إن كانت فرنسا تعول على رئيسها إيمانويل ماكرون لمحاولة احتواء الشعور بالأزمة عقب انهيار الحكومة، فهي مخطئة في حساباتها.

ففي خطاب وطني ألقاه الرئيس الفرنسي مساء الخميس الماضي (واتسم أحياناً بلهجة متعالية وشديدة)، وجه سهام لومه وانتقاداته إلى المعارضة بشقيها اليساري واليميني، واتهمها بتغليب مصالحها الخاصة على مصلحة الناخبين، وبالاتحاد في جبهة وصفها بأنها “معادية للجمهورية”، أي معادية لفرنسا. وقد رفض ماكرون الدعوات المطالبة باستقالته، مؤكداً أنه لن يتحمل مسؤوليات الآخرين، لكنه أعلن عن استعداده لتسمية رئيس وزراء جديد في الأيام المقبلة.

وفي التفاصيل، أُجبر ميشال بارنييه، الذي شغل منصب رئيس وزراء لفترة لم تتعد الأشهر الثلاثة، على تقديم استقالته بعد حجب الثقة عنه في الجمعية الوطنية، علماً بأن النواب من طرفي الطيف السياسي وحدوا صفوفهم لإطاحته، في خطوة حسمتها موازنة هدفها تقليص العجز وخفض النفقات، حاول بارنييه تمريرها متجاوزاً إرادة النواب.

وتجدر الإشارة إلى أن الأحداث الراهنة تعكس التأثيرات المتوقعة للدستور الفرنسي، وإن كانت دراماتيكية. ومع ذلك، فإن توقيتها جاء في أسوأ لحظة ممكنة. ففرنسا فعلياً بلا حكومة، بينما استقبل الرئيس ماكرون شخصيات بارزة من مختلف أرجاء العالم في إعادة افتتاح كاتدرائية “نوتردام” السبت الماضي بعد ترميمها ببراعة، في حدث يعتبر انتصاراً دبلوماسياً لماكرون، لا سيما أن قائمة الضيوف تشمل الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب.

ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن مشكلات ماكرون بمعظمها، إن لم نقل برمتها، هي من صنع يديه. ففي ما بدا كاستجابة مندفعة، بل حتى متهورة، للانتخابات الأوروبية في يونيو (حزيران) الماضي، أقدم ماكرون على حل الجمعية الوطنية ودعا إلى تنظيم انتخابات نيابية جديدة، وهو ما زاد الطين بلة وعمّق الأزمة. لذا، فبدلاً من برلمان معلق وبالكاد قادر على تحقيق أي توافق، تمخضت عن الانتخابات المذكورة جمعية وطنية شديدة الانقسام بين أقصى اليسار وأقصى اليمين، بينما تراجعت الكتلة الوسطية بصورة ملحوظة مقارنة مع ما كانت عليه سابقاً.

وقد انتظر ماكرون شهرين قبل تعيين السياسي المخضرم (وكبير المفاوضين السابق في ملف “بريكست”) ميشال بارنييه في منصب رئيس الوزراء، في قرار لم يلقَ قبول أي من الأطراف. فالتكتل اليساري، الذي يشكل غالبية في البرلمان، اعترض على تعيين رئيس حكومة من التيار الوسطي اليميني، معتبراً أن ذلك لا يتماشى مع المبادئ الديمقراطية. أما مارين لوبان، رئيسة حزب “التجمع الوطني” اليميني الشعبوي، الذي يعتبر الحزب الأوحد الأكبر حجماً على الإطلاق في البرلمان، فأبدت استياءها من أن رئيس الحكومة الجديد ليس “يمينياً بما فيه الكفاية”. لذا كان سقوط بارنييه مسألة وقت ليس إلا.

واليوم، يجد ماكرون نفسه محاصراً سياسياً، بعدما فقد فرصة واضحة للخروج من المأزق، تتمثل في الدعوة إلى انتخابات جديدة. ذلك أن الدستور الفرنسي يمنع إجراء انتخابات جديدة مرتين خلال فترة عام واحد.

على هذا فما دام الانقسام سيد الموقف في الجمعية الوطنية وفي أوساط الناخبين الفرنسيين، وما دام هؤلاء غير مستعدين لقبول أي نوع من أنواع التقشف، فإن فرص نجاح رئيس وزراء جديد في المهمات التي فشل فيها بارنييه تبدو ضئيلة للغاية. ومع إصرار ماكرون على البقاء في السلطة حتى عام 2027، يبدو أن فرنسا ستدخل في فترة مليئة بالتحديات والصعوبات. وفي هذا السياق، يتوقع بعض المراقبين أن يتسبب الإحباط الشعبي باحتجاجات في الشوارع، مما سيزيد من تعقيد المهمة أمام أية حكومة جديدة.

وما لا شك فيه هو أن أياً من النجاحات البارزة التي حققتها فرنسا، كإعادة افتتاح كاتدرائية “نوتردام” وتنظيم الألعاب الأولمبية، قد تسهم إلى حد ما في تهدئة الاضطرابات السياسية الداخلية، وتتيح لفرنسا الحفاظ على ماء الوجه في الساحة الدولية. وقد يزعم بعض المتابعين أنه ما دام الرئيس، حتى إن كان ضعيفاً كما هي الحال مع ماكرون، في منصبه، فإن أي ضرر قد يصيب مكانة فرنسا في الخارج سيكون محدوداً، لأن السياسة الخارجية والدفاعية تبقى أساساً من المسؤوليات الرئاسية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بيد أن هذه العوامل المساعدة لفرنسا بدأت تبدو هشة نسبياً، إن تطلعنا إليها من منظور الجوار الأوسع. فعودة دونالد ترمب المرتقبة إلى البيت الأبيض تثير قلق عدد كبير من الدول التي بدأت تعدل تصريحاتها، إن لم نقل أفعالها، مع وجود نوايا سياسية تثير قلق أوروبا: أولاها تهديده باستخدام الرسوم الجمركية ضد منافسيه في مجال التجارة، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، وثانيتهما تعهداته إنهاء الحرب في أوكرانيا.

وفي هذا الإطار، تُطرح تساؤلات حول مدى احتمال نجاح ترمب وقدرته على الوفاء بوعوده. لكنه في هذه المرة يعود وفي جعبته خبرة اكتسبها من ولايته الرئاسية السابقة، وبالنظر إلى وتيرة تعييناته، يبدو أنه مصمم على بدء عهده بسرعة. لذا إن أراد الأوروبيون أن يكونوا على قدر التحدي، فسيكون عليهم توحيد صفوفهم.

إن تحقيق ذلك ممكن بلا أدنى شك. ففي عام 2002، نجح الاتحاد الأوروبي في تجنب التعريفات الجمركية الأميركية على الحديد. بيد أن الاتحاد الأوروبي آنذاك كان مختلفاً عما هو عليه اليوم مع ظهور اختلافات في الأولويات مقارنة مع آنذاك. ففي تلك الحقبة، كان يُنظر إلى الثنائي الذي شكلته فرنسا وألمانيا على أنه ركيزة للتطور ومحركه الأساس. ومع وجود المملكة المتحدة في قلب الاتحاد الأوروبي، كانت هذه الأنظمة الاقتصادية الكبرى الثلاثة، المتكاملة بطرق عدة، قادرة على تحويل الاتحاد إلى قوة لا تُقهر. لكن الوضع لم يعد كما كان عليه في السابق.

والمأزق لا يطاول فرنسا وحدها. فتداعيات حرب أوكرانيا، إلى جانب ما يعتبره كثير حال جمود فرضتها أنغيلا ميركل، تسببتا في تراجع كبير جداً في ألمانيا، ناهيك بالتوترات المتعلقة بالهجرة وكلفة دعم أوكرانيا. وفي الشهر الماضي، أدى نزاع في شأن الموازنة إلى انهيار التحالف الثلاثي للأحزاب في ألمانيا، ووُجهت دعوة إلى إجراء انتخابات في فبراير (شباط) 2025، وهو الوقت الذي من المتوقع أن يفقد فيه الحزب الاشتراكي الديمقراطي ذو التوجهات الوسطية اليسارية، برئاسة المستشار أولاف شولتز، نفوذه.

لقد شكلت الانتخابات المحلية في الخريف الماضي انطلاقة لحملة انتخابية من المتوقع أن تهيمن عليها الانقسامات في شأن أوكرانيا. أما النتيجة المحتملة، فقد تتمثل بتشكيل ائتلاف بقيادة الوسط اليميني. ومع ذلك، من غير المرجح أن تكون لدى ألمانيا حكومة جديدة قادرة على العمل قبل أواخر الربيع المقبل.

وفي ظل غموض موقف الحكومة الألمانية المقبلة تجاه أوكرانيا وضعف التأييد الفرنسي لمسألة تقديم الدعم إلى هذه الأخيرة، يبدو أن التماسك الأوروبي في هذا الملف يتراجع. ففي فرنسا، يواجه دعم أوكرانيا رفضاً كبيراً من حزب “التجمع الوطني” بقيادة مارين لوبان، وهو الموقف ذاته الذي يعتمده اليمين المتطرف في ألمانيا. ومن ثم، تظهر الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي بوضوح على هذا الصعيد. فبينما تواصل بلدان الشمال والبلطيق إظهار دعمها القوي للمساعدات، تتراجع الحماسة حيالها في المجر ودول جنوب أوروبا. أما بولندا، وعلى رغم التزامها المستمر بالدعم العسكري لهذه الدولة، فإنها تبدي تحفظاً متزايداً حيال انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، مخافة أن تتحول هذه الأخيرة إلى منافس زراعي قوي لها.

وفي الوقت الراهن، يبدو من الصعب التصور أن الاتحاد الأوروبي سيتمكن من اعتماد سياسة موحدة، لا سيما في ظل الغياب الفعلي لفرنسا وألمانيا عن المشهد. وما يزيد الوضع تعقيداً هو تزامن ذلك مع احتمال استعداد الإدارة الأميركية لنقل العبء الأكبر لدعم أوكرانيا إلى أوروبا، وهو ليس فأل خير على الإطلاق، سواء لأوكرانيا أو للاتحاد الأوروبي كقوة دبلوماسية. علاوة على ذلك، يشكل هذا الواقع تهديداً لمكانة الاتحاد الأوروبي كفاعل أساس في مجالي الاقتصاد والأمن.

وكثيراً ما اعتُبر الاتحاد الأوروبي وسيطاً مؤثراً وقادراً على تحقيق النجاحات، بما في ذلك التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران. وعلى رغم وجود رغبة لدى بعض الأوروبيين في تعزيز الدور الدولي للمنظومة الأوروبية، فإن وحدة الرؤية في بروكسل لم تعد واضحة كما كانت في السابق. فعلى سبيل المثال، وعلى مر الأزمات المتعاقبة في الشرق الأوسط أخيراً، تراجع حضور الاتحاد الأوروبي ككتلة موحدة، إذ قلت تصريحاته الجماعية، ولم يحرك ساكناً على الإطلاق.

ويشير بعض المراقبين إلى فرصة محتملة لانضمام المملكة المتحدة إلى شركائها السابقين في الاتحاد الأوروبي، لتعزيز الدعم المقدم لأوكرانيا تحديداً، مع أن حلف الناتو يبدو الخيار الأكثر فاعلية في هذا السياق، إضافة إلى إمكانية مشاركتها في جهود دبلوماسية أوروبية مستقبلية في مناطق أخرى. ومع ذلك، وفي غياب دور فاعل لكل من فرنسا وألمانيا، سيكون من الصعب تصور انطلاقة ناجحة لأية مبادرة مشتركة يقودها الاتحاد الأوروبي، سواء بمشاركة المملكة المتحدة أو بغيابها.

وصحيح أن الاتحاد الأوروبي كان يفاخر برده الموحد في ربيع عام 2022، في أعقاب الغزو الروسي ونجاح أوكرانيا في مقاومته. لكن تلك الوحدة بدأت تتلاشى مع مرور الوقت. والأسوأ هو أن التحديات السياسية التي تواجهها ألمانيا وفرنسا، في جوانب كثيرة، هي من التداعيات المباشرة لهذه الحرب.

وعليه، يبدو من الصعب توقع أي جهد دبلوماسي أوروبي متماسك، أو أية مبادرة فاعلة أخرى، قبل أن تصبح لألمانيا وفرنسا حكومات مستقرة وقوية. ومع اقتراب موعد تولي دونالد ترمب مقاليد الرئاسة في الـ20 من يناير (كانون الثاني) 2025، وتزايد المؤشرات إلى أن الأشهر المقبلة ستكون حاسمة لأوكرانيا والشرق الأوسط، فإن الاتحاد الأوروبي – الذي يُنظر إليه في أفضل الأحوال كفاعل إقليمي متطوع – قد يخسر فرصة التأثير في مجريات الأحداث وتحديد مسار المرحلة المقبلة.

نقلاً عن : اندبندنت عربية