عرف الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بباني سوريا الحديثة، لكنه لم يكن يتوقع ولا حتى في أحلامه أن نجله سيكون سبباً في تدميرها، فمن الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، آلاف المنازل والأماكن أحيلت إلى رماد وذاب سكانها كالملح قتلى وجرحى ومهجرين.

واليوم، مع سقوط نظام بشار الأسد وعودة “ملح هذه الأرض” إلى ديارهم المدمرة يقف السوريون على أطلال مدنهم وأحيائهم ولسان حالهم بداية معلقة امرئ القيس “قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل”، فلا الذكرى تجد لها طريقاً أبيض، ولا أحبة عُرف عنهم شيء فأصبحوا نسياً منسياً، أما المنازل فخرت على قدميها مستسلمة مصدومة.

 

غوطة دمشق بين الأخضر والرمادي

في عام 1944 كتب محمد كرد علي كتاباً اسمه “دمشق مدينة السحر والشعر”، وبعض مما جاء فيه يصف فيه غوطة دمشق قائلاً “وتمتاز دمشق عن غيرها من المدن بكثرة متنزهاتها، تحدق بها الأشجار من كل جهة، وحيث خرجت منها لا ترى إلا متنزهات، وأشهرها وادي الربوة ودمر والمزة وسهل القابون والغوطة، وأما ملاهي المدينة ودور السينما والفنادق فهي بجوار ساحة الشهداء، حيث أكثر المصانع الرسمية، ولا يمضي على دمشق وقت طويل حتى تصبح في طليعة المدن الشرقية عمراناً وتنسيقاً، وتستعيد مركزها القديم الزاهر تجمع بين القديم والحديث، فيجد فيها كل غاوٍ هواه”.

أما اليوم وفي مطلع 2025 فتحمل غوطة دمشق بين طياتها إرثاً ثقيلاً مع 35 ألف مبنى مدمر جزئياً أو كلياً، وبخاصة في جزئها الشرقي، فكثر من أهل القابون والمخيم الفلسطيني وداريا وقفوا ساعات يبحثون عن منازلهم محاولين اقتفاء آثار ونقاط كانوا قد ألفوها وعرفوها وتجذرت في ذاكرتهم، لكن على رغم ذلك لم يجد البعض إلى منزله سبيلاً.

 

فأحد سكان حي القابون الذي يقع على مساحة ستة كيلومترات مربعة زار الحي مرتين بعد سقوط النظام يبحث عن منزله، ولم يستطع إيجاده، ولكنه تنبه في المرة الثانية إلى قطعة رخام كتب عليها اسم أحد الجوامع الذي كان منتصباً في حارته سابقاً، وبحسبة بسيطة، وهي أن الجامع يبعد عن منزله 100 متر من حيث كان يقف، فمشى إليه، ولكن لم يجده، فكل شيء تحول إلى رماد.

16 مدينة وبلدة سورية مدمرة

في عام 2019 أصدر معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث UNITAR دراسة مسحية للدمار الحاصل في نحو 16 مدينة وبلدة سورية، إثر الأعمال العسكرية التي كان يعتبر أن النظام وحلفاءه مسؤولون عن معظمها، فاعتمدت الدراسة على تحليل الأضرار المكتشفة بواسطة الأقمار الاصطناعية لتحديد المباني التي دمرت أو تضررت بشدة أو بصورة قليلة، بحيث توفر نظرة عامة عن مدى الدمار وتأثيره في المجتمع. وذكرت في معرضها أن حلب أكبر المدن المتضررة من جراء القصف، حيث وصل عدد المباني المدمرة فيها إلى نحو 36 ألف مبنى، تلتها الغوطة الشرقية في دمشق بـ35 ألف مبنى مدمر، وجاءت في المرتبة الثالثة مدينة حمص التي تدمر فيها 13778 بناءً، ثم الرقة 12781 بناءً مدمراً، ومن ثم حماة 6405 أبنية، ودير الزور 6405 أبنية، إضافة لمخيم اليرموك 5489 بناءً.

وقدرت آنذاك “لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا” كلفة إعادة الإعمار في سوريا بنحو 400 مليار دولار، مع التنويه إلى أن قطاع الإسكان يستحوذ على 65 في المئة منها بحسب البيانات الصادرة من صندوق النقد الدولي.

 

آلية عمل حكومة تصريف الأعمال

في هذا السياق، وبعد سقوط نظام بشار الأسد، قال وزير الإدارة المحلية في حكومة تصريف الأعمال السورية محمد مسلم “إن الدمار الذي تبين بعد عمليات مسح جوية أولية للمناطق المدمرة، كان هائلاً وفي جميع المحافظات السورية، ضمن خطة لإحصاء القطاعات المتضررة التي في حاجة إلى إعادة إعمار”.

وعن آلية الإحصاء أضاف “عمليات الإحصاء ستتم بالاعتماد على فرق متخصصة ومحترفة بذلك، وسيتم ضمها إلى ورشات عمل تطبيقية لتباشر الإحصاء الدقيق في المحافظات كافة لمختلف المرافق المتضررة التي تحتاج إلى إعادة إعمار، كما اتبعنا طريقة المسح الجوي الأولي لعدد من المناطق المدمرة، وسجلنا حجم دمار هائلاً في مختلف المحافظات السورية، سواء في المدن أو القرى والأرياف”.

ونوه الوزير مسلم بأن “الخطة الشاملة تستهدف بناء قاعدة بيانات واضحة عن حجم الدمار، ووضع خطط وأهداف تتناسب مع المرحلة القادمة، موضحاً أن الأولوية في إعادة الإعمار ستكون للمرافق التي تؤمن بيئة عيش كريم للسوريين، وتسهل وصول الخدمات الأساسية للمجتمع مثل الخبز والماء والكهرباء، إضافة إلى تركيز الجهود على إعادة إعمار المنازل المهدمة بسبب القصف والحرب لنوفر عودة آمنة وكريمة لأهلنا المهجرين”.

وعلى رغم تقرير الأمم المتحدة السابق، فإن الآراء والأرقام اليوم تتضارب حول كلفة إعادة إعمار سوريا بعدما تدمر اقتصادها خلال نحو 14 عاماً من الحرب، لكن الإجماع هو أن الرقم يفوق 100 مليار دولار، بحسب تقرير لشبكة “سي أن أن” الأميركية، فيما تشير تقديرات الأستاذ المساعد في كلية الاقتصاد لدى جامعة “قطر” جلال قناص إلى أن الكلف الأولية لإعادة الإعمار تراوح ما بين 200 و300 مليار دولار، وقد تتجاوز هذا الرقم في ظل الظروف الحالية.

وفي عام 2023 قال تقرير للبنك الدولي إن تقييم الأضرار في سوريا بين أن إجمال الخسائر الناجمة عن النزاع حتى يناير (كانون الثاني) 2022 تراوح ما بين 8.7 و11.4 مليار دولار، بينما أفاد مسؤول أممي في عام 2018 بأن سوريا قد تحتاج إلى 300 مليار دولار لإعادة الإعمار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

58 في المئة مساحة حجم دمار حلب

كان خروج الأحياء عن سيطرة قوات نظام الأسد ذريعة مباشرة لقصفها بالمدفعية، قبل أن تتحول إلى ساحة لرمي البراميل المتفجرة المعروفة بسقوطها الحر وغير الموجه، ولقد دشن النظام ذلك السلاح، للمرة الأولى، خلال عام 2013 في أحياء حلب الشرقية، ونتج من القصف دمار واسع، لذلك كان الرد من قوات المعارضة بالتكتيك نفسه، إذ لجأوا إلى تفجير الأنفاق تحت أبنية قالوا إن ساكنيها من قوات النظام، وهي على خطوط التماس مع الأحياء التراثية، وتسببت التفجيرات من قبل الطرفين في دمار هائل طاول البنى التحتية والتجمعات السكانية.

وعلى رغم أن حلب تأخرت في انضمامها للحراك في سوريا، فإنها كانت الأسرع في خروج أحياء منها عن سيطرة قوات النظام، كما أنها فاقت المدن السورية الأخرى في حجم الدمار، فوصلت إلى نحو 58 في المئة من حجم الدمار الذي حل بالمدن الأخرى مع تعداد 36 ألف مبنى مدمر، ولقد كان التعداد السكاني لحلب قبل الاحتجاجات يفوق 5 ملايين نسمة، وتضم أكثر من 2000 مصنع، غير أن ضواحيها ومدن ريف محافظتها وبلداته وقراه المنتشرة على مساحة جغرافية واسعة تحولت إلى ساحة مواجهات مع قوى النظام.

وبحسب الأمم المتحدة فقد عاد أكثر من 195 ألف لاجئ سوري إلى حلب بعد سقوط النظام، وعن هذا يقول أحد سكان حلب “خرجنا عام 2015 إلى لبنان مع انعدام أسباب الحياة في حلب، وفي ظل معارك محتدمة وقصف متواصل، واليوم عدنا إليها ونحن عازمون على بنائها من جديد، ولكننا نحتاج إلى الأساسات، وهي الماء والكهرباء قبل أي شيء”.

من حمص إلى إدلب… تتكرر المشاهد

وإلى حمص التي عرفت بعاصمة الثورة السورية والشاهدة أبنيتها على معارك طاحنة بين طرفي النزاع، فقد حلت في المرتبة الثالثة من حيث حجم الدمار فيها مع تعداد 13778 بناءً غالبيتها في حي الخالدية الذي دمر ما يزيد على 60 في المئة منه، وقد تعرضت أبنيتها، كما معظم تلك التي طاولتها الحرب للسرقة والنهب، فلم يجد العائدون إلى منازلهم بعد سقوط النظام باباً يغلقونه على أنفسهم، هذا إن وجدوا بيوتهم. وعن هذا تتحدث إحدى السيدات العائدات من منطقة جيرود في جبال القلمون، “عدت إلى حمص علَّني أسكن في منزلي حتى ولو كان خراباً، لكنني لم أجده، واليوم نمضي أيامنا متنقلين من منزل لآخر من أهلنا وأصدقائنا”.

أما في إدلب التي تحمل إرثاً تاريخياً أبرزه مسيحي، فيعود أهلها إليها على رغم الدمار الذي قضى على مقومات الحياة في بعض قراها، ومنها قرية معرة حرمة التي تبرز للمشاهد من الأعلى تحولها لكومة من الحجارة، إضافة إلى أن منازلها الواقفة قد نزعت منها أسقفها، كما طاول الدمار كامل المنشآت الصحية والخدمية، واليوم يعود أهل إدلب إليها بعد رحلة تشرد ولجوء مضنية، وعلى رغم الوضع المتردي والقاسي لمسقط رأسهم، فإنهم يقرون رغبتهم بالحياة فيها وإعادتها للحياة كما كانت وأفضل، فمن وجد منزله، ولو بغرفة واحدة، يعمل على ترميمها أو يضع على أبوابها وشبابيكها ما يقيه برد هذا الشتاء، مع المطالبة بتأمين أساسات الحياة كما في باقي المحافظات والمدن السورية المتضررة.

نقلاً عن : اندبندنت عربية