مع انحسار الأمطار في موسم الشتاء الحالي، يعبّر المواطنون عن قلقهم حيال احتمال حصول أزمة وانقطاع المياه صيفاً. واعتاد المواطن اللبناني على مشهد الطرقات الغارقة بالسيول في فصل الشتاء، وعلى رؤية السيارات العالقة، ساعات، في طرقات تحوّلت إلى بحيرات. إلا أن مشهد الموسم الحالي اختلف تماماً، فإذا بالشتاء يأتي مخالفاً للتوقعات. أما الأمطار التي كانت متوقعة في هذه الفترة من السنة، فغابت حتى شكّل موضوع الجفاف هاجساً للبنانيين في مختلف الأراضي اللبنانية. إذ سيطر طقس دافئ على البلاد، وعلى رغم استمتاع اللبنانيين بشمس الشتاء ودفئها، يعبّرون عن قلقهم حيال ما يمكن أن يكون عليه الوضع في لبنان صيفاً، وما يمكن أن ينتج عن انحسار الأمطار حالياً من أزمة مياه في موسم الحرّ. لذلك، ينظر البعض بإيجابية إلى طقس العام الحالي لدى مقارنته مع ما كان عليه في العام المنصرم، لكن يعبّر آخرون عن مخاوفهم من تراجع كمية الأمطار في هذا الموسم، وارتفاع درجات الحرارة بتأثير من ظاهرة التغير المناخي.

 

أزمة مياه تلوح في الأفق

في ديسمبر (كانون الأول) 2024، أصدرت “مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان” بياناً جاء فيه أنه “بسبب ضآلة المتساقطات، انخفض منسوب مياه الينابيع بشكل كبير، كما انخفض منسوب المياه داخل الآبار. ونظراً لتعذر إيجاد مصادر إضافية للمياه، ستلجأ المؤسسة إلى اعتماد برنامج تقنين صارم في توزيع المياه في المناطق اللبنانية الواقعة في نطاق صلاحيتها”. كما دعت المؤسسة المواطنين إلى الترشيد في استخدام المياه إلى حين ارتفاع معدلات المتساقطات. لكن بعكس التوقعات، كانت الأمطار والمتساقطات شبه معدومة في لبنان حتى في الفترة الممتدة بين شهر يناير (كانون الثاني) وبداية شهر فبراير (شباط) بعكس ما جرت العادة في هذه الفترة من السنة التي تشهد عادة الذروة في كمية الأمطار والثلوج التي تتساقط. وغلب الطقس المشمس والدافئ، ما زاد من هواجس اللبنانيين بغياب أي منخفضات جوية مرتقبة. وبدا وكأن ثمة تحولاً تاماً في موسم الشتاء، ما أثار القلق بشأن موسم الصيف المقبل، وما سيكون عليه المناخ عندها وما ستشهده البلاد من شح في المياه المتوافرة للمواطنين.

وفي السياق، رفض الخبير الهيدروجيولوجي والباحث سمير زعاطيطي كل ما يحكى عن جفاف يشهده لبنان بتأثير من التعيير المناخي، نافياً أن تكون البلاد مقبلة على فترات من الشح في المياه ومؤكداً أن لبنان يُعرف بكونه بلد المياه في الشرق الأوسط، كما أن جباله هي مخازن حقيقية للمياه نقلاً عن المهندس الراحل ابراهيم عبد العال.

وكان البنك الدولي قد صنّف لبنان وتركيا كبلدين يملكان من المياه ما يزيد عن حاجتهما. فالمياه الجوفية التي لا يمكن رؤيتها تشكل ثلثي الثروة المائية في لبنان وفق ما نُشر في تقرير الأمم المتحدة للتنمية بحسب الأبحاث التي قام بها خبراء أوروبيون.

وبالتالي لا يعتبر ما يقال عن أن انخفاض معدلات الأمطار قد يؤدي إلى جفاف وإلى عدم توافر المياه للمواطنين صيفاً، دقيقاً، بل هو بعيد كل البعد عن الحقائق العلمية “يصل معدل الأمطار التي تتساقط في باريس إلى 600 مليميتراً تقريباً، وتتخطاها تلك التي في لبنان. ويستخدم الفرنسيون وما يزيد عن سبعة ملايين سائح المياه على مدار السنة من دون أن يواجهوا أزمة بوجود المياه الجوفية. وكون لبنان بلداً جبلياً بنسبة 70 في المئة منه، وصخوره كاربوناتية كارستية، يصل معدل المتساقطات فيه سنوياً إلى 10 مليارات متر مكعب كمعدل عام. أما الكمية التي تتخزّن في كل عام في باطن الأرض كمياه جوفية فتصل إلى ثلاثة مليارات متر مكعب، وما يُحكى عنه من شح في المياه بسبب تراجع معدلات الأمطار لا يرتكز إلا على ثلث معدلات المياه المتوافرة في الأنهار والينابيع والبحيرات التي يمكن رؤيتها. وبالتالي هو كلام عار من الصحة”.

 

وتابع الباحث زعاطيطي “في منطقة القاع (شرق) الحدودية مثلاً، حفرت آبار وأُخذت مياه جوفية هي من متساقطات الأعوام التي سبقت، وكانت قد تخزنت فيها عاماً بعد عام، بما أن ثمة متساقطات منتظمة في معدلاتها. وقد أجريت دراسة في جنوب لبنان على برك رأس العين في جنوب صور، لرصد المدة التي تدوم فيها المياه الجوفية، وتبيّن أن المياه بقيت في مخازنها مدة خمس سنوات حتى استخدمت. ومما لا شك فيه أن في لبنان تخزيناً جوفياً قديماً يملأ المخازن الجوفية فيه، ومن المفترض استخدامها بالفعل لأن الفائض منها يذهب إلى البحر. فمن المخزون ما يبقى في المخزون الجوفي ويذهب الفائض وحده إلى البحر. وما يمكن تأكيده أن في البلاد مخزوناً جوفياً قديماً لم يتحدد عمره حتى، وهو يتغذى سنوياً، إضافة إلى مخزون دائم تحت سطح البحر حيث لا جريان للمياه الجوفية، وتجري كل المياه التي فوق سطح البحر من المناطق العالية إلى تلك الأدنى”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

موسم شحيح ولكن…

وأكد الخبراء أن معدلات المتساقطات في لبنان، كما في البلدان كافة، تتفاوت بين عام وآخر ولا تكون نفسها في كل موسم، فثمة أعوام تأتي فيها الأمطار شحيحة وأخرى تكون فيها أكثر غزارة، وما من معدلات ثابتة يمكن التحدث عنها، وتبيّن الأرقام الصادرة عن محطة الجامعة الأميركية في بيروت، أنه كل 10 أعوام تأتي سنة يكون فيها المطر شحيحاً وتتراجع كمية المتساقطات، وقد تأتي أكثر غزارة في مواسم أخرى. وانطلاقاً من ذلك، لا يمكن التحدث عن تغييرات في كميات الأمطار التي تتساقط في لبنان نتيجة التغير المناخي، بل إن التغيير الحاصل هو في انتظام تساقطها ومواعيدها، فبدلاً من أن تتساقط خلال فترة ستة أشهر، تتساقط اليوم خلال ثلاثة أشهر بالكميات ذاتها. وبالتالي، رفض زعاطيطي الكلام الذي يجري التداول به عن تحوّل مناخ لبنان إلى صحراوي، لاعتباره حديثاً غير علمي، “فلا تزال طبيعة لبنان جبلية، وتتساقط فيه كميات معينة من الأمطار والثلوج في كل عام، لكن مما لا شك فيه أن ثمة تغييراً حرارياً فعلياً، إذ ارتفع المعدل العام لدرجات الحرارة بمعدل درجتين ونصف الدرجة عما كان عليه قبل 60 سنة، كما تظهر متابعات ودراسات الدكتور الراحل وجدي نجم في محطات المطار (بيروت) وزحلة (شرق) وطرابلس (شمال). في المقابل، من عام 1975 هناك غياب تام للبحث العلمي في لبنان، خصوصاً في ما يتعلّق بالثروة المائية والطاقة والبيئة، ما يجعل البلاد تفتقد إلى الارقام الدقيقة والبيانات العلمية. وبغياب أي بحث علمي جديد من عشرات السنوات في لبنان، ووجود دراسات قديمة يتم الاستناد إليها، ليست هناك أي دراسة مائية يمكن الاستناد إليها حالياً، وتجدر الإشارة إلى أن في لبنان مناخات عدة تختلف بين المناطق. ففي بعلبك – الهرمل (شرق) مثلاً يسود مناخ شبه صحراوي، وتمطر في المنطقة بمعدل 250 مليميتراً في العام أي ما يعادل ثلث المياه التي تتساقط في بيروت”.

ما يبدو واضحاً، أنه في السنوات الـ 10 الأخيرة، غابت الأمطار التي كانت تبدأ من شهر سبتمبر (أيلول) وتستمر طوال ستة أشهر، فلا يشهد لبنان تساقط أمطار إلا خلال ثلاثة أشهر، ولو كانت بالمعدلات ذاتها حيث تتساقط بوقت أقل وبمزيد من الغزارة. ويمرّ لبنان حالياً بالأشهر الثلاثة الماطرة التي من المفترض أن تتساقط فيها الأمطار بغزارة، ما لم يحصل بعد مع انقضاء شهر ديسمبر.

واعتبر زعاطيطي أن من الممكن ترقب شهري فبراير ومارس (آذار) لاحتمال أن تتساقط الأمطار خلالهما بمعدلات أعلى في تعويض الشح الحاصل في بداية العام، “وصحيح أنه ثمة تأخير في الأمطار المتساقطة وفي موسم الشتاء، لكن من الممكن تعويض ذلك في الشهرين المقبلين وبلوغ نصف المعدل الطبيعي مع قدوم منخفضات جوية مرتقبة، وإن كان من الصعب بلوغ المعدل الطبيعي بما أنه يبدو واضحاً أنها من السنوات الشحيحة من حيث الأمطار في لبنان”.

وضع طبيعي

وفي كل الحالات، يعتبر الوضع الحالي طبيعياً ولا يدعو للقلق لأن لبنان اعتاد أن يشهد مواسم مماثلة، أما تخزين المياه فيتم حالياً بشكل طبيعي، ومن دون أي تغيير أو تدخل من الإنسان. في المقابل، ما أكده زعاطيطي أنه ثمة سوء إدارة واضحة تلعب دوراً من نواحٍ أخرى وترتبط بعدم فهم الطبيعة من قبل المسؤولين، ما يمكن أن يوضع في خانة الإهمال المتعمد. “إذ توزَّع الوزارات كحصص، وتقام مشاريع مكلفة يمكن الاستفادة منها، بغض النظر عما إذا كان في ذلك ضرر بيئي، ومنها إقامة السدود التي لا تأخذ بالاعتبار الطبيعية الجيولوجية للأرض التي تقام فيها السدود. وقد شيّدت بالفعل خمسة سدود بهذه الطريقة. ومن الواضح أن قرارات الدولة اللبنانية في الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه كانت خاطئة تماماً لأن سياسة إقامة السدود تخالف كل التوصيات العلمية. وقد أكد ذلك خبراء أوروبيون ومحليون، وصدرت تقارير علمية موثوقة تؤكد غنى لبنان بالمياه، وآخرها تقرير الأمم المتحدة الذي يؤكد على أنه لدى لبنان ثلاثة مليارات متر مكعب من المياه الجوفية الجارفة”.

علمياً، يذهب ثلث المطر الذي يتساقط على جبل الشيخ (شرق) ومعه الثلوج التي تذهب إلى باطن الأرض كمياه جوفية، إضافة إلى المياه الظاهرة التي يمكن رؤيتها في الأنهار والينابيع والبحيرات. وينطبق ذلك على جبل عامل (جنوب)، فالأرض تتغذى بالثلوج والأمطار وهي تحوي على معدلات مرتفعة من المياه. وكون ثلثي الثروة المائية في لبنان جوفية ولا يمكن رؤيتها، ليس هناك تأثير لتراجع معدلات تساقط الأمطار في هذا العام على الثروة المائية للبلاد وعلى ما لدى لبنان من مخزون، ولا على كميات المياه التي يمكن أن تتوافر للمواطنين صيفاً، وهذا ما يطمئن المواطنين على أن المخاوف من أن يكون الصيف قاسياً وأن تشهد البلاد أزمة في قطاع المياه، غير مبررة.

نقلاً عن : اندبندنت عربية