تحت نهر الفرات، ولكنها سرعان ما تقدم على الانتحار بالسم. ومنها أن جنود الامبراطور يلقون القبض عليها، فتساق مقيدة بالسلاسل، وتستعرض على هذا النحو في شوارع روما. أما الصيغة الأغرب، التي يؤثرها سليم البستاني، في روايته التاريخية، فهي أن زنوبيا، وإن تكن سيقت أسيرة إلى روما، فإنها انتهت فيها زوجة لأحد جنرالات الجيش الروماني، وصارت ابنتها جوليا زوجة للامبراطور أوريليان.
وقد يسأل سائل: ما الذي يحمله رمز زنوبيا، بعد أن كانت شخصية تاريخية وصارت شخصية نموذجية؟ للإجابة نقول إن من أهم التحديات التي تستحثها شخصية زنوبيا هذه لدى جمهور العرب من القراء والقارئات، أنها شخصية أنثوية، بالمقام الأول، وأمكن لها أن تصنع لنفسها مكانة بين مواطنيها هي الذروة، وأن تستلم منصباً ملكياً كان لزوجها المغدور أذينة، وتحسن إدارة بلادها على خير وجه، وسط عالم عظيم الاضطراب، وموجات من الحروب لا تكاد تنتهي. ثم إن التحدي النفساني الآخر هو امتلاك الملكة زنوبيا، وهي المرأة المعروفة بالميول العاطفية والتوجهات المهنية الرقيقة، قدراً من الحزم والتفكر المنطقي والتدبير العقلاني، مما يجعلها متفوقة على القائد الرجل، وأكثر عزماً منه على التخطيط الدقيق، وخوض الصراعات، والانتصار فيها، وتغليب المصلحة العليا (الوطنية) على ما عداها. والواقع أن رواية “زنوبيا” التي ابتكرها سليم البستاني، لـ154 عاماً خلت، وإن تشكل هيكلها من مواد تاريخية معلومة، فإنها بدت على يديه، رسماً نموذجياً ومثالياً لما يستحسن أن تصير إليه المرأة العربية من وعي لدورها القيادي في المجتمع، إلى جانب رعايتها عائلتها، وحدبها على كل فرد منها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن تلك التحديات التي يستشفها قارئ رواية زنوبيا، ومتتبع أخبارها التاريخية، حرص على التربية والاستزادة من علوم العصر، مثل اللغات والرياضيات والفلسفة وعلم الفلك وغيرها. وهذا ما خصت به الملكة ابنتيها، جوليا وليفيا، وابنيها تيمولاوس وهرنيانوس، على حد سواء، وامتد حرصها على التعليم ليشمل كل أبناء مملكتها وبناتها. ولعل هذا الأمر، أعني تعليم الأجيال، فتياناً وفتيات، هو نفسه ما برح عنواناً أولاً في الدعوة إلى النهضة العربية الشاملة، التي أطلقها بطرس البستاني أواسط القرن الـ19، وتلقفها كثيرون بعده، من أمثال الطهطاوي وقاسم أمين ورشيد رضا والمنفلوطي، وغيرهم.
وكيف ننسى تحدياً ضاغطاً على ضمير كتاب النهضة الأوائل، ومنهم بطرس البستاني، وابنه سليم، المتشبع منه روح المواطنة والوطنية، عنينا به تحدي التسامح الديني، فالملكة زنوبيا، على ما بينته الرواية، المشار إليها أعلاه، لم تأل جهداً في التسامح مع الجماعات المختلفة ديناً في مملكتها بترا، إذ تركت لكل جماعة حريتها في ممارسة الطقوس الدينية التي تراها لازمة لعقيدتها. ولكن ذلك وحده لا يكفي لتحقيق ملء العيش لدى المواطنين، فما كان ينقص هو إشباع العين والسمع بما يليق بالإنسان، وما يدخل إلى روعه قدراً من الفرح والنشاط. إنها الفنون والفنانون، والموسيقى والأعمال المسرحية وتشخيصها، وزيارة الحدائق الغناء في أرجاء المدينة. وهذا ما أتاحته زنوبيا للعامة، إذ أنشأت المسارح على الطراز الروماني، وهيأت الظروف للفنانين بممارسة فنونهم وعرض معزوفاتهم على العامة كما الخاصة.
هذا ولم تهمل زنوبيا دروس الفضائل الإنسانية الكبرى، تمليها على كل من جوليا، وابنتها الثانية ليفي، وابنيها، وعلى من لازمها من القادة والزعماء السياسيين الخاضعين، من مثل إغاثة الضعيف، والإكثار من عمل الخير حيث يقتضي ذلك، والمحبة المتفانية وغيرها.
في السياسة
تقول زنوبيا “إن الدولة الضعيفة تحب أن تحجب عن رعاياها وسائط التقدم والنجاح لئلا تقوى الأمة على الدولة، غير أن هذه السياسة هي بئس السياسة، فإنها تضعف الأمة وتزيد الدولة ضعفاً” (ص: 99، مجلة الجنان، 1871). بالطبع، ليس هذا كلام الملكة زنوبيا، منقولاً إلينا عبر المدونات التاريخية، وإنما هذا ما ندعوه أدباً وخطاباً سياسياً حمل على محمل التاريخ، ومادته الملكة زنوبيا. أو ليس في نقض النموذج التاريخي وإن مستخدماً على هذا النحو، رسالة مضادة؟ الإجابة عن هذا التساؤل متروكة للأيام.
نقلاً عن : اندبندنت عربية