أثارت المشاهد القادمة من المعتقلات وفروع التحقيق الأمنية والسجون السورية بعد سقوط النظام البعثي الأسدي الاستخباراتي الرعب والاشمئزاز والحزن والغضب في عيون المشاهدين حول العالم وفي العالم العربي، وبين السوريين واللبنانيين وهم أكثر من عانوا على مدى نصف قرن من اختفاء أقارب لهم فيها.
هذه المشاعر القاسية أصابت جميع المشاهدين المعنيين مباشرة أو غير المعنيين بأمر الداخلين المفقودين إلى هذه المعتقلات المتوحشة أو الخارجين منها “مولودين”، كان لها أثر الصدمة لأنها ظهرت إلى العلن فجأة ودفعة واحدة وخلال وقت لم يكن متوقعاً سقوط نظام البعث الأسدي في سوريا، مشرعاً أمام الناس أبواب معتقلاته لينقلوا الصور مباشرة وطازجة ومملوءة بدهشة النظرات الأولى غير المصدقة، سواء من المعتقلين والمعتقلات الذين طلب منهم الخروج من الزنازين أو نظرات مخلصيهم ممن سمعوا عن سواد المعتقلات والتعذيب فيها سماعاً من دون أن يشاهدوها بأم العين، والمشاهدة بالعين أكثر إيلاماً من السمع والقراءة عن الموضوع، مهما سمع المرء أو قرأ من تجارب.
كتابات نادرة على رغم آلاف الأدباء المعتقلين
قبل السقوط المفاجئ والهائل للنظام الحديدي وللجدران العالية التي كان يخبئ خلفها ويخفي في ظلامها عشرات الآلاف من المعتقلين السوريين واللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين، الذين اختفى كل منهم في أي يوم من أيام العقود الخمسة الأخيرة، وكان منهم مجموعة من الأدباء والناشطين والمثقفين اللبنانيين والسوريين الذين كتب قلة قليلة منهم عن تجاربهم داخل هذه المعتقلات خلال العقدين الماضيين، إلا أن هذه الكتب والشهادات والروايات على قلتها لم تلق انتباه سوى عدد قليل من المهتمين في العالم العربي وحول العالم، وكأن الجميع كان يخفى رأسه في الرمال وكأن ما يجري لا يجري.
أصدر المفكر السوري والمعتقل السابق ياسين الحاج صالح “بالخلاص يا شباب” عام 2012، وصدرت رواية “القوقعة” للكاتب السوري مصطفى خليفة، ونشر الشاعر السوري فرج بيرقدار شهادته بعنوان “تغريبتي في السجون السورية”، وكذلك الناشط والأديب اللبناني علي أبو الدهن نشر كتابه بعنوان “عائد من جهنم، ذكريات من تدمر وأخواته”، الذي أمضى داخل سجن تدمر 13 عاماً قبل إطلاق سراحه عام 2000.
ويعود سبب ندرة مثل هذه الشهادات والكتب والروايات الموثقة في المكتبة العربية العامة إلى استحالة كتابة هذه التجارب ونشرها في سوريا أو حتى نشرها في الخارج، مع وجود كاتبها في سوريا أو في لبنان في زمن الوصاية السورية المطلقة عليه والتي امتدت حتى عام 2005، تاريخ انسحاب الجيش السوري من لبنان إثر جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري و”ثورة الأرز” الناتجة منها.
وكانت رغبة بعض المثقفين المعتقلين إغلاق هذه التجربة بإحكام في خزائن ذاكراتهم في محاولة لجعل كل ما يتعلق بالسجن وراء ظهورهم سبباً أيضاً لاستنكاف كثير منهم عن الكتابة، هذا عدا عن تجربة الألم النفسي التي يستعيدها الكاتب أثناء استرجاعه حياته في المعتقل، والتي يحاول أن ينساها أساساً، وهناك السبب الأهم والأشد قسوة وواقعية وهو الخوف من العودة إلى السجن مجدداً، هذا الخوف الذي بقي مسيطراً على أصحابه حتى الأمس.
“الاستحباس” أو بالخلاص يا شباب
خلال عام 2012 أي بعد مرور عام على انطلاق الثورة السورية ضد نظام البعث برئاسة بشار الأسد والمتأثرة بثورات ما سمي “الربيع العربي”، أصدر الكاتب والناشط السوري ياسين الحاج صالح شهادته بعنوان “بالخلاص يا شباب!”، وروى فيها هول تجربة اعتقاله لمدة 16 عاماً في السجون السورية السرية والمظلمة، محاولاً الإجابة عن سؤال كيفية تحمل المعتقل هذه الوحشية العالية للتكيف في حياة السجن، في ما سماها الحاج صالح بمصطلح جديد هو “الاستحباس”.
ولم يكن نظام الأسد سقط حين نشر هذا الكتاب، ولم تكن أبواب السجون والمعتقلات والفروع الأمنية فُتحت على مصراعيها كما حدث منذ أيام، ولكن كان ما رواه الحاج صالح بمثابة أول خلع لأبواب تلك الزنازين عبر الكتابة عنها وقدرته على تصوير قسوتها الهائلة بالكلمات المكتوبة.
اعتقل الحاج صالح في الـ19 من عمره عام 1980 بتهمة الانتماء إلى حزب معارض للنظام، فأمضى متنقلاً بين المعتقلات والسجون الأمنية والاستخباراتية السورية أقل بقليل من عدد الأعوام التي أمضاها ناشطاً قبل الاعتقال، أحصاها يوماً بيوم في محاولة البقاء على اتصال إجباري مع الزمن كوسيلة للحفاظ على التواريخ اليومية وكأن عد الأيام في مرورها خيط رفيع يربطه بالزمن الذي يجري في الخارج.
حين أفرج النظام الأسدي عنه بعفو، قرر أن يجيب عن سؤال يطرحه خلال هذه الأيام ملايين الناس ممن شاهدوا غرائب السجون السورية وجحيم زنازين سجن صيدنايا وغيره من المعتقلات السرية، وممن سمعوا روايات الخارجين من الموت إلى ولادة جديدة، وهو كيف يتمكن المعتقل من تحمل التعذيب والشقاء ومن تجريده من صفاته البشرية طوال فترة الاعتقال المديدة؟ وكيف يمكنه أن يخرج طبيعياً ويكمل حياته كسائر الناس بعد كل ما مر به من أهوال؟
جاءت الإجابة مختصرة بمصطلح “الاستحباس”، أي اتباع مجموعة معقدة من الطرق والوسائل التي ينتهجها المعتقل ليتكيف في حبسه ويتمكن من التحرر وسط المعتقل، كي يستوطن السجن فيسكنه كأنه بيته بهدف تحويل الوقت داخل المعتقل إلى حليف عبر القيام بأمور عملية ومفيدة بصورة روتينية، مما يبطل بعضاً من وظيفة السجن وهي جعل الزمن الذي يمر أثناء الاعتقال وكأنه هباء منثور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يكن فعل “الاستحباس” بمتناول جميع المعتقلين بحسب ما كتب الحاج صالح لأن تحققه يحتاج إلى توافر حد أدنى من الشروط، أولها أن تكون الظروف داخل المعتقل ممكنة التحمل، مثلاً لا يمكن “الاستحباس” في سجن تدمر الذي يستحيل أن يستوطنه أو يسترخي فيه أحد، لكن كان من الممكن “الاستحباس” في سجني المسلمية قرب حلب وعدرا قرب دمشق.
ويتوقف نجاح الأمر أيضاً على حال السجين النفسية وظروفه الاجتماعية، فاستحباس الأب والمتزوج وكبار السن المرضى والأشخاص الذي لا يزورهم أحد، أصعب من استحباس الشاب العازب.
ولا تبدأ نتائج “الاستحباس” بالظهور إلا خلال مدة الاعتقال الطويلة، فلا يمكن لمعتقل لمدة عام أو عامين أن يتمكن من التكيف مع ظروف السجن المرعبة، وهؤلاء لو أطلق سراحهم يميلون إلى حذف أعوام السجن من حياتهم والنظر إليها وإلى حياتهم فيها بعداء.
عقوبة الحالم بمنعه من الحلم
وبعد أعوام قليلة نشر الكاتب اللبناني علي أبو الدهن كتابه “عائد من جهنم، ذكريات من تدمر وأخواته”، وتجرأ على نشر كتابه هذا في عز الوصاية السورية على لبنان مطلع القرن الـ21 وهو المفرج عنه عام 2000، ثم قام بتأسيس جمعية تطالب بالإفراج عن المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية ومتابعة قضيتهم المنسية حتى حينه، والتي بقيت منسية إلى الأمس حين انفتحت أبواب الجحيم أمام الكاميرات فجأة ومن دون إنذار، إذ إن لبنانيين كثراً ينتظرون ظهور معتقليهم من بين الخارجين من السجون السورية على رغم أن بعضهم فُقد أثره قبل أكثر من 30 عاماً.
بدأت رحلة أبو الدهن حين حاول الحصول على فيزا للهجرة إلى أستراليا من السفارة في دمشق أواخر ثمانينيات القرن الماضي، لكنه عوضاً عن أن يحصل من السفارة الأسترالية في دمشق على فيزا للهجرة اقتادته الاستخبارات السورية إلى سجن تدمر، ليبدأ رحلة مختلفة تماماً.
وقبل وصوله إلى السجن كان عليه أن يمر كما الحاج صالح من فرع السويداء حيث اعتقل إلى فرع المسلخ ومنه إلى فرع المنطقة ففرع فلسطين ثم فرع التحقيق العسكري، فسجن تدمر.
وروى علي أبو الدهن أن المعتقل كان يعاقب على الأحلام أو بتهمة الحلم، فالذي روى لرفاقه من نزلاء الزنزانة حلمه بموت الرئيس حافظ الأسد وبجنازته التي كان يمشي فيها مع رفاقه في الزنزانة ضاحكين مسرورين، تم جلده 300 جلدة بقطع حديدية (6 ملم).
وصاحب حلم الذئب الذي اقتحم قصر الرئاسة وخرج حاملاً بأنيابه أحد أبناء الرئيس، كان تعذيبه أشد إذ مات خلال تلك الفترة باسل الأسد الابن البكر للرئيس السوري في حادثة سيارة، فلم يكن من آمر السجن إلا أن أحضر السجين صاحب الحلم وأنزل به عقاباً شديداً لأشهر عدة، فتوقف المعتقلون بعد هاتين الحادثتين عن سرد أحلامهم في ما بينهم، هذا إذا لم يمنعوا أنفسهم من أن يحلموا أصلاً.
إبادة جماعية بكفالة دولية
على رغم أنه لم يكن هناك خلال نصف قرن من حكم السلالة الأسدية أي اعتقال من دون تعذيب هائل، وعلى رغم الكتب القليلة المنشورة عن تجارب في هذه المعتقلات، فإن الأمر لم يسترع انتباه أحد في العالم إلا بعض المنظمات الإنسانية التي ما بيدها حيلة لإيقاف هذا الإجرام الموثق.
وعلى رغم أن النظام السوري الأسدي قتل بحسب تقديرات مؤسسات بحثية مختلفة ما يزيد على مليون سوري منذ عام 2011، واستمر في القتل والتعذيب واستخدام الغازات السامة ضد مواطنيه وتهجير 7 ملايين لاجئ خارج سوريا، فإن هذه الأمور كانت تجري في إطار نوع من الكفالة الدولية أو في الأقل السكوت العالمي إن لم يكن التواطؤ من بعض الأنظمة التي دعمت حكم آل الأسد الطويل.
كل ذلك كان يجري على رغم وجود قوات أميركية وروسية وإيرانية وتركية وإسرائيلية في سوريا، بخلاف وجود ميليشيات من العراق ولبنان وتركيا.
نقلاً عن : اندبندنت عربية