لا تركز هذه السيرة على أعمال هذا الأرستقراطي الماجن والممعن في إشباع ملذاته بقدر ما تروي مسار حياته، التي عاصرت مرحلة مهمة من تاريخ فرنسا أيام النظام الملكي القديم فالثورة وقيام الإمبراطورية، متوقفة أمام الأعوام التي قضاها داخل السجن ومشاركته في الحياة السياسية، وهو الذي كان ثورياً متحمساً، داعياً إلى تقويض الكنيسة والقيم الأخلاقية للمجتمع القديم. لكن الثورة نفسها انقلبت عليه وأعادته إلى السجن في عهد الإرهاب.
استند لاكومب في وضع هذه السيرة إلى مجموعة من الوثائق والأوراق النادرة المرتبطة بالمركيز وبتاريخ عائلته المحفوظ في المكتبة الوطنية الفرنسية، والتي تشكل شهادة فريدة عن ظروف السجن في نهاية النظام القديم، لا سيما رسائله ومخطوطات رواياته والتقارير المختلفة التي كتبت في حقه، فجاء كتابه المنشور بعناية وإتقان والمزين برسوم توضيحية مليئاً بالشروحات والمعلومات القيمة.
وتشبه حياة المركيز دو ساد بحسب كريستيان لاكومب رواية حقيقية كانت مخفية لفترة طويلة وراء طبقات من الخيال، علماً أنه أمضى جزءاً كبيراً منها بين أربعة جدران مطارداً ومسجوناً بسبب سلوكه المتحرر من القيود والأعراف الأخلاقية، وكتاباته المثيرة للجدل والتي وسمت بالإباحية، إلا أنها أكثر عمقاً وتأملاً مما يعتقد، وتعد مبتكرة وجريئة في ما يتعلق بالحرية الجنسية وطرح مسألة الرغبة في قلب النقاشات الفكرية داخل مجتمع مقيد ومعاد لتحرر النساء. فالمركيز أسهم وفق لاكومب في تحرير القيم الأخلاقية وساعد في تمكين المرأة.
الكاتب القاسي
تخبرنا هذه السيرة أن المركيز الملقب بالكاتب الملعون واجه مشكلات قضائية منذ أن كان في الـ23 من عمره ارتبطت بتهم المجون والتجديف والآراء السياسية، وأن علاقته مع الشرطة ساءت خلال فترات توقيفه داخل سجن ڤينسين المعروف بقساوته بعد أن أقام فيه لمدة سبعة أعوام قبل أن يُنقل إلى سجن إيكس، ومن ثم إلى عدد من الحصون والقلاع التي تمكن من الهرب منها حتى أُغلق عليه باب الزنزانة عام 1777 بإيعاز من حماته مدام دو مونتروي، التي ضاقت ذرعاً بتصرفاته وتجاوزاته فاستصدرت أمراً ملكياً باعتقاله، نقل على أثره إلى سجن الباستيل ووضع داخل زنزانة تقع في الطابق الثاني من برج يطلق عليه بسخرية اسم “برج الحرية”. ويقول لنا لاكومب إن الزنزانة التي سُجن فيها ساد لم تتعد مساحتها خمسة أمتار وكانت جدرانها مطلية بالجير وأرضيتها مغطاة بالطوب، مما أثار غضبه. لكنه قام بترتيبها بما يتناسب وذوقه، مغطياً جدرانها بالأقمشة، واضعاً فيها بعض الأثاث واللوحات والنقوش والكتب، وكانت بمثابة رئته الفكرية، كما يوضح كاتب السيرة.
نقرأ في الكتاب أن ساد كان مجبراً على ترتيب سريره وكنس أرض غرفته، لكنه منح إذناً خاصاً بتبادل الرسائل مع بعض معارفه وزوجته رينيه بيلاجي، التي حاولت قدر الإمكان تحسين ظروف حياته السجنية من خلال تزويده بالكتب والصحف والزبدة والحلويات.
وهكذا، بدأ المركيز المقتنع بانتمائه إلى “فئة متفوقة” يتصور نفسه ضحية مؤامرة، شاجباً الوزير سارتي، واصفاً حماته بالقوادة، منغمساً في وهم الاضطهاد، مطالباً بالحصول على “نزهتين خلال الأسبوع في الأقل”. لكنه على ما تقول تقارير قائد شرطة السجن كان يهدأ عندما يُترك ليكتب ويقرأ. فقد استغل المركيز أيامه الطويلة في السجن لكتابة بعض أعماله المثيرة للجدل، كرواية “أيام سادوم المئة والعشرون، أو مدرسة الفجور” التي تحكي قصة أربعة أثرياء خليعين يقومون بتجربة أقصى درجات الإشباع الجنسي والعربدة مع 46 ضحية، معظمهم من شبان وشابات في سن المراهقة على مدى أربعة أشهر داخل قلعة منيعة في فرنسا.
كتب دو ساد هذه الرواية في سجن الباستيل خلال فترة لم تتعد 37 يوماً في خريف عام 1785. ونظراً إلى شح مواد الكتابة والخشية من المصادرة، فقد كتبها بأحرف صغيرة جداً على لفافة ورقية متواصلة طولها 12 متراً مصنوعة من قصاصات صغيرة هُرِّبت إلى السجن، ألصقها ساد ببعضها وخبأها في علبة أخفاها بين حجارة زنزانته. وعندما اقتُحم سجن الباستيل في بداية الثورة الفرنسية يوم الـ14 من يوليو (تموز) 1789، اعتقد المركيز أن عمله ضاع إلى الأبد، فكتب خلال وقت لاحق أنه بكى بكاءً مراً. لكن الورقة الطويلة نجت من مثيري الشغب، ونُشرت للمرة الأولى عام 1904 من قبل طبيب نفساني ألماني يدعى إيوان بلوخ تحت اسم مستعار هو الدكتور أوجين دورين. ثم أتبع ساد هذه الرواية بكتابة روايات أخرى وعلى رأسها “ألين وفالكور” و”مصائب الفضيلة”، التي خطها صيف عام 1787 و”الفلسفة في المخدع” و”جوستين” وغيرها.
وفي السجن ومع مرور الوقت، ازداد وزن المركيز وتضررت عيناه بفعل الدخان الكثيف المنبعث من المدفأة، لكنه وجد في الكتابة أفضل متنفس لغضبه وإحباطه. فشكل السجن في البداية تجربة صادمة، إلا أنه سرعان ما تحول بعد أعوام من تجربة مؤلمة إلى مصدر إلهام لإبداعه الأدبي وتأثره بالأفكار الثورية.
يكتب كريستيان لاكومب قائلاً “دخل المركيز السجن كمجرم، لكنه أصبح فيه كاتباً”، على رغم إصراره في رسائله مراراً وتكراراً أنه لم يكن أبداً ذاك الفاجر المنحرف الذي حاول الآخرون تصويره. فقد قال في إحدى رسائله “نعم، أنا فاجر أعترف بذلك، لقد تخيلت كل ما يمكن تصوره في الحياة الجنسية، لكني لم أنفذ بالتأكيد كل ما تخيلته ولن أفعل ذلك أبداً. أنا فاجر، لكنني لست مجرماً ولا قاتلاً”، معبراً بذلك عن عدم فهمه إصرار الدولة على معاملته كمجرم.
إضطرابات سياسية
ويتطرق الكتاب كذلك إلى علم ساد بالاضطرابات التي هزت خلال شهر يونيو (حزيران) فرساي وباريس عام 1789 قبيل الثورة الفرنسية، وكيف نما إليه أن البارود سيخزن داخل سجن الباستيل المخصص للمعارضين السياسيين والمسجونين الدينيين والمحرضين ضد الدولة، والذي أصبح على مدار الأعوام رمزاً للطغيان والظلم وانطلقت منه الشرارة الأولى للثورة الفرنسية، واصفاً لنا دخول المركيز في نوبة غضب وإمساكه أنبوباً طويلاً كان يستعمل لتصريف المياه القذرة، صارخاً بأعلى صوته أن السجناء سيذبحون بأمر من الحاكم. وأثارت صيحات ساد غضب الثوار الذين بدأوا يتجمعون قرب القلعة، لكن الحراس والسجانين تمكنوا من الإمساك به وتقييده في زنزانة منفردة. ويخبرنا لاكومب كذلك أن ساد نُقل خلال اليوم التالي إلى مستشفى للمجانين دون أن يُسمح له بأخذ أغراضه الشخصية، فاقداً بذلك فرصة أن يصير واحداً من أبطال الثورة. غير أنه خرج من المصحة بعد تسعة أشهر، حراً ومفلساً. فبدأ بالبحث عن مخطوطاته التي فُقدت خلال سقوط الباستيل، داخل الخنادق وفي قلب الحجارة، وتمكن من استعادة بعض الأوراق. لكن مخطوطة “أيام سادوم المئة والعشرون” الشهيرة كانت قد سُرقت وأُخفيت. ولم ينشر النص كما سبق وأشرت إلا خلال أوائل القرن الـ20. نقرأ في الكتاب أيضاً أن المركيز بعد نجاته من المقصلة عاش حراً لبضعة أعوام، قبل أن تلاحقه الشرطة الفرنسية مجدداً أيام نابليون بونابرت الذي أمر بسجنه.
احتجز ساد داخل عدة سجون على فترات متقطعة دامت 32 عاماً من حياته، ووُضع في مصحة للأمراض العقلية حيث توفي عام 1814، دافعاً ثمناً باهظاً لقاء شغفه ورغباته وآرائه الدينية والفلسفية التي عبر عنها في كتاباته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
داخل هذه السيرة الموجزة الواقعة في 250 صفحة والتي تحكي سيرة حياة أحد أكثر الكتاب فضائحية في تاريخ الأدب الفرنسي، يشدد كريستيان لاكومب على أن المركيز تحول دون إرادة منه إلى أسطورة جسدت الإنسان الماجن والناقم على المجتمع والنظم الأخلاقية والمستمتع بتعذيب الآخرين ومعاناتهم النفسية والجسدية، وأنه أول من قارب موضوع الجنس والرغبة والمتعة من زاوية تجمع بين بعض التيارات الفلسفية والثورات العلمية التي شهدها عصره. ففي القرن الـ18 كان ساد قبل نصف قرن من الرومانسيين، أول من انتقد وهم الحب المثالي والمجرد. وسعى المؤلف إلى ربط كتابات المركيز ب”فلسفة الأنوار” لجرأتها الفكرية وحرية تعبيرها، إذ جعل ساد من النهضة الفلسفية للفرد تمجيداً للفجور والقسوة والإشباع المنهجي لكل الرغبات، فاتحاً بذلك فصلاً جديداً في رؤيته لماهية الإنسان والكتابة الأدبية.
لا ينحصر كتاب كريستان لاكومب في الإضاءة على سيرة ساد أيام الثورة الفرنسية وفكر الأنوار، بل يستعيد أيضاً بعض الدراسات اللافتة التي تناولته بدءاً من السؤال الذي طرحته قبل 70 عاماً سيمون دو بوفوار “هل يجب إحراق ساد؟” بسبب غوص كتاباته في أقاصي النفس البشرية والأفكار الفلسفية وعلى رأسها القبول بالطبيعة وأهوائها ورغباتها المتعالية عما يسمى الخير والشر، ورفضها لفكرة خلود النفس بعد الموت، وإيمان كاتبها أن الحياة عبارة عن دورة أبدية لا نهاية لها، وأن الإنسان رهن قوة طبيعية تتجاوزه، وهو غير قادر على مقاومتها. لذا ليس على الفرد سوى الإصغاء لصوت الطبيعة وتلبية ندائها وإطلاق غرائزها لأنها بحسبه الإله الوحيد الحقيقي الواجب اتباعه.
ظلت كتابات المركيز دو ساد الإيروسية ممنوعة في فرنسا حتى الستينيات من القرن الـ20، وانقسم النقاد أمام أسلوب التعامل مع رواياته وأفكاره المستفزة والداعية للتحرر والثورة، والتي تخفي نقداً لاذعاً لمجتمعه الملكي والنابليوني الذي لم يستطع مجابهتها.
نقلاً عن : اندبندنت عربية