مواقع “السوشيال ميديا” باعتبارها سوق عكاظ المثقفين، أو “هايد بارك” الثقافة العربية، اكتظت بآراء وأحكام عن المثقفين والفنانين السوريين “التائبين”. كانت الآراء قاسية في حق الذين اعتبروا من “عظام رقبة” النظام السابق، إذ كانوا يذودون عنه ويدافعون عن خياراته ويهاجمون المخالفين ويتهمونهم بأنهم “إرهابيون” و”خونة”، ومن ثم يستحقون ما يفعله النظام بهم، حتى لو قصفهم بالسلاح الكيماوي وغاز السارين السام وغاز الكلور وغاز الخردل، كما حدث في الغوطة الشرقية ومعظمية الشام ومدينة دوما ومدينة خان شيخون وبلدة اللطامنة ومناطق في إدلب وحلب وسواها، بحسب تقرير صادر عن الأمم المتحدة.

وساد في الأوساط السورية منذ اندلاع الثورة في 2011 مصطلح “الشبيحة” الذي يلتصق بكل من يؤيد النظام السابق، ويجمّل صورته، أو يرسل ابتسامة عابرة للجغرافيا وهو يقابل الأسد الفار الذي ألقى مواعظه العميقة الخالدة حول كيفية تطوير الدراما السورية، في لقاء عُقد في قصر المهاجرين بدمشق في آذار (مارس) الماضي.

وإذا كان ثمة من أُجبر على حضور اللقاء (كما تسرب حينها) فإن أحداً لم يجبر “فنانة” على أن تنشر في حسابها على “إنستغرام”: “كان يوماً مميزاً في حياتنا وأنت تستقبلنا يا سيادة الرئيس بوجهك الباسم المشرق.. وبقامتك الشامخة شموخ الجبال…”.

بعض الحاضرين ذلك اللقاء (وعددهم قرابة 15) خاضوا مع الخائضين في هجاء الرئيس “صاحب الوجه الباسم المشرق” بعد فراره. وقالت صاحبة التعليق “الباسم”: “من لحظة سقوط النظام، أدركت كم كنا مخدوعين… فقد زرعوا الخوف في أعماقنا ولسنين طويلة من فكرة التغيير”. أما بعض “المؤلَّفة قلوبهم” من الفنانين الـ15، فقد لاذوا بالصمت.

 

 

بيد أن العدالة والإنصاف يقتضيان أن نضع ردود الفعل بعد سقوط النظام، وتلك التي كانت قبل السقوط، على مشرحة التحليل المنطقي الهادئ الذي يقر بأن الناس ليسوا كلهم سواءً، في ما خص طبيعتهم النفسية، وقدرتهم على التحمل، ومجازفاتهم الثمن الباهظ ذاته. هنا الخوف محرك أساس في جنوح بعض المثقفين والفنانين عن الصراط الأخلاقي، لأنهم يعلمون، ومعهم بعض الحق، بأن النظام لا يتورع أن ينكل بهم وبأهاليهم وأقربائهم. الخوف له أسماء عدة في نظام الأسد الساقط، ويكفي أن يُبلّغ أحدهم بأنه مطلوب لأحد أفرع أجهزة الاستخبارات حتى يشمله الذعر، ويبتلعه الرعب، ويودع أحبابه، لأنه قد لا يلقاهم بعد يومه ذاك.

والخوف قد يحول الإنسان إلى انتهازي، أو قناص فرص، أو يجعله مرتدياً لبوس “التقية”، كي يحمي نفسه، لأن الطرق أمامه مسدودة. وحتى لو لاذ بالصمت واختار العزلة، فإنه يضع نفسه في مهب الشكوك والريبة.

هشاشة إنسانية

الأحكام القاسية على هذه الفئة تظلمهم، وتتجاهل هشاشة إنسانيتهم. صحيح أن بعضهم مالأ النظام السابق حتى أهرق ماء وجهه، طمعاً في حظوة أو مال أو موقع أو حتى دور في مسلسل. بيد أن بعضاً آخر ظل محتفظاً بالحد الأقصى من كرامته ولم يبتذلها.

ما المعيار إذاً لنقول إن فلاناً “شبيح” وفلاناً “معارض”؟ هذا سؤال يؤول إلى تفاصيل عدة، فثمة فنانون معارضون هُجّروا واقتلعوا من ديارهم، وبعضهم اعتُقل وعُذب وقُتل، وبعضهم نُكّل بأهله. هؤلاء دفعوا ضرائب باهظة من حياتهم ورزقهم وسكينتهم وأمانهم النفسي والروحي، وبعضهم انخرط مع تيارات المعارضة، وناضل من أجل صناعة فجر سوري نأمل في أن تكون بشائره معلقة على الإدارة الحالية التي تحكم الآن، وتطلق الوعد ذاته.

وحتى لا يختلط الحابل بالنابل، ويأتي من يقول إننا نكيل بمكيالين، أو إننا نتواطأ مع “المتخاذلين” الذين أطالوا، بنفاقهم، عمر النظام السابق، وجمّلوا جرائمه، يمكننا السير في طريق “العدالة الانتقالية” التي تقود إلى مصالحات واسعة، من أجل تجفيف إرث النظام السابق، والعمل على بناء دولة جديدة بأدوات حيوية وخلاقة وسريعة.

أما من تلطخت أياديهم بالدماء، ونهبوا المال العام، وكانت لهم سلطة قهرية ظلمت الناس ونكلت بهم، فإن آليات العدالة الانتقالية ستتكفل بهم، لأن الهدف الأخير هو محاكمة النظام السابق المتورط في هذه الجرائم من رأسه حتى قدميه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سيقول قائل إن الفنان أو المثقف الذي يطبل للنظام القاتل وهو يقتلع حناجر المعارضين، هو قاتل حتى لو لم تسل الدماء على كفيه، لأنه قيل لـ”فرعون” لماذا تفرعنت؟ فأجاب، لأنني لم أجد من يردعني أو ينصحني!

الكلمة تكون أحياناً كالرصاصة، تقتل الحق أو تُزهق الباطل، لكن الانتهازيين لا يفكرون إلا بالنجاة الذاتية، ولتهلك سوريا بعد ذلك، فماذا نحن فاعلون بهؤلاء؟ إنه سؤال صعب، لا سيما إذا استعدنا صورة القاتل والضحية، وحدقنا في الفروق الهائلة بينهما. المثقف الانتهازي هو ضحية في المآلات النهائية. إنه ضحية جُبنه وتخاذله وطمعه وهشاشته النفسية، وأيضاً وفي الوقت نفسه هو ضحية الخوف الذي عمّره النظام في داخله ذرة فذرة، فأخرجه من سياقه البشري، وعمل على “حيونته”. ومن هؤلاء المثقفين الانتهازيين من تحيوَن واستعذب الأمر وراق له، ومنهم من أبت ميكانيزماته أن ينحدر إلى الدرك الأسفل، فظل معلقاً يتأرجح بأهداب بشريته.

التاريخ سيذكر آلام الذين ظلوا قابضين على الجمر، ولم يقايضوا أفكارهم بشيء، ولا تخلوا عنها من أجل موقع أو بريق مال، كما سيذكر أيضاً أولئك الذين اختاروا الوقوف على الضفة النقيضة الأخرى. الناس تحب الشجعان وترفعهم على أكتافها، فالذين دفعوا الثمن سيكون لهم الحظوة الكبرى في سياق التعمير والبناء والإدارة… والذاكرة، لكن الحكمة تقتضي أن ندعو الواقفين على الضفة الأخرى، ونمكّنهم من الانضمام إلى الهتاف الموحد الذي يتوخى التسامح وجمع الصف، ولأْم الجروح، وتشييد منائر الأمل.

وكيلا يكون التسامح ديباجة فضفاضة (وظالمة) يتساوى تحت عباءتها “الشبيح” السابق، والمناضل والناشط، فإننا سنبقى معتصمين بالمبدأ العادل والمنصف، ولو على المستوى النفسي: “نغفر، ولكننا لن ننسى”!

نقلاً عن : اندبندنت عربية