على مدى 24 عاماً ظل أحمد سعيد جاد الله يمارس عمله الأكاديمي بشهادات بكالوريوس وماجستير ودكتوراه مزورة، حتى ترقيته إلى درجة أستاذ مساعد وأستاذ ووصوله بهذه الشهادات “المضروبة” إلى منصب وكيل معهد العبور العالي للإدارة والحاسب ونظم المعلومات في مصر، حتى فُضحت جريمته بالصدفة وتقرر فصله نهائياً من المعهد، وإحالته بقرار من النيابة العامة بعد توقيفه للتحقيق معه في تلك الجرائم، في واحدة من أخطر وأغرب الجرائم التي شهدتها الجامعات المصرية.
وقائع تلك الجريمة الصادمة تعود إلى مارس (آذار) 2024، بعدما أزيح الستار عن تزوير الشخص المذكور جميع شهاداته الدراسية، بدءاً من البكالوريوس بكلية الحاسبات والمعلومات بجامعة عين شمس، وتزوير حصوله على درجة الماجستير وكذلك الدكتوراه من كلية العلوم جامعة الزقازيق، وزور أيضاً ما يفيد بترقيته إلى درجة أستاذ مساعد وكذلك ترقيته إلى درجة أستاذ بشهادات صادرة من المجلس الأعلى للجامعات.
بهذه الشهادات المزورة صدرت له قرارات وزارية عدة من وزارة التعليم العالي المصرية بتعيينه وترقيته أيضاً منذ عام 2001 حتى وصل إلى درجة وكيل المعهد العالي للإدارة والحاسبات ونظم المعلومات في العبور، بعدما كان قد بدأ تعيينه في البداية بالمعهد العالي للدراسات النوعية في مصر الجديدة (أحد أحياء القاهرة).
الواقعة السابقة، صاحبتها ضجة واسعة لدى الرأي العام المصري بصفة عامة والأوساط الأكاديمية على وجه الخصوص، وأعادت من جديد فتح الملف الشائك عن قضايا التلاعب في المحررات الرسمية وتزوير الشهادات الجامعية في محاولة لفك طلاسم وألغاز تلك الجرائم.
سماسرة الجامعات
لم يجد أحمد منصور (اسم مستعار)، وسيلة أمامه لتحقيق حلمه بالالتحاق بكلية الطب في إحدى الجامعات المصرية الخاصة عقب إخفاقه في الحصول على مجموع بالثانوية العامة يؤهله لها، سوى اللجوء إلى إحدى الوسائل الاحتيالية المخالفة للقانون.
استعان “منصور” بمساعدة أسرته بأحد السماسرة المعروفين بقدرتهم على تسهيل إجراءات القبول في عدد من الجامعات المصرية، وذلك من خلال إعداد شهادات ثانوية عامة مزورة تحمل طابعاً رسمياً، بالاستفادة من شبكة علاقاته الواسعة داخل الجامعات، بخاصة مع موظفي شؤون الطلاب، الذين يقبلون هذه المستندات ويسجلون الحالات المتفق عليها مقابل مبالغ مالية محددة.
وعلى رغم ارتكابه تلك الجريمة تخرج “منصور” في كلية الطب بتلك الجامعة قبل عامين بتقدير جيد، وأصبح يمارس المهنة بصورة طبيعية.
وفي فبراير (شباط) عام 2020 قرر مجلس الجامعات الخاصة والأهلية في مصر فصل 177 طالباً ثبت قبولهم بالجامعات الخاصة بشهادات محلية وعربية وأجنبية مزورة، كذلك قرر إحالة هؤلاء الطلاب إلى النيابة العامة لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، عقاباً لهم على الجرم الذي ارتكبوه بتقديم شهادات مزورة للحصول على مقاعد لا يستحقونها بعدد من الجامعات الخاصة.
ووجه وزير التعليم العالي آنذاك خالد عبدالغفار بتشكيل لجنة برئاسة الأمين العام لمجلس الجامعات الخاصة والأهلية وعضوية عدد من رؤساء الجامعات وخبراء من مكتب التنسيق لتطوير منظومة فحص كل الشهادات الثانوية المحلية والعربية والأجنبية التي يتقدم بها الطلاب للالتحاق بالجامعات الخاصة، من أجل نجاح هذه المنظومة المنضبطة في منع أي طالب من الالتحاق بأية جامعة خاصة بشهادة مزورة.
تشكيلات عصابية وأكاديميات وهمية
وعلى مدى الأعوام القليلة الماضية شنت الأجهزة الأمنية المصرية حملات ضبطية لعدد من التشكيلات العصابية المتخصصة في تزوير الشهادات الجامعية، بخاصة لراغبي السفر خارج البلاد، التي تزور المحررات وتضطلع بأعمال الوساطة والسمسرة في مجال المحررات الرسمية، علاوة على ضبط أكاديميات وهمية تمارس نشاطها الإجرامي والاحتيالي عبر الإنترنت، لتمنح شهادات علمية وجامعية مزورة مقابل مبالغ مالية مختلفة.
وفي أبريل (نيسان) 2024 أثارت صفحة على موقع “فيسبوك” ضجة واسعة بعد ترويجها بيع عدد من الشهادات الجامعية “المعتمدة” بعدد من الكليات المختلفة، ونشرت الصفحة إعلانات لمن يرغب في الحصول على الشهادات، “شهادات بكالوريوس وليسانس وماجستير معتمدة وموثقة، شهادات جامعية موثقة، شهادات جامعية للبيع، شهادات جامعية معتمدة، شهادات جامعية مصدقة للبيع، شهادات مصدقة، شهادات جامعية موثقة، شراء دكتوراه وماجستير للبيع”، وتدخلت الوزارة لإحالة الأمر إلى لجنة الضبطية القضائية بالوزارة.
خلال مارس عام 2023، قرر وزير التعليم العالي المصري غلق منشأة بمحافظة الجيزة، تُروج لنفسها بمنح الدارسين دبلومات في تخصصات مختلفة، ودرجتي الماجستير والدكتوراه المهنية بالتخصصات التالية: الصحة النفسية والتربية الخاصة والتغذية العلاجية والتنمية البشرية وإدارة أعمال وصحافة وإعلام، معتمدة وموثقة دولياً.
وقبل ذلك، وتحديداً في ديسمبر (كانون الأول) عام 2022، أحدثت قضية تزوير الشهادات الجامعية ضجة واسعة في مصر والكويت بعدما كشفت لجنة التحقيق البرلمانية المنبثقة عن لجنة شؤون التعليم في مجلس الأمة – حسبما أفادت صحف محلية كويتية آنذاك- أن 142 شخصاً لديهم شهادات جامعية مزورة صادرة من جامعات مصرية، وأن عملية التزوير تمت بمساعدة موظفين في المكتب الثقافي الكويتي بمصر.
حينها أظهر التحقيق أن وافداً يعمل في الكويت كان وراء عمليات تزوير تلك الشهادات، وأوقفته الجهات الأمنية، مبيناً أن الشهادات صادرة من جامعات حقيقية في مصر لكنها مزورة. وكشفت الصحف الكويتية آنذاك عن أن هذا الوافد سجن في أحكام تراوح ما بين 50 و60 عاماً تبعاً لكل شهادة زورها، وأن قيمة تزوير الشهادة الواحدة بين 300 دينار (972.13 دولار) و500 دينار (1,620.22 دولار).
كانت الأجهزة الأمنية المصرية نجحت في مارس عام 2019 في اعتقال شخص لإنشائه كياناً تعليمياً وهمياً للنصب على المواطنين ومنحهم شهادات علمية “مزورة”، زاعماً بأن الأكاديمية تمنح شهادات عليا “دبلومة وماجستير ودكتوراه” في المجالات التعليمية المختلفة منسوبة إلى عدد من الجامعات المصرية والأجنبية عقب اجتياز الطالب الدراسة بتلك الأكاديمية لمدة تراوح ما بين عام وثلاثة أعوام، وأنه اتخذ من ذلك المقر وكراً لتزوير الشهادات المنسوبة للجامعات ومهرها بخاتم شعار الدولة المقلد المنسوب صدوره إلى الجهات الحكومة المعنية بغرض إضفاء صفة الرسمية والمشروعية على الشهادات.
وتمكن المتهم من خلال الدعاية المُكثفة من استقطاب عشرات من الدارسين المصريين، ورعايا بعض الدول العربية بزعم منحهم “مؤهلات عليا” معتمدة وموثقة، وتقاضى من كل دارس مبالغ مالية تراوح ما بين 10 آلاف جنيه و15 ألف جنيه (بين 650 و950 دولاراً حسب سعر الدولار عام 2019) من الدارسين المصريين، وما بين 3 و5 آلاف دولار أميركي من الدارسين من بعض الدول العربية، عن الموسم الدراسي الواحد.
ألاعيب وممارسات إجرامية
وإلى ذلك تقول نائب رئيس جامعة حورس بدمياط الجديدة، نائب رئيس جامعة المنصورة السابق ماجدة نصر، إن جرائم تزوير الشهادات الجامعية لا تزال موجودة بالفعل، ولكن تقلص انتشارها نسبياً في الوقت الراهن مقارنة بالأعوام الماضية، مشيرة إلى أن بعض ضعاف النفوس دائماً ما يلجأون إلى تلك الأساليب الاحتيالية من أجل تحقيق أرباح مالية طائلة.
وأكدت نصر أن وزارة التعليم العالي والجهات الرقابية أصبح يسهل عليها كشف تلك الممارسات الانحرافية، بسبب وجود قاعدة بيانات منضبطة تضم بيانات كل الشباب الخريجين ومؤهلاتهم وشهاداتهم الدراسية والجامعات التي التحقوا بها، ومن ثم يسهل التأكد من هوية أي شخص وحقيقة أوراقه.
وسبق أن شغلت ماجدة نصر منصب عضو لجنة التعليم بمجلس النواب المصري سابقاً. وهنا أوضحت أن وزارة التعليم العالي أصبحت تكثف جهودها لضبط هؤلاء المتلاعبين وكشف الشهادات العلمية “المزورة” ووضع إجراءات صارمة لمواجهة تلك الوسائل الإجرامية، كاشفة عن تلقي الجامعات مخاطبات من شركات التوظيف ببعض البلدان العربية للتأكد من صحة وسلامة الشهادات الجامعية وعدم تزويرها قبل إلحاق الشاب الخريج بالوظيفة، منوهة بأن شركات التوظيف أصبحت تدرك ألاعيب مزوري الشهادات الجامعية، لذلك تتأكد من سلامة كل الأوراق من الجامعات نفسها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
“فوجئت أن كل شهادات بعض العائدين من أوكرانيا والسودان في أعقاب اندلاع حروب في البلدين، المقدمة منهم للجامعات المصرية من أجل الالتحاق بها مزورة وغير سليمة، كذلك ليست لديهم أوراق ثبوتية”، وفق نائب رئيس جامعة حورس بدمياط الجديدة.
وشددت على ضرورة أن تتنبه وزارة التعليم العالي والمجلس الأعلى للجامعات لتلك العمليات المشبوهة وأن يكون هناك رقابة شديدة، وتُراجع أوراق كل شخص بصفة مستمرة للتأكد من سلامتها وتشديد العقوبات القانونية في حال ارتكاب الجرائم.
علامات مائية لمنع التلاعب والتزوير
في السياق ذاته، اعتبر الأستاذ بجامعة حلوان وائل كامل، أن قضايا تزوير الشهادات الجامعية أصبحت من أخطر القضايا التي تضر بالأمن القومي المصري، ويجب التنبه والتصدي لها.
وأكد كامل في حديث إلى “اندبندنت عربية” أنه سبق وأطلق مناشدة لوزارة التعليم العالي عام 2017، للمطالبة بوضع علامة مائية على الشهادات الجامعية، لكي يصعب تزويرها أو التلاعب فيها، واستجاب المجلس الأعلى للجامعات لذلك المطلب آنذاك، مضيفاً أن تلك العمليات الاحتيالية تقلصت في الوقت الراهن.
وقرر المجلس الأعلى للجامعات، ديسمبر عام 2017، أن تكون كل شهادات خريجي الجامعات لمرحلة البكالوريوس والليسانس والدراسات العليا مصحوبة بعلامة مائية تمنع تزويرها. كما طالب وزير التعليم العالي بضرورة الاستفادة من تجارب بعض الجامعات صاحبة الخبرة في هذا الشأن.
أشكال احتيالية
وفي رأي أستاذ علم النفس التربوي بجامعة عين شمس تامر شوقي، فإن الأشكال الاحتيالية في الشهادات الجامعية والمحررات الرسمية أخذت أشكالاً مختلفة خلال الأعوام الماضية، من بينها التلاعب في شهادات “الماجستير والدكتوراه” من خلال اللجوء لأكاديميات وكيانات وهمية غير معترف بها وليس لها وجود إلا على الإنترنت فقط، ويحصل منها الطالب على شهادات ليست معادلة من المجلس الأعلى للجامعات بغرض الوجاهة الاجتماعية، وهناك شكل آخر وهو انتشار وقائع الغش من طريق الذكاء الاصطناعي، فأصبح بإمكان الباحث إدخال متغيرات معينة على البحث العلمي لديه ليصعب اكتشاف التلاعب به، علاوة على أن هناك من يلجأون إلى مكاتب خارجية مختصة في إعداد الأبحاث العلمية مقابل دفع نفقات مالية باهظة وقد تكون بالعملة الصعبة أحياناً، ولا تُكتشف تلك الجريمة إلا في حال الاختبارات الشفهية للباحث فقط.
وقال شوقي في تصريح خاص إن الجامعات أجرت نظاماً يسمى بـ”كشف الانتحال من خلال وحدات نظم المعلومات” لاكتشاف تلك الجرائم وتقليص عمليات التلاعب والاحتيال.
وقبل أيام، أعلنت نائب رئيس جامعة عين شمس غادة فاروق عن تبني الجامعة مشروع الإصدارات المؤمنة، موضحة أنه كان من السهل في ظل الوسائل التكنولوجية الحديثة التلاعب في الشهادات وتزويرها أثناء إصدارها بالطرق التقليدية. ونوهت بأن المشروع سينفذ بصورة إلكترونية متكاملة بين منصتي المجمع والجامعة من دون أي تدخل بشري لتكون “أول جامعة تطبق منظومة الأوراق الثبوتية بصورة مميكنة بالكامل لضمان الدقة والجودة والسرعة وصحة الأوراق”.
تقليد أختام وتزوير محررات رسمية
وفي شأن وقائع التزوير، قال المحامي بالنقض عمرو عبدالسلام، إن تلك الجرائم تقع تحت طائلة التزوير في محررات رسمية وتخضع للمواد من “211 حتى 213” من قانون العقوبات العام، مشيراً إلى أن الجهات الأمنية أوقفت عدداً من التشكيلات العصابية خلال الفترة الماضية التي تزور الشهادات الجامعية من خلال تقليد أختام الجهات الصادرة منها الشهادة. وأوضح أن من يستخدم تلك الشهادات المزورة يقع تحت طائلة الاشتراك في جريمتين الأولى المشاركة في جريمة التزوير والأخرى استعمال محرر مزور لتقديمه إلى جهات أخرى.
وتنص المادة (211) من قانون العقوبات المصري على أن “كل صاحب وظيفة عمومية ارتكب في أثناء تأدية وظيفته تزويراً في أحكام صادرة أو تقارير أو محاضر أو وثائق أو سجلات أو دفاتر، أو غيرها من السندات والأوراق الأميرية، سواء كان ذلك بوضع إمضاءات أو أختام مزورة أو بتغيير المحررات أو الأختام أو الإمضاءات، أو بزيادة كلمات أو بوضع أسماء، أو صور أشخاص آخرين مزورة، يعاقب بالسجن المشدد أو السجن”.
وأقرت المادة (212) أن “كل شخص ليس من أرباب الوظائف العمومية ارتكب تزويراً مما هو مبين في المادة السابقة، يعاقب بالسجن المشدد أو بالسجن مدة أكثرها 10 أعوام”. وتنص المادة (213) على أنه “يعاقب أيضاً بالسجن المشدد أو بالسجن كل موظف في مصلحة عمومية أو محكمة بقصد تزوير موضوع السندات، أو أحوالها في حال تحريرها المختص بوظيفته سواء كان ذلك بتغيير إقرار أولي الشأن، وكان الغرض من تحرير تلك السندات إدراجه بها أو بجعله واقعة مزورة في صورة واقعة صحيحة، مع علمه بتزويرها أو بجعله واقعة غير معترف بها في صورة واقعة معترف به”.
جرس إنذار برلماني
ولاقت صيحات واستغاثات المسؤولين بالجهات الأكاديمية آذاناً مصغية لدى نواب البرلمان المصري، الذين طالبوا بضرورة مواجهة عمليات تزوير الشهادات الجامعية والقضاء على سماسرة التزوير، إذ تقدم البرلماني أيمن أبو العلا في يوليو (تموز) عام 2021، بطلب إحاطة لوزيري التعليم العالي والاتصالات في شأن تزوير الشهادات الجامعية.
وأكد أن ملف التزوير في بيانات وشهادات الطلاب انتشر خلال الفترة الأخيرة بصورة كبيرة، إذ خصصت صفحات على “السوشيال ميديا” جهدها للقيام بتلك المهمة، فما على المواطن سوى البحث عنها ليجد عشرات الصفحات التي تعلن عن ذلك بصورة واضحة، في غياب الرقابة على مثل هذه الأنواع من الصفحات، ومنها صفحات تحمل اسم “شهادات معتمدة”.
ولفت أبو العلا في طلب الإحاطة إلى أن “هذه الصفحات تروج بأن من يريد الحصول على مؤهل سيحصل عليه بسهولة سواء للعمل به في القطاع الخاص أو الحكومي، إذ تعمل على توفير شهادات (بيان النجاح – الثانوية العامة – الثانوي الصناعي – الدبلومات – البكالوريوس – الماجستير – الدكتوراه)، وهو مما يمثل خطورة كبيرة”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية