أمضى المخرج كفاح الخوص أربعة أشهر من التحضيرات الشاقة تكللت في العرض الذي أخذ شكل مختبر فني مفتوح مع طلاب المعهد المسرحي، هكذا جاء العرض متضامناً مع أحلام 18 ممثلاً وممثلة خاضوا تجربتهم الأولى على عتبة الاحتراف، إذ كثيراً ما اعتبرت تجارب الأكاديمية الدمشقية منذ تأسيسها عام 1977 بمثابة إشهار لمواهب جديدة في الوسط الفني السوري، وفرصة لانتزاع الحق في النظر إليهم، بعيداً من قوالب الأداء التقليدية في المسارح الرسمية.
ومثلما درجت العادة اكتظ مسرح فواز الساجر بجمهور أبى إلا أن يسجل حضوره الكثيف لأولى التجارب في المعهد العالي للفنون المسرحية بعد سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد. لم يكن سهلاً التخلص من محظورات الرقابة البعثية في “تغريبة الشتاء الطويل”، ولكن من دون الوقوع في مباشرة فنية قد تضر بالعمل المسرحي، أو ربما تسوقه لتقليد حرفي للواقع. من هنا كانت مهمة الإخراج ليست باليسيرة، إلا أن الفنان كفاح الخوص خاض عميقاً في فرضية مغايرة. 18 رجلاً وامرأة تجبرهم الحرب على اللجوء إلى مغارة في أحد الجبال المطلة على بلدة مضايا. الأحداث المستلهمة من واقعة حصار قوات النظام البائد عام 2015 للبلدة الجبلية (شمالي غربي دمشق)، قادت إلى تشريح الظروف القاهرة للهاربين من بطش السلطة وقمعها الدموي.
يمكن العثور رويداً رويداً على ثنائيات درامية من رجال ونساء تدفعهم هذه الظروف إلى مكاشفات صادمة، فالحصار والجوع والقصف والمرض والخيانة، جميعها لعبت دوراً في إماطة اللثام عن وجوه الضحايا والجلادين على حد سواء. أبرز هذه الحكايات نتابعها مع الطبيبة سماح (كندة خليل) التي تواظب على علاج الجرحى وإجراء الإسعافات لهم، في حين تخفي قصتها وتسمو فوق جرحها الشخصي، إذ تعرضت هي الأخرى للاعتقال والاغتصاب في سجون النظام البائد، وها هي تخفي حملها من مغتصبها المجهول، مما يدفع خطيبها فاروق (أنس حمودة) إلى طلب يدها من عمها عدنان (عبدالله عفيف) كي ينقذها من العار في مجتمع لا يرحم امرأة مغتصبة، لكن العم سيتهم حبيبها الشاب بأنه هو من قام باغتصابها، إلى أن يكتشف حقيقة ما حدث رفقة والديها ربيع (حسين مختار) وعزيزة (صبا زهر الدين).
ثنائيات إجتماعية
نتعرف أيضاً عبر هذه الثنائيات على حسان (أحمد الشعيب) الذي يمعن هو الآخر في استغلاله لأبناء بلدته، مثلما يبتز زوجته حياة (مي حاطوم) المرأة التي تشاهد كيف يتحول شريك حياتها من طبيب بيطري فاشل إلى تاجر عقارات ومرآب، فيشتري البيوت المهدمة من أصحابها بأبخس الأسعار، ويعمل بدعم مالي من خليل (خالد شمالية) على تكديس أرباح خيالية على حساب حاجة الآخرين إلى الغذاء والدواء، فيما نشاهد هذا الأخير كيف يتزوج من بارعة (سارة مرشد) بعد أن يتهم زوجته الأولى يسرى (لجين دمج) بأنها عاقر. نكتشف بعدها بأن ابنة عمه ليست عاقراً، بل هو من يعاني ضعفاً جنسياً، فيما يقتل غزوان (ليث الشيخ) ابن الزوجة الثانية على خلفية مواجهات مع قوات النظام البائد. حادثة ستجمع زوجتي الرجل العنين في مواجهة ذكورة زوج تاجر بكل شيء كي ينتقم من نفسه ومن الآخرين، بعد أن فقد ساقه في المعتقل.
في هذه الأثناء تتقدم حكاية مروان (عمران نصر) إلى واجهة أحداث العرض، فالشاب الذي يهيم شوقاً بحبيبته التي هاجرت من البلاد، سنكتشف أنها محض خيال، وأنها ترجيع صدى لسنوات قضاها الشاب في المعتقل يحمل رقماً لا اسماً، فلقد نسي اسمه كما نسي كثيراً من ماضيه، لكنه ظل يتذكر حبيبته التي تزوجت من رجل آخر، وأنجبت منه مولوداً في بلاد المغترب. صدمة لن تكون الأخيرة بعد أن يسرد “تغريبة الشتاء الطويل” أحداثاً أكثر قسوة، فالصديق يشي برفيق عمره ويتحول إلى مخبر حتى يظفر بزوجة صديقه، فيما تحضر نبرة ساخرة على ألسنة كبار السن في البلدة: (نيكول عبيد، سيمون فرح، غابي عمسو).
وينتهي العرض بمقتل عدنان بعد وشاية من رجال الاستخبارات، فينهال القصف بالصواريخ والقذائف على المكان، ونسمع صرخة في الظلام لمروان يرفع صوته بكلمة: “يكفي”. في هذه الأثناء يجري الإيقاع بالتاجر حسان بعد تكاتف أهل البلدة ضده. خاتمة رمزية لقالب واقعي أرادها مخرج العرض تعبيراً صارخاً عن ضحايا الحروب، فبعد التشريح المتصاعد لأقطاب الصراع يذهب “تغريبة الشتاء الطويل” إلى إعادة تمثيل الجريمة، وتقديم محاكاة لواقع ذات البين السوري، لكن هذه المرة لا يستند الخوص إلى نص مكتوب، بقدر اتكائه على معالجة فنية تتخذ من ارتجال الممثل أثناء التدريبات مادة جوهرية للعرض، ومن ثم إعادة تركيب وتفكيك المشهد السوري وفق أسلوب درامي صرف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هكذا حاول “تغريبة الشتاء الطويل” تقديم بنية متعددة لكورال من أصوات متجاورة، فكل حكاية كانت تقود إلى أخرى، وكل حادثة تدفع الصراع بين الشخصيات إلى اعترافات مؤجلة. واكب كل ذلك ديكور لافت (محمد كامل)، الذي اعتمد على مجسم من الورق والكرتون للكهف الذي تقيم فيه الشخصيات الهاربة من القصف. فضاء لتكوين من الصخور والأتربة غطته إضاءة (حمزة أيوب) مرة في تعتيم أجزاء من المسرح الدائري، ومرات في تغييب وإظهار شخصيات وفقاً لتسلسل الحدث وتعقيداته. في الوقت الذي تمكنت الموسيقى (آري جان سرحان، ظافر يوسف) من مفصلة مناظر العرض رفقة عازف البزق جاد اسعيد.
وسمحت تقنية التأليف الجماعي للعرض باقتراح مساحات متباينة لأداء الأدوار، وتمكين الممثل من توليف اللعبة المسرحية مع شركائه على الخشبة، فالنزاع الدائر بين الشخصيات كان عليه استعادة الماضي وتكثيفه في زمن فني (ساعتان ونصف ساعة)، وعليه ركز كفاح الخوص على إبراز التمايز بين شخصياته بمساندة من خولة ونوس (تصميم الأزياء والمكياج). الأمر الذي قدم فروقاً نفسية وفيزيولوجية لكل شخصية، وعمل على تظهير التلوين في الأداء بعيداً من المبالغة والنبرة الخطرة للممثلين، وهذا ما بدا واضحاً في ضبط إيقاع كل لوحة من لوحات العمل، وجعل القصص الفرعية منضوية بقوة في الفرضية الأم لـ”تغريبة الشتاء الطويل”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية