هي وقائع تاريخية تتعلق بحياة الرسام الإسباني فرانشيسكو غويا لكنها لا تتناول شبابه المبكر كما اعتادت الأمور أن تكون بالنسبة إلى المشاهير، لكن فترة متقدمة من وجوده كان خلالها قد أربى على الـ46 وبات من أشهر المبدعين في الأقل من المناطق الغربية من القارة الأوروبية لا سيما في وطنه الإسباني وفرنسا. أي إن تلك الوقائع تتعلق بشخصية كانت في ذروة الشهرة والإبداع بحيث يصعب على صاحبها التخفي حتى وإن كان ذلك قد حدث في أوج الفوضى التي عمت فرنسا وإسبانيا بالتحديد عند نهايات العقد التاسع من القرن الـ18 وبدايات العقد الأخير من القرن نفسه، وهما العامان اللذان شهدا بالطبع اندلاع تلك الثورة التي سيقال عنها دائماً إنها غيرت فرنسا وربما العالم كله أيضاً.

إذاً لتبسيط المسألة، سنحدد سؤالها: لماذا وأين اختفى الرسام الإسباني الكبير خلال العامين الأولين من عمر الثورة الفرنسية؟ الحقيقة أن هذه الثغرة التاريخية في مسار غويا لم تجد من يأتي بالإجابة الشافية عنها، وربما حتى اليوم، على رغم أن ثمة في هذا المضمار فرضيات كثيرة لم يلق أي منها إجماعاً صارماً. وذلك حتى وإن كان علينا، وهو ما سنحاول أن نفعله هنا، أن نأخذ في الحسبان تلك الرواية التي أتت بقلم ابن الرسام لكن بعد رحيل هذا الأخير بزمن طويل وتعد إلى حد ما نوعاً من إعادة اعتبار محلية وربما مبالغة، من ابن يسيئه ما تم تناقله في شأن غياب والده غياباً “غير بريء” كما سنرى!

متمرد في القصر

من ناحية مبدئية، حتى وإن كانت الدراسات التحليلية التي تناولت حياة غويا (1746- 1828)، قد ركزت دائماً على ثورية فنه ونزعة التمرد والانفتاح على العالم التي طبعت ذلك الفن، لا بد من الإشارة هنا إلى أن غويا كان في إسبانيا من أنصار الحكم الملكي وتحديداً من أنصار سلالة آل بوربون الحاكمة، ولو من منطلق انتهازي يتعلق بكونه كان خلال فترة متقدمة من حياته نوعاً من رسام رسمي للبلاط الملكي. وكانت تلك السلالة تحكم إسبانيا لكنها كانت كذلك تحكم فرنسا بالنظر إلى أن آخر ملوك هذا البلد الكبير المجاور قبل اندلاع الثورة الفرنسية كانوا من سلالة آل بوربون بمعنى أن لويس الـ16 الذي خلعته الثورة عن عرشه وقبضت عليه كان ابن عم الملك الإسباني.

وهذا الواقع التاريخي قد يفتح درباً للوصول إلى جواب عن السؤال الذي نطرحه منذ أول هذا الكلام. وهو جواب ربما يمكن العثور عليه بصورة أكثر تفصيلاً وإقناعاً في كتاب ابن غويا رغم الشكوك التي أحاطها المؤرخون بكل ما يحكيه هذا الأخير. لكن قبل الوصول إلى هنا ربما يكون من المفيد تتبع حياة وتوجيهات فكر غوريا وعلاقته بالقصر الملكي الإسباني قبل ذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وحين نقول قبل ذلك يتعين علينا أن نلتقي غويا في الأقل منذ عام 1788 حين قيض له أخيراً أن ينضم بصورة حاسمة إلى القصر الملكي الذي صار الراعي الأكبر لفنه والميسر الأساس لوجوده ومعيشته ورفاه أسرته، لا سيما منذ تلقى في ربيع ذلك العام توصية من الملك بتزيين غرفة نوم الأمراء الصغار في قصر البرادو بالتواكب من رسم بورتريهات الملك وزوجته والأبناء، وهو ما نشط الفنان على الفور لتنفيذه مستنداً إلى نضوجه الفني الذي جعله واحداً من كبار رسامي ذلك الزمن.

ولقد تلى ذلك عند نهاية العام موت الملك شارل الثالث ليخلفه على العرش شارل الرابع وفي ركابه الملكة ماري- لويز، وكان الاثنان من معجبي غويا وفنه ومن ثم كان من الطبيعي أن تعينه الملكة وبصورة رسمية هذه المرة، رساماً رسمياً للبلاط، وذلك في نفس العام الذي اندلعت فيه الثورة الفرنسية التي كان يتعين على غويا أن يكون مناصراً لها. لكن ما العمل وقد قبض الثوار الفرنسيون على ملكهم وها هم يتوجهون إلى “محاكمته” ومن ثم إلى إعدامه؟ وما العمل وقد فوجئ شارل الرابع في مدريد برسالة سرية تصله من لويس الـ16 في باريس تحثه على إنقاذه. ففي ذلك الحين بدا أن كل آمال الملك الفرنسي المخلوع تكمن في أن ينقذه ابن عمه المدريدي ويتمكن من تهريبه إلى العاصمة الإسبانية؟ فهل وجد غويا المعروف والمحترم في فرنسا وفي أوساط نخبتها الفنية التي سارعت بمناصرة الثورة والوقوف ضد الملك والحث على التخلص منه، هل وجد نفسه بوصفه فناناً كبيراً ورجل تقدم على الصعيد الأوروبي، متورطاً في هذه الحكاية؟

فنان ضد الثورة!

ربما يكون الجواب هنا مفتاحاً لحل لغز الغياب، غياب غويا طوال تلك الفترة/الثغرة من وجوده بين عامي 1792 – 1793 تحديداً. لكن على العكس مما قد يمكننا أن نتصور. فللوهلة الأولى قد يبدو لنا هنا أن غويا آثر الاختفاء كي لا يتورط في أحداث لا يمكنه في الحقيقة أن يلعب أي دور فيها. لكن ثمة شكوكاً كثيرة تتناول ذلك كله. ومن هنا نعود إلى الملك الفرنسي الذي قبض عليه الثوار فيما كان في فارين يحاول الهرب متجهاً إلى إسبانيا وقد تلقى إشارة إيجابية من ملكها.

لكن في خضم ذلك كانت أمور كثيرة تتبدل وبسرعة. وكان البلاط الإسباني قد بدأ يخشى امتداد الأحداث الفرنسية إلى بلاده، كما بات يخشى الحرب التي اندلعت بين الجمهورية الفرنسية والإمبراطورية الألمانية. ثم في الشهر الأول من العام التالي تم إعدام لويس الـ16 ما غير كل معطيات الأمور في ذلك الجزء من العالم الأوروبي. فأين كان غويا من ذلك كله؟ ليس ثمة ما هو واضح في سيرته يتعلق بعام 1792 بأكمله. وكيف ترى تلك السيرة تختصر ذلك كله لتفيدنا بأن رسام القصر قد استبعد تماماً من القصر طوال ذينك العامين، أين كان غائباً، وما الذي فعله، بل ما الذي لم يفعله؟

 

من ناحية مبدئية نعرف أن عدداً من حماة غويا في القصر قد سقطوا خلال تلك الفترة مما أثر في حياته المهنية ومكانته لدى الأسرة المالكة. لكن هذا لا يمكنه أن يفسر ذلك السقوط والصمت المريعين، خصوصاً مع تنبهنا إلى أن سيرة غويا لا تشير حتى إلى أية رسائل تبادلها في الوقت نفسه مع صديقه المقرب والنافذ الوحيد في السلطة العليا من بين أصدقائه، تساباتير، كما إلى أن أحداً لم يوص الرسام ولو بلوحة واحدة خلال ذينك العامين.

وثائق لا توثق شيئاً

البحوث المعمقة تمكنت من العثور على أوراق رسمية قليلة تتحدث عن غويا خلال تلك الفترة، منها مذكرة تتعلق بتنفيذ رسوم من غويا لآخر السجادات المنتجة في المصنع الذي كان يتعاون معه، ومنها أيضاً أوراق تتعلق بالسجلات المدنية لآل غويا. لكن أيضاً هناك شهادة على وجود رسامنا في أكاديمية سان فرناندو، وتقرير حول تدريس الفن رفعه هو نفسه إلى السلطات يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 1792 ثم… لا شيء. وفي الأقل حتى صدور كتاب ابنه الذي أشرنا إليه وفيه “فرضية” تتعلق بحكاية تكاد تكون خرافية حول مسعى عملي قام به الأب في فرنسا مع مجموعة من أصدقائه الإسبان والفرنسيين لإنقاذ الملك.

افترض الابن أن المحاولة قد فشلت مما أغضب الملك الذي يبدو أنه لم يستشر مسبقاً من قبل رسام قصره مما تسبب بإعدام الثوار للملك الفرنسي خشية أن تنجح محاولة تالية لإنقاذه. صحيح أن أحداً لم يصدق ما رواه الابن من دون أن يحدد ما إذا كان قد فعل ذلك نقلاً عن أبيه، لكن مع ذلك يمكننا الافتراض بأن الحكاية كلها على مبالغاتها، وعلى رغم عدم تصديق أحد لها، يمكن أن تعتمد في انتظار أن يعثر أحد على تعديل لها أو نقض كلي لإمكانية أن تكون صحيحة. كما يمكنها أن تفسر الغضب الملكي الذي حل بالرسام ولا يجد له أحد تفسيراً… حتى الآن.

ومهما يكن من أمر فيمكن القول إن الحكاية قد تفسر كثيراً من الأمور بما فيها عودة غويا من عامي الغياب وقد فقد سمعه من دون أن يدري أحد كيف!

نقلاً عن : اندبندنت عربية