يخبئ حكام أوروبا وجوههم بأيديهم ويسترقون النظر من بين أصابعهم ويختبئون وراء كراسيهم وهم يتمتمون “هذا أمر عصي على الفهم” بعدما لمح تجسيد الدكتور سترينجلوف في الحياة الواقعية [الشخصية الشريرة في فيلم بالاسم نفسه الساعية لتدمير الكوكب] باحتمال اجتياحه دولة حليفة بعد دخوله البيت الأبيض.

في المسائل المتعلقة بالحرب في أوروبا غالباً ما يستحيل الكلام حقيقة. كان فلاديمير بوتين يتوق للاستيلاء على أجزاء من جورجيا وعلى كامل أوكرانيا. وقد عبر عن هذه الرغبة. ثم اجتاح البلاد.

وهذا الأسبوع، رفض الرئيس المنتخب دونالد ترمب استبعاد إمكانية استخدام القوة الاقتصادية أو العسكرية من أجل الاستيلاء على قناة بنما و (أو) انتزاع غرينلاند من الدنمارك بالقوة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إن الدنمارك هي إحدى الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو). وينص البند الخامس من الوثيقة التأسيسية لـ”ناتو” على أن كل أعضاء الحلف مجبرون على مساعدة أي عضو من الأعضاء. ولذلك، فقد رفض ترمب فعلياً استبعاد نشوب حرب مع الـ”ناتو” بسبب غرينلاند. وفي الوقت نفسه، تمتلك أميركا أكبر جيش في الـ”ناتو” وأكبر عدد من الأسلحة النووية وهي تنفق مبلغاً أكبر على الدفاع من أي عضو آخر في الحلف. 

يستمد الرئيس المقبل للولايات المتحدة، وهو الـ47 في ترتيب الرؤساء، بعضاً من نفوذه من تقلبه وصعوبة التنبؤ بتصرفاته، ويعلم خصومه أنه قد يكون مجنوناً بما فيه الكفاية بالفعل كي ينفذ بعضاً من الأمور التي يصرح بنيته تنفيذها. لكن أصدقاء أميركا يعيشون حالاً من الإنكار الخطر.

اعترف المستشار الألماني أولاف شولتز الذي استطلع آراء عدة زعماء أوروبيين آخرين ورئيس المجلس الأوروبي أنه “تبين وجود عدم فهم لبعض التصريحات الصادرة من الولايات المتحدة”. 

لكن عبارة “عدم فهم” هي رد يتعمد أن يكون ضعيفاً. 

قال شولتز، “ينطبق مفهوم عدم المساس بالحدود على كل البلاد سواء كانت تقع إلى الشرق أو الغرب منا، وكل الدول ملزمة باحترامه سواء كانت دولة صغيرة أو صاحبة نفوذ كبير”. لكنه لم يتجرأ أن يقول إن من يقصده في الحقيقة هو ترمب. 

ترمب من جهته، واضح جداً في رؤيته لـ”ناتو”. وهو يعتقد أن الولايات المتحدة تنفق أكثر من اللازم لحماية الأوروبيين الذين يكثرون الكلام عن خوفهم من بوتين من دون أن يدفعوا ثمن حماية أنفسهم. 

وهو يريد من أعضاء الـ”ناتو” أن يرفعوا نسبة الإنفاق العسكري من اثنين في المئة، بحسب الحد الأدنى الذي أقره الـ”ناتو” (وهي نسبة لا يخصصها حتى أعضاء كثر) إلى خمسة في المئة من إجمالي الناتج المحلي.

وإن ربطنا بين مخططات ترمب لغرينلاند وإعجابه الملفت ببوتين الذي، بحسب ترمب، استفز ودُفع إلى الحرب من قبل أوكرانيا بسبب مساعيها الانضمام إلى الـ”ناتو”، تكون النتيجة هذيان خطر يلوث واقع ترمب. 

ولو أضفنا إلى المزيج السابق تعاطف صديقه إيلون ماسك مع الجماعات الفاشية في أوروبا، على قادة الدول الأوروبية أن يفهموا أنه مهما سيحدث بعد تاريخ تنصيب ترمب في 20 يناير (كانون الثاني) الجاري، لن يعود لديهم أي أصدقاء في المكتب البيضاوي.

يوشك ماسك أن يصبح أحد رئيسي إدارة الكفاءة الحكومية الجديدة ضمن إدارة ترمب مما يعني أنه سيكون في موقع راسخ ضمن الطاقم الرئاسي. وقد دعا الرجل بالفعل إلى الإطاحة برئيس الوزراء البريطاني وطالب بإطلاق سراح تومي روبنسون (الناشط اليميني المتطرف الذي أودع السجن بتهمة الازدراء بالمحكمة) وأعلن عن تأييده حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف.

كل هذه العوامل تُنتج حقيقة لا لبس فيها على قادة أوروبا مواجهتها عندما يخرجون زحفاً من وراء الكراسي.

في ظل حكم ترمب، أميركا لا تأبه بأوروبا. لكن من ناحية أخرى، لم يدعُ ماسك الصين إلى الكف عن اضطهاد الإيغور. وتشير تقارير إلى تواصله المنتظم مع الرئيس الروسي منذ 2022، حين أمر بوتين بشن الحرب الشاملة على أوكرانيا. ولذلك، ستكون إدارة ترمب متساهلة مع المواضيع التي تمس الديمقراطية ومتحمسة جداً للديكتاتوريات. 

إن أكثر رجال العالم نفوذاً، وشخصيات ثرية أخرى مثل ماسك، لا يمثلون القيم المعاصرة التي حافظت على أمن أوروبا الغربية.

وكما لفت ترمب، سيعتمد استمرار تمتع الغرب بالأمن على دفع الدول الأوروبية الأعضاء في الـ”ناتو” ثمن حماية الأنظمة الديمقراطية العزيزة على قلبها. وهذا يعني تخصيص خمسة في المئة للشؤون العسكرية. وهذا يعني زيادة الضرائب ونهاية الشعور بالتفوق على المنافسين المستقبليين من الصين أو الهند أو أي مكان آخر.

إن تهديد ترمب باجتياح دولة عضو في الناتو، والسرقة منها، يشكل خدمة لأوروبا. فقد بين على حاجة أوروبا للوقوف بعيدة عن أميركا وأن تكون قادرة لوحدها الدفاع عن نفسها. على أعضاء الـ”ناتو” أن يتكفلوا بأنفسهم، ليس من أجل الدفاع عن غرينلاند إنما ليكونوا قادرين الدفاع عن كل ما تمثله أوروبا اليوم. 

يتعين على القادة الأوروبيين أن يتوقفوا عن “عدم الفهم” والهز برؤوسهم في ذهول وحزن. ما يظهره لهم ترمب هو أنه ليس من الضروري أن تكون مجنوناً، لكن من الضروري أن تكون جسوراً.

نقلاً عن : اندبندنت عربية