زيارة قصيرة للقاهرة فى يوم 27 أكتوبر 1833 تصلح مُقدمة لهذا المقال.
مر الكهل الوسيم، فاتح البشرة، ذو العينين الزرقاوين، المتدثر بعباءة عربية فاخرة على بائع كُتب شهير يحتل حانوته خان الخليلى. عرف البائع زائره، ورحب به باسمه «السيد إدوارد وليام لين»، ليجلسا معًا يثرثران فى كل شىء.
اعتاد إدوارد وليام لين، المستشرق الإنجليزى الحديث مع المصريين بالعربية التى أتقنها تماما، كعادة المستشرقين النُبغاء للمعرفة. فجأة ـ كما حكى هو لاحقاـ دخل عليهم رجل وصفه «لين» بأنه ذو مظهر مُحترم، وسأل البائع عن كتاب زيارة الشيخ رفاعة الطهطاوى إلى فرنسا. أجاب البائع بأنه يُمكن أن يطلبه لينسخه له، فسأل الرجل عن مضمون الكتاب، ولم يرد البائع، لكن أحد الحاضرين تطوع بالحديث.
قال المتطفل المتطوع إن الكتاب يتضمن رحلة الشيخ رفاعة من الإسكندرية إلى مرسيليا، وكيف سكر على متن السفينة، ثُم كيف ضبطه رجال الباشا، فربطوه على السارية، وجلدوه جزاء فعلته، ثُم تناول مغامراته فى أرض الكفر والفسوق، وأكله لحم الخنزير، ومحبته للفتيات الفرنسيات وتفضيله لهن على نساء مصر.
لم تكن كلمة واحدة حقيقية، لكن ثرثرة العوام تُفضل الأكاذيب والشائعات والفضائح، وُترسّخها كما لو كانت حقائق دامغة تجعل مَن يُفكر ويعمل ويتميز موصوم فى الأغلب بكل قبيح.
مُنذ عقود طويلة تُهيمن الشعبوية فى بلادنا، يخفت صوت العقل، يستعذب الناس السير قطيعا خلف التيار الشائع.
كتب قاسم أمين يوما كتابا يدعو لتعليم المرأة، فأشهرت سيوف القطيع ضده، ورد عليه مصطفى كامل ملصقا به كل فرية، ومعتبرا إياه داعية انحلال، وهو ما دفع أحد العامة أن يوقف قاسم أمين يوما فى الشارع ليطلب منه فى تبجح أن يعيره زوجته، ثُم قال له «ألست تدعو إلى الانحلال والاختلاط؟»
لم يكن غريبا بعدها أن يُكفّر شباب جُهلاء طه حسين لأنه أحكم عقله وطرح رأيا مغايرا، وأن ينبذ المُجتمع على عبد الرازق لأنه نفى اعتبار الخلافة من الدين، وأن يقتل المتحمسون لنصرة دين الله، فرج فودة لأنه يُفكر وينقد السائد والتقليدى.
على مدى قرن من الزمان لم تنج مصر ـ رغم تحضرها وتعدديتها وديناميكتها ـ من ظاهرة الجهل النشط، الذى سيطر وهيمن وقاد فى بعض الأحيان.
دخلت الكهرباء مصر، تمدنت القرى، اتسعت المُدن، ولدت المجتمعات العمرانية، تطاولت بنايات، دخلت جحافل من البشر إلى الجامعات، تخرج أطباء ومهندسون ومعلمون، تقدمت علوم وتطورت دراسات، لكن ظلت ظاهرة الجهل النشط بارزة وسائدة وحاكمة.
أتصور أن السبب الرئيس فى ذلك أن السلطة على مر العصور استغلت الظاهرة لضرب خصومها وتُنحيتهم عن المشهد حتى لا يُشكلوا بديلا مُحتملا، وهكذا سمعنا وقرأنا وعرفنا شائعات عن فسوق إنسان، وشذوذ شخص، وانحراف آخر، والحاد آخر كوصمات جبين لصيقة بكل مختلف أو خارج عن سياق التيار العام.
لكن سلاح الجهل النشط له حدين، فكما يسهل استخدامه ضد المثقفين المستقلين، يتم استغلاله من الأعداء الخارجيين ضد السلطة ذاتها إذا دخلت صراعا ما. لذا تتسع الأكاذيب على صفحات التواصل الاجتماعى، وتتكاثر الشائعات، ويُصبح من الصعوبة الشديدة الاستقرار على موقف أو تصور ما.
يستسهل الناس الخبر الطائر، دون تدقيق أو تحقيق، يستسلمون لرمى البعض بأقذع الاتهامات بلا أدلة. وفى كثير من الأحيان تتورط الصحافة، ويشارك مثقفون فى نشر الجهل النشط والترويج له، ونقل الافتراءات على البشر، بلا استقراء، أو مراجعة ضمير، أو حساب منطق.
تلك آفة مُهلكة للأمم، نقاومها ما استطعنا. والله أعلم
[email protected]
نقلاً عن : الوفد