منذ نعومة أظفاره، كان خيران الزبيدي مفتوناً بآثار الحضارات القديمة وتاريخها العريق، إذ نشأ في منطقة عسيلان بمحافظة شبوة جنوب اليمن، التي تبعد كيلومترات قليلة من مواقع مملكة قتبان، بما فيها عاصمتها التاريخية “تمنع”. هذا القرب من الإرث الحضاري ألهمه لاستكشاف خبايا تاريخ اليمن وآثاره، فقرر التخصص في هذا المجال.
لم تكن رحلته سهلة، فقد غادر وطنه إلى العاصمة العراقية بغداد، حيث درس الآثار في جامعتها لمدة أربعة أعوام. بعد تخرجه عاد إلى اليمن ليبدأ مسيرته المهنية في المركز اليمني للأبحاث الثقافية والآثار والمتاحف في عدن، حيث عُيّن مشرفاً على الآثار. ومنذ ذلك الحين، أخذ على عاتقه مهمة التنقل بين محافظات جنوب اليمن لدراسة وتوثيق المواقع الأثرية، متسلحاً بشغفه وحبه لتراث بلاده.
ومن هنا كانت بداية ارتباط الزبيدي بالعمل في الآثار والمتاحف في محافظة شبوة بجنوب اليمن التي استمرت نحو 40 عاماً، وكانت له اليد الطولى وقصب السبق في تأسيس متحف عتق وإدارته. ومن هنا كانت بداية ارتباط الزبيدي بالعمل في مجال الآثار والمتاحف بمحافظة شبوة، وهي مسيرة استمرت نحو 40 عاماً. وخلال هذه الفترة كان له الدور البارز والسبق في تأسيس وإدارة متحف عتق، الذي أصبح علامة بارزة في حفظ وتوثيق تراث المنطقة.
متحف الحضارات الثلاث
محافظة شبوة أكثر محافظات اليمن امتلاكاً للآثار، نظراً إلى وقوع ثلاث من ممالك اليمن القديم من أصل خمس ممالك في هذه المحافظة، وهي ممالك حضرموت وقتبان وأوسان، فيما تقع المملكة الرابعة سبأ في محافظة مأرب والمملكة الخامسة معين في محافظة الجوف.
نظراً إلى الأهمية التاريخية الكبيرة التي تتميز بها محافظة شبوة، وغياب متحف يختص بالآثار في تلك المنطقة، أقرت حكومة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية السابقة، في عهد الرئيس السابق علي ناصر محمد، إنشاء متحف يسهم في جمع الآثار المتناثرة، وتفعيل عمليات التنقيب والبحث عن الكنوز المدفونة في المحافظة.
في هذا الإطار صدر قرار بتعيين خيران الزبيدي مشرفاً على الآثار في شبوة، وهي مهمة لم تكن سهلة بسبب شح الإمكانات وعدم وجود متحف فعلي في تلك الفترة. عاد الزبيدي إلى محافظته متسلحاً بحماس شاب عاشق للتاريخ والحضارة، ومليئاً بالطموح والإصرار على كشف أسرار تاريخ بلدته العريق، لكن الواقع كان مختلفاً، إذ لم يجد متحفاً قائماً، بل مستودعاً في دار السينما يحوي بعض القطع الأثرية التي جمعتها بعثة فرنسية عملت في المحافظة عام 1976.
على رغم التحديات شهد عام 1983 بناء متحف شبوة المحلي بجهود مؤسسة البناء المحلية، ليصبح في الـ28 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1984 مركزاً ثقافياً بارزاً افتتحه الرئيس اليمني الجنوبي السابق علي ناصر محمد. ضم المتحف ثلاثة أقسام رئيسة: الآثار، والعادات والتقاليد، وتاريخ الثورة، وشكلت القطع الأثرية المكتشفة في شبوة، بما في ذلك نقوش وألواح معمارية وقطع برونزية، الجزء الأكبر من معروضاته، مما عزز الوعي بأهمية التراث الثقافي للمحافظة.
ترابط وتكامل
بعد افتتاح متحف عتق أصبح البحث عن كنوز شبوة الأثرية أولوية رئيسة، مما عزز التعاون مع الهيئة العامة للآثار في إطار عمل مشترك. وفي عام 1986 صدر قرار حكومي بتعيين خيران الزبيدي مديراً عاماً للآثار والمتاحف، مما شجع على تكثيف عمليات التنقيب بمشاركة بعثات أثرية أجنبية ومتخصصين محليين.
يوضح الزبيدي أن افتتاح المتحف أسهم في تسريع وتيرة التنقيب وجمع الآثار، مشيراً إلى تنفيذ مسوحات واسعة في مديريتي نصاب وخطيب وأجزاء من جردان وعرماء، إضافة إلى مسح خط أنابيب النفط من مأرب إلى ساحل بلحاف، مما أدى إلى اكتشاف 178 موقعاً أثرياً، وتسجيل 52 موقعاً آخر على سواحل المحافظة. وشملت التنقيبات مدناً تاريخية مثل شبوة القديمة ووادي ضراء، بالتعاون مع بعثات فرنسية وإيطالية وروسية.
ويضيف الزبيدي أن البعثات الفرنسية والإيطالية كشفت عن مواقع بارزة مثل مدينة تمنع، عاصمة مملكة قتبان، حيث اكتُشف معبد الإله أثيرت وسوق شمر والقانون التجاري الشهير، إلى جانب حفريات في هجر أمذيبية ومواقع أخرى. وأكد أن هذه الجهود المتكاملة شكلت خطوة مهمة في توثيق التراث الأثري للمحافظة.
المتحف في مواجهة الاضطرابات
تعرض متحف عتق خلال فترات الاضطرابات التي شهدتها البلاد لمحاولات سطو ونهب، إلا أن مديره خيران الزبيدي وطاقم العمل كان لهم دور بارز في حمايته. يروي الزبيدي أنه خلال حرب 1986 في عهد اليمن الديمقراطي بقي المتحف مفتوحاً ثلاثة أشهر من دون حراسة، ولم يتعرض لأي أذى، لكن الحال تغيرت خلال حرب 1994، حينها تعرض المتحف للنهب والتخريب مع انهيار المؤسسات الأمنية واستغلال الفوضى.
بعد الحرب بذل الزبيدي جهوداً كبيرة مع الجهات الحكومية لاستعادة بعض القطع المنهوبة، واستعادوا أجزاء منها من صنعاء ومأرب، بينما بقيت أخرى مفقودة على رغم توثيقها. وخلال حرب 2015، ومع سيطرة الحوثيين على مركز المحافظة، نُقلت غالب القطع الأثرية إلى أماكن آمنة، وشكل الطاقم الإداري حراسة بالتعاون مع رجال القبائل، مما حال دون تعرض المتحف لأي ضرر، في خطوة عكست وعي المجتمع بقيمة هذه الثروة الوطنية.
استمرار تطوير المتحف
شهد متحف عتق توسعات وترميمات أضافت صالات عرض جديدة تضم آثار ممالك قتبان وأوسان وحضرموت والحمييرين واليزنيين، إلى جانب مقتنيات من الموروث الشعبي والعادات والتقاليد في القرن الـ20.
وأكد خيران الزبيدي أهمية المتحف في الحفاظ على تاريخ الأمم، مشيراً إلى أن افتتاحه شكل خطوة عظيمة في محافظة غنية بالمخزون الأثري، حيث عُثر على أكثر من 3 آلاف قطعة أثرية.
لكن وعلى رغم هذا الإنجاز اقتصر توثيق القطع على 800 قطعة فقط، مع وصف دقيق وترقيم وصور محفوظة، بينما لم يُستكمل مسح الخريطة الأثرية للمحافظة بسبب تداعيات حرب 2015، وضعف الموارد المالية، مما أدى إلى توقف أعمال البعثات الأثرية تماماً.
صرح أثري عظيم
زار الباحث في التاريخ علي البعسي متحف عتق مرات عدة، وعبر عن إعجابه الشديد بما يحويه من كنوز حضارية وتاريخية. وقال “أشعر عند دخولي هذا الصرح الأثري وكأنني أغوص في أعماق التاريخ. هنا تتجسد عظمة الأجداد وإنجازاتهم التي يشار إليها بالبنان. المتحف كتاب يوثق تاريخ الممالك القديمة التي تعاقبت على هذه الأرض، ويعرض إنجازات خالدة لتلك الحقب الزمنية”.
وأضاف الباحث في مجال الآثار “من الضروري الاهتمام بالمتحف وتزويده بالإمكانات اللازمة لتحسين عرضه بما يليق بحضارة جنوب الجزيرة العربية. ويجب إنشاء منظومة أمنية حديثة لحماية محتوياته الثمينة”.
وأشاد بالدور الكبير الذي لعبه خيران الزبيدي في خدمة التاريخ اليمني، بخاصة محافظة شبوة. وأوضح أن الزبيدي كان رائداً في تأسيس متحف عتق وإدارته على مدى أربعة عقود، إضافة إلى مشاركته في أعمال التنقيب والمسح مع البعثات الأثرية الأجنبية، وإسهامه في الحفاظ على الآثار، على رغم التحديات الأمنية وشح الموارد.
وختم البعسي حديثه بمناشدة وزارة الثقافة والهيئة العامة للآثار اليمنية والحكومة المحلية في محافظة شبوة لتكريم الزبيدي، تقديراً لجهوده الطويلة في خدمة التراث والتاريخ اليمنيين.
صرح أثري عظيم
زار الباحث في التاريخ علي البعسي متحف عتق مرات عدة، مشيداً بما يزخر به من نفائس حضارية وتاريخية. وفي هذا السياق، يقول البعسي “أشعر عند دخولي هذا الصرح الأثري العظيم بأنني أغوص في أعماق التاريخ. هنا تتجسد عظمة الأجداد وما أنجزه أهل هذه الأرض في القرون الماضية من إنجازات يُشار إليها بالبنان. المتحف كتاب كبير يخلد تاريخ الممالك والأقوام القديمة، لكنه يحتاج إلى اهتمام أكبر وتوفير الإمكانات اللازمة ليظهر بحلة تليق بعظمة حضارة جنوب الجزيرة العربية”.
ويضيف الباحث “من الضروري توفير منظومة أمنية حديثة ومتطورة لحماية محتويات المتحف الثمينة”.
كما عبّر عن تقديره العالي للدور البارز الذي لعبه خيران الزبيدي في خدمة التاريخ اليمني، مشيداً بإسهامه في تأسيس متحف عتق وإدارته لنحو أربعة عقود. وأثنى على جهوده في التنقيب عن الآثار بالتعاون مع البعثات الأجنبية، ومثابرته في حماية الكنوز الأثرية على رغم التحديات الأمنية وشح الموارد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واختتم البعسي حديثه بمناشدة وزارة الثقافة والهيئة العامة للآثار اليمنية والحكومة المحلية في محافظة شبوة، لتكريم الزبيدي على أعوام طويلة من العمل الدؤوب في خدمة تاريخ اليمن وحضارته.
اكتشافات البعثات الأجنبية
حظيت شبوة باهتمام كبير من البعثات الأوروبية منذ عقود، إذ اكتشف الضابط البريطاني، جيمس وليستد، في عام 525 حصن الغراب الواقع على ساحل بئر علي، حيث عثر على نقوش أثرية ذات أهمية تاريخية، واكتشف مدينة “نقب الهجر” في وادي ميفعة، التي يُعتقد أنها العاصمة الأولى لمملكة حضرموت قبل أن تنتقل العاصمة إلى شبوة القديمة لاحقاً.
وفي إنجاز تاريخي آخر، تمكنت الباحثة والمستشرقة الفرنسية، جاكلين بيرين، بعد أربعة أعوام من البحث وسط ظروف طبيعية قاسية، من اكتشاف مدينة شبوة القديمة، عاصمة حضرموت.
وتضمن الاكتشاف القصر الحضرمي وقصور النبلاء، حيث عُثر على أوانٍ وقدور نحاسية وقطع من الرخام وعملات نقدية تحمل نقوشاً لحيوان الوعل وعناقيد العنب.
من أبرز البعثات التي عملت في شبوة كانت البعثة الفرنسية بقيادة فرنسوا بيتون، التي حققت اكتشافات مهمة في مدينة شبوة القديمة، منها العثور على قطع برونزية وأجنحة لحيوانات مجنّحة وأجزاء من تماثيل ملكية، واكتشفت البعثة عام 1984 مدخل القصر الملكي المكون من درج واسع مزخرف وألواح حجرية مزينة، مما أضاف بُعداً جديداً لفهم الحضارة القديمة في المنطقة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية