يتقاسم فلاحو المناطق الحدودية الغربية لتونس محنة نقص المياه ونضوب الآبار التي كانت تغدق عليهم من خيراتها، فمزارعو المحافظات الغربية كالكاف والقصرين وقفصة يعانون الأمرين جراء نقص حاد في الموارد المائية وتراجع منسوب السدود ومنظومات الري التي توفرها الدولة .

الفلاح الستيني محمد البولعابي يراقب أرضه وبنبرة ممزوجة بالألم والحسرة يقول “هذه الأرض كنت أزرعها فلفلاً وطماطم وبطيخاً، أما اليوم فأكتفي بالزراعات الكبرى قمحاً أو شعيراً بالاعتماد كلياً على الأمطار الموسمية التي قلت بدورها بصورة لافتة”.

وحال محمد البولعابي لا تختلف كثيراً عن حال عشرات المزارعين في هذه المناطق الذين يكابدون من أجل الحفاظ على موارد رزقهم وسط شح المياه وتدهور المائدة المائية بسبب ندرة التساقطات المطرية.

حمودة التابعي فلاح من معتمدية تاجروين، في ولاية الكاف، الحدودية مع الجزائر تخلى بدوره عن زراعة الخضراوات والبطاطا وبات يعول فقط على الزراعات الكبرى والزيتون بسبب نضوب البئر التي يعتمد عليها في ري زراعاته.

 

 

ويقول التابعي “بلغ عمق البئر الآن أكثر من 60 متراً بينما كان في السبعينيات والثمانينيات على عمق 10 أمتار فقط، كان الخير وفيراً وقتها والأمطار متوافرة على طول السنة، واليوم نحن نعاني وعشرات بل مئات الشباب غادروا المنطقة نحو تونس الكبرى والساحل، بحثاً عن موارد الرزق”.

التابعي وزوجته يقيمان في ضيعتهم منذ عقود ويعتمدان على زراعة الخضراوات التي يبيعانها في السوق الأسبوعية، واليوم هو يعمل في الحظائر (مشاريع عمل وقتي في التنظيف والعناية بالبيئة ممولة من الدولة بأجور زهيدة)، ولم تعُد مزرعته قادرة على إنتاج الخضراوات بسبب ندرة التساقطات المطرية وانحسار المائدة المائية ونضوب البئر”.

شح الأمطار

ويعود جفاف عدد من الآبار لشح الأمطار واستنزاف المائدة المائية الجوفية من قبل السلطات الجزائرية التي أنشأت عشرات السدود على الحدود التونسية، مما أسهم في عدم وصول المياه بالكميات المطلوبة إلى الأودية التي تصب في تونس وتنبع من الجزائر على غرار وادي ملاق ووادي مجردة.

ويتساءل كثيرون عن مدى تأثير السياسات المائية المتبعة من الجزائر في تونس، بخاصة عند المناطق الحدودية بين البلدين؟ وهل توجد اتفاقات بين الدولتين تنظم مسألة تقاسم المياه تحديداً بالنسبة إلى الأودية التي تنبع من الجزائر وتصب في تونس؟

 

 

تؤكد دراسة حول خريطة الفقر في تونس أعدها المعهد الوطني للإحصاء عام 2020 ارتفاع نسبة الفقر المائي في المناطق غير الساحلية، تحديداً وسط البلاد وشمالها وفي المناطق الحدودية مع الجزائر بصورة خاصة بسبب التغيرات المناخية التي أثرت في القطاع الفلاحي الذي يستوعب النسبة الأكبر من اليد العاملة في تلك المناطق.

وبينما نجحت الجزائر في توسيع المساحات الزراعية المروية على طول الحدود مع تونس وضمان استقرار سكان المناطق الحدودية يضطر المزارعون التونسيون إلى مغادرة أراضيهم كرهاً في ظل شح المياه.

الجزائر وتحقيق الأمن المائي

وتسعى الجزائر إلى تحقيق أمنها المائي من خلال زيادة عدد السدود إلى 139 سداً بحلول عام 2030، ووفق تصريح المدير العام للوكالة الوطنية للموارد المائية في البلاد مهدي عقاد فإن “قدرات تخزين المياه ضمن السدود الموزعة عبر التراب الجزائري والبالغ عددها 80 سداً سترتفع إلى نحو تسعة مليارات متر مكعب إثر دخول خمسة سدود جديدة الخدمة”.

وتتوافر للجزائر إمكانات كبيرة بالمقارنة مع تونس تمكنها من استغلال المائدة المائية المشتركة، ويؤكد كاتب الدولة السابق للموارد المائية والصيد البحري عبدالله الرابحي أن “التغيرات المناخية أثرت في تونس والجزائر على حد سواء، وبينما تواجه تونس صعوبات اقتصادية ومالية لاستغلال المائدة الجوفية فإن الجزائر وضعت استراتيجية متكاملة لاستغلال تلك المياه من خلال حفر عدد من الآبار العميقة، مما غير من وجه المناطق الحدودية المحاذية لتونس التي باتت منتجة كبيرة للخضراوات كوادي سوف”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويقول الرابحي في حديثه إلى “اندبندنت عربية” إن “آلية التشاور التي وضعتها كل من ليبيا والجزائر وتونس أخيراً لاستغلال المياه الجوفية الصحراوية المشتركة خطوة إيجابية من أجل تبادل المعلومات الدقيقة والتنسيق المحكم للحفاظ على هذه المائدة المهمة والاستراتيجية للبلدان الثلاثة”.

ويحذر من “استنزاف هذه المائدة المشتركة لأنها مائدة أحفورية ولا تتجدد واستغلالها المفرط قد يسهم في ارتفاع نسبة الملوحة في شط الجريد بتونس”.

ويشدد الرابحي على أهمية “التفاهم المشترك بين تونس والجزائر بما يخدم مصلحة البلدين في الاستغلال الأمثل للموارد المائية المشتركة، إذ إن الوضع المائي متشابه في البلدين خلال الأعوام الأخيرة للنقص الحاد المسجل في التساقطات المطرية”.

وبخصوص وادي مجردة الذي ينبع من الجزائر ويصب في تونس وتأثر منسوبه بفعل شح الأمطار يؤكد أن البلدين شيدا سدوداً على هذا الوادي في إطار ما تضبطه القوانين والاتفاقات الدولية.

صراع خفي حول المياه

وتتمتع كل دولة بالسيادة الكاملة على أراضيها وبإمكانها بناء السدود من دون حاجة إلى موافقة الدولة المجاورة، وعلى رغم وجود اتفاق عام ينص على ضرورة تنسيق الدول في ما بينها يظل غير ملزم، وفق ما أكده أستاذ التصرف في الموارد في الجامعة التونسية حسين الرحيلي.

ويقول الرحيلي في تصريح خاص إن “الجزائر بنت أكبر ثلاثة سدود على وادي مجردة في التسعينيات، كما شيدت تونس سد بربرة على وادي بربرة الذي ينبع لديها ويصب في الجزائر”، واصفاً الوضع بأنه “صراع خفي بين مختلف الدول حول المياه”.

ويشير إلى “وجود تنسيق بين تونس والجزائر على مستوى الإدارات المعنية بالتصرف في السدود بخاصة حال الخفض من منسوبها عند امتلائها من أجل التحكم في كمية المياه التي ستُفرغ حتى لا تلحق أضراراً بالسكان والممتلكات”.

 

 

ويرى الرحيلي أن الجزائر تستغل المائدة المائية الموجودة على أراضيها من خلال حفر الآبار العميقة ذات الكلفة العالية وتقدم حوافز مهمة للمزارعين، بينما تونس تعوزها الإمكانات المادية، داعياً الدولة إلى العمل على حماية مصالحها الحيوية واستغلال المائدة المائية الجوفية وتشجيع الفلاح التونسي من خلال توفير المياه.

الأمن المائي والغذائي

وتحدثت بيانات صادرة عن وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري في تونس عن تعويلها على سدود الشمال كبديل لنقص مياه وادي مجردة ووادي ملاق بسبب الجفاف خلال الأعوام الأخيرة.

يذكر أن عنوان الزيارة الأخيرة لوزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين في الخارج محمد علي النفطي إلى الجزائر كان تعميق التعاون والشراكة المتضامنة في القطاعات الحيوية التي تشكل أولوية للجانبين، لا سيما الطاقة والأمن الغذائي والمائي والنقل والتجارة والهجرة غير النظامية.

وبينما لم يتسنَّ التواصل مع الجهات الرسمية في الجزائر لسؤالها عن التنسيق مع تونس بالنسبة إلى استغلال المياه المشتركة، يؤكد الصحافي الجزائري نصر الدين بن حديد أن “البلدين يتقاسمان الوضعية المائية نفسها وسط حال الشح المائي وتراجع التساقطات”، وأشار إلى تقارب وجهات النظر بينهما في استغلال المياه المشتركة الجوفية من خلال الاتفاق على إنشاء آلية للتشاور بين تونس وليبيا والجزائر لاستغلال المائدة المائية الصحراوية المشتركة.

ويذكر بن حديد أن “تونس والجزائر تربطهما علاقات تاريخية سياسية واقتصادية قوية والقانون الدولي يعطي لدولة المصدر ودولة المصب حقوقاً شبه متساوية في تقاسم المياه وإدارتها، ولم تحدث خلافات بين الدولتين حول هذه المسألة والتواصل لا ينقطع، بخاصة عند نزول كميات كبيرة من الأمطار من أجل التحكم في منسوب السدود عندي المناطق الحدودية بين الدولتين”.

وتشكل التغيرات المناخية وشح التساقطات تحدياً حقيقياً لكل من تونس والجزائر وليبيا خلال الأعوام المقبلة، لذلك يعتبر المراقبون أن استغلال الحوض المائي الجوفي في الصحراء المشتركة بين الدول الثلاث الذي يمتد على مساحة مليون كيلومتر مربع وتقدر كميات مياهه بـ60 مليار متر مكعب بديلاً استراتيجياً شرط التنسيق وتبادل المعطيات بصورة موضوعية للحفاظ على هذا الخزان وللحد من أخطار استنزافه.

نقلاً عن : اندبندنت عربية