تداول السودانيون على وسائل التواصل الاجتماعي بكثير من الحسرة والغضب والاستياء الأنباء عن ظهور قطع أثرية مهمة تمثل تراث وتاريخ وحضارة وهوية البلاد معروضة للبيع عبر الإنترنت وعلى الشريط الحدودي بين السودان وجنوب السودان، فبعد التعدي والتخريب والأضرار الكبيرة التي طاولت قطاع الآثار جراء الحرب، كشف النقاب عن سرقة ونهب عدد من المتاحف القومية والولائية والمتخصصة على رأسها المستودع الأثري الرئيس داخل متحف السودان القومي والأكبر والأهم بالعاصمة السودانية الخرطوم.
سرقة ممتدة
وأكدت الدكتورة إخلاص عبداللطيف مديرة متحف السودان القومي في حديث لـ”اندبندنت عربية”، أن عمليات سرقة محتويات المتحف القومي بدأت منذ أغسطس (آب) 2023 إثر اقتحام قوات “الدعم السريع” المتحف والاستيلاء عليه واستمرار بقائها في هذه المنطقة.
وعبرت عبداللطيف، عن بالغ أسفها للسرقة التي تعرض لها أهم وأكبر متاحف السودان الذي يضم مستودعاً لجميع آثار البلاد بكل محتوياتها التاريخية الثمينة وأهميتها البالغة التي لا تقدر بأي ثمن مهما كان.
وافتتح متحف السودان القومي أكبر متاحف البلاد لأول مرة في عام 1904، ثم أعيد افتتاحه مرة أخرى بمقره الحالي على شارع النيل في الخرطوم في عام 1971، وجمع المتحف قطعاً ومقتنيات أثرية تمثل جميع فترات الحضارة السودانية منذ ما قبل التاريخ والعصور الحجرية وحتى الفترة الإسلامية.
وأوضحت مديرة المتحف، أن السرقة والنهب لم يقتصرا على المتحف القومي فقط، إذ سرقت أيضاً كل محتويات متحف مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور ولم تسلم منها حتى وسائل وأدوات العرض، ولا تزال “الدعم السريع” تتخذ المبنى مقراً إدارياً لقواتها، إضافة إلى انتهاكها جميع المتاحف في العاصمة بدءاً بالمتحف الحربي ثم الأثنوجرافيا وبيت الخليفة.
حضارات العصور
ويحتوي المتحف القومي على مجموعات أثرية تشمل تماثيل حجرية، ومقتنيات جلدية وبرونزية وحديدية وخشبية ولوحات جدارية وأسلحة ومنحوتات، وأواني وأدوات زينة وغيرها، تمثل فترات الحضارة السودانية المختلفة منذ العصور الحجرية وما قبل التاريخ.
ويشكل فناء وحديقة المتحف معرضاً مفتوحاً يشتمل على عدد من المعابد والمدافن والنصب التذكارية والتماثيل ذات الأحجام المختلفة، التي جرى إنقاذها وتفكيكها خلال حملة الـ”يونيسكو” الدولية التاريخية لإنقاذ آثار منطقة النوبة التي أغرقتها بحيرة ناصر عند إنشاء السد العالي أقصى شمال السودان وجنوب مصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونقل تلك المجموعات الأثرية بما فيها معابد سمنة الشرقية والغربية، ومعبد عكشة الذي يؤرخ لفترة رمسيس الثاني، إلى جانب المقبرة الصخرية للأمير النوبي (جحوحتب) ومعبد بوهين وبقايا أعمدة غرانيت تعود للفترة المسيحية من كاتدرائية (فرص)، وكلها أعيد تركيبها في فناء المتحف حول حوض مائي يجسد نهر النيل لتبدو وكأنها في موقعها الأصلي.
شحنات من الآثار
وكشفت مصادر أثرية، عن رصد ثلاث شاحنات كبيرة وهي تغادر مبنى المتحف في قلب العاصمة الخرطوم مروراً بمدينة أم درمان وتشق طريقها إلى غرب السودان وصولاً إلى الحدود مع دولة جنوب السودان إذ ظهرت بعض القطع الأثرية معروضة للبيع على الشريط الحدودي وداخل الجارة الجنوبية.
ونوهت المصادر، إلى أن حجم الشاحنات المرصودة يشير إلى أن كميات الآثار المسروقة كبيرة وثقيلة الوزن، بعد تعرض مستودع تخزين القطع الأثرية بالمتحف للسرقة، لكن من غير المعروف حجم المنهوبات المفقودة من مجموع المقتنيات ذات القيمة التاريخية العالية التي كانت كلها محفوظة بالمستودع بسبب عمليات الصيانة وإعادة التأهيل بالمتحف منذ أكثر من عام قبل نشوب الحرب.
ولفتت إلى أن هيئة الآثار لم تتمكن حتى الآن من التحديد الدقيق لحجم المسروقات والدمار والأضرار التي حلت بمواقع التراث الثقافي جراء الحرب، إذ لا يزال هناك كثير من المواقع في مرمى الخطر، وتغيب عنها عمليات الصيانة الدورية والحماية مع احتمالات النهب والتدمير والحريق.
عروض البيع
في السياق ذاته، أكد مركز بحوث الثقافة والتاريخ والحضارة السودانية، أن عمليات النهب والتهريب الواسعة التي طاولت محتويات المتحف القومي في الخرطوم، الذي يقع تحت سيطرة (ميليشيات) “الدعم السريع” منذ بداية النزاع، جرى تتبع مسارها بواسطة الأقمار الاصطناعية.
وطلب المركز في رسالة إلى رئيس دولة جنوب السودان، سلفا كير ميارديت المساعدة في تتبع تلك الشاحنات والمجرمين الذين دخلوا إلى جنوب السودان والقبض عليهم لاستعادة تلك القطع الأثرية الثمينة، مشيراً إلى أن هذه الخطوة تمت بالتنسيق مع وزير الثقافة والإعلام جراهام عبدالقادر وسفارة السودان لدى جوبا، بغرض تنسيق وتوحيد الجهود الرسمية والعلمية والمهنية في هذا الشأن.
وأوضح أسامة سيد أحمد الحسين أمين التعاون الدولي بالمركز، أن بعض القطع الأثرية التي عُرضت للبيع عبر الإنترنت لا تنتمي فقط إلى الشعب السوداني، بل هي جزء من التراث الإنساني العريق، وتلزم القوانين الدولية الجميع بحمايتها والمحافظة عليها.
وأكد الحسين أن المركز يعمل على متابعة واسترجاع القطع الأثرية المنهوبة التي تعد جزءاً من التراث الإنساني، مطالباً كل المهتمين بالمساعدة في تتبع مسارات الشاحنات للقبض على المجرمين والقبض عليهم لاستعادة القطع الأثرية الثمينة.
حسرات التاريخ
على الصعيد نفسه، قال أمين الكشف الأثري بهيئة الآثار السودانية الحسن أحمد النوش، إن المتحف القومي هو الماعون لكل الأدلة المجسمة لتاريخ وحضارات وهوية الشعب السوداني الضاربة في القدم على مر العصور، وإن فقد تلك المقتنيات المتحفية يمثل مأساة لا تدانيها مأساة، ومن الضروري أن تعود هذه الكنوز إلى وطنها ومهد جذورها.
وذكر النوش في تصريح خاص، أن محتويات المتحف تشمل الآلاف من القطع الأثرية التي لا تقدر بثمن وتمثل كل الفترات والحقب الحضارية والتاريخية منذ ما قبل التاريخ جمعت من مواقع الشهيناب وخور أبو عنجه وسنجة ومواقع أخرى متعددة، إلى جانب تحف من فترة كرمة (كوش الأولى) وأخرى من فترة الدولة المصرية الحديثة، ثم فترة نبتة (كوش الثانية) إضافة إلى مقتنيات أثرية من مواقع جبل البركل والكرو ونورى، مروراً بفترة حضارة مروى ومواقع النقعة والمصورات والبجراوية ومواقع أخرى كثيرة وصولاً إلى فترة ما بعد مروى، بينما يحتضن الطابق العلوى للمتحف آثار الفترة المسيحية وجداريات كنيسة فرص وبعض المقتنيات القليلة من الفترة الإسلامية.
يتحسر النوش على ما حدث بالمتحف القومي الذي تمثل محتوياته حصيلة جهد وتاريخ طويل من البحث الآثاري امتد لأكثر من 100 عام، ولا يمكن تعويضه لأن الكشوف الأثرية تحدث مرة واحدة ولا تتكرر، فضلاً عن أنها ثمرة عمل مضن لعلماء وباحثين جاءوا من كل أنحاء العالم استكشفوا ونقبوا وخلدتهم كشوفاتهم من خلال ما خلده أجدادنا.
نداء دولي
على نحو متصل طالبت جمعية أصدقاء المتاحف السودانية، بضرورة التدخل العاجل من قبل المجتمع الدولي لاستعادة الآثار السودانية المنهوبة وإنقاذ المتضررة منها. وقال بيان للجمعية، “إن المتاحف ليست مجرد مستودعات لحفظ الآثار بل هي مؤسسات حيوية هدفها حماية المعرفة والتجارب الإنسانية عبر العصور، مما يجعل تدميرها ونهبها تهديداً واعتداء على الذاكرة الثقافية والإنسانية ويعزز في الوقت نفسه الحاجة الملحة لاستعادة الآثار وحمايتها”.
وأكد البيان، أن عمليات النهب والتدمير التي طاولت المتاحف السودانية، بما في ذلك المتحف القومي ومتحف الاثنوجرافي ومتحف بيت الخليفة، ألقت بظلالها على التراث الثقافي السوداني والإرث الحضاري العالمي.
مسروقات سابقة
وتجيء عمليات نهب وسرقة متحف السودان القومي وبعض المتاحف الولائية الحالية قبل أن يتمكن السودان من استرداد آثاره المسروقة في فترات سابقة كانت السلطات المتخصصة قد شرعت في إجراءات استعادتها.
وكشف المدير السابق للهيئة العامة للآثار والمتاحف السودانية عبدالرحمن علي، أن الجهات المتخصصة كانت شرعت في إجراءات حصر ومتابعة الآثار الوطنية التي خرجت من البلاد بصورة غير شرعية سواء عبر السرقة أو التهريب، منذ الفترات الاستعمارية وما بعدها. وأوضح علي أن الأجهزة المتخصصة بدأت في متابعة القطع الأثرية المحمية بالاتفاقيات الدولية الخاصة بعدم تهريب الآثار من أوطانها الأصلية وعلى رأسها اتفاقية الـ”يونيسكو” لعام 1970، إلى جانب القوانين الوطنية الحامية للآثار، بالتنسيق مع المتاحف العالمية الكبرى لتأمين الملكية الفكرية للآثار السودانية.
ودعا المدير الأسبق لهيئة الآثار إلى ضرورة تشكيل آلية تنسيقية وطنية تضم المؤسسات ذات الصلة إلى جانب متخصصين في القانون الدولي والآثار من الداخل والخارج، لإعداد خريطة طريق لاسترجاع الآثار السودانية، فضلاً عن إنشاء وحدة متخصصة للاسترداد بالتعاون مع البوليس الدولي (الإنتربول).
صمت والتزام
وفيما لم تعلق قوات “الدعم السريع” التي تسيطر على المتحف السودان القومي منذ أسابيع الحرب الأولى على الاتهامات الأخيرة بسرقة الآثار وتهريبها إلى الخارج البلاد، لكنها كانت نفت أي ضلوع لها في سرقة أو تخريب بالمتحف، مؤكدة التزامها الحفاظ على سلامة محتوياته.
وكانت مقاطع فيديو انتشرت عقب دخول مجموعة من قوات “الدعم السريع” إلى المتحف في يونيو (حزيران) 2023، وهم يتجولون داخل صالات المتحف ويعبثون بصناديق المومياوات وعدداً من المحتويات.
كما أشارت تقارير صحافية إلى أن عملية نهب وتهريب واسعة لمحتويات لمتحف السودان القومي رصدتها الأقمار الاصطناعية تؤكد خروج شاحنات من داخل المتحف وتوجهها نحو الحدود مع دولة جنوب السودان.
وذكرت هيئة الإذاعة والتلفزيون السودانية الرسمية، أن بعض محتويات المتحف عرضت بالفعل على الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، من دون التأكد ما إذا كانت هناك عمليات البيع تمت فعلاً.
محنة الآثار
إلى جانب الكارثة الإنسانية الأكبر وأزمة النزوح الأسوأ في العالم التي تسببت فيها الحرب المندلعة بين الجيش وقوات “الدعم السريع”، منذ منتصف أبريل (نيسان) 2023، وأدت كذلك إلى تدمير عدد من الدور الثقافية والمكتبات ووضعت معظم المواقع الأثرية السودانية في مواجهة تهديدات التخريب والتدمير والسرقة والتهريب، إلى جانب أخطار الأمطار والسيول والزحف الصحراوي في وقت توقفت فيه عمليات المتابعة والصيانة والترميم الدوريين.
كما تهدد الحرب التي انطلقت شرارتها في العاصمة السودانية الخرطوم، وتمددت نيرانها إلى إقليم دارفور، وولايتي الجزيرة وسنار وسط البلاد، ثم جنوب كردفان وتخوم إقليم النيل الأزرق وولاية نهر النيل، بجر البلاد إلى أتون حرب أهلية طويلة قد تزعزع استقرار المنطقة بأكملها.
نقلاً عن : اندبندنت عربية