“نشرت بثاً مباشراً على ’تيك توك‘ وكنت أضحك مع بعض الأصدقاء، ولم أدرك أن هذه الليلة ستغير حياتي للأبد. وفي اليوم التالي اعتُقلت بتهمة تتعلق بالمحتوى الذي قدمته”، وفق سجى (اسم مستعار) وهي إحدى الشخصيات المؤثرة في “تيك توك” ولديها مئات الآلاف من المتابعين. وتضيف “الضابط كان يسخر مني وهو يقول، لا أعلم هناك مذكرة اعتقال صادرة بحقك بسبب فيديو. والناس تشتكي عليك”.
لم تكن سجى تدرك أن منصة “بلغ” التي أنشأتها وزارة الداخلية العراقية بالتعاون مع مجلس القضاء الأعلى، جمعت شكاوى من المواطنين -حسب قول الضابط لها- تتهمها بنشر “محتوى يخل بالذوق العام ويروج للانحلال”.
وتتابع سجى التي قضت أكثر من أربعة أشهر في السجن قبل انتقالها للعيش داخل أربيل في كردستان العراق “لم أرتكب جريمة سرقة أو قتل، ولم أحرض على أحد. وصفحتي ترفيهية ولم أقترب يوماً من السياسة أو أنتقد الحكومة، وكانت مصدر رزقي بعدما أيقنت أن شهادتي لن تؤمن لي عملاً، ومع ذلك كان من شروط الإفراج عني أن أغلق جميع حساباتي إلى الأبد، حتى إنني غير قادرة على الحديث بما حصل لي. واليوم، أعيش بلا دخل وأشعر بالعجز والضياع، ولا أعرف ما الذي سأفعله لاحقاً”.
“مكافحة المحتوى الهابط”
خلال النصف الأول من يناير (كانون الثاني) الجاري اعتُقل اثنان من صناع المحتوى في العراق، بتهمة المحتوى الهابط من طريق منصة “بلغ”، وهما “درمان” و”رائد حمرة” الذي كان مستقراً في تركيا، لكنه قرر العودة إلى بلاده قبل أقل من عام. وأحد معارفه الذي فضل عدم ذكر هويته قال إن حمرة وقبل اعتقاله ذكر في أحد فيديوهاته قضايا غسل أموال متعلقة بمحافظ البصرة أسعد العيداني ومرتبطة بشخصيات نافذة، ثم حذفه بعد اعتقاله.
ومنذ ما يقارب عامين، بدأت حملة حكومية رسمية لملاحقة واعتقال المئات من مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي في العراق بتهم تتعلق بنشر محتوى عُدَّ مسيئاً للمجتمع. وشمل العدد الأكبر من المعتقلين نساء حققن شهرة واسعة من خلال نشر مقاطع فيديو وصفت بالخروج عن الأعراف الاجتماعية السائدة. وعلى رغم ذلك، كان من بين المعتقلين أيضاً من يقدمون محتوى ساخراً أو سياسياً واجتماعياً ناقداً، وشملت الاعتقالات شعراء وصحافيين.
وأطلقت حملة “مكافحة المحتوى الهابط” خلال الثامن من فبراير (شباط) 2023 من قبل مجلس القضاء الأعلى العراقي بالتعاون مع وزارة الداخلية، التي شكلت لجنة خاصة لهذا الغرض. وخُصصت منصة إلكترونية تحمل اسم “بلغ” لاستقبال شكاوى المواطنين حول المحتويات التي يرونها غير لائقة أو مسيئة على وسائل التواصل الاجتماعي. وكثر يؤكدون أن المنصة هي مجرد واجهة لفساد حكومي يعمل على قمع الحريات الشخصية.
وما هي أيام من انطلاق هذه الحملة الأمنية والقضائية حتى صدرت أحكام توقيف ضد عشرات الأشخاص، مما أدى إلى اضطرار بعض لوقف نشاطهم وغلق منصاتهم، فيما اختار آخرون النزوح إلى إقليم كردستان أو حتى الهجرة إلى خارج العراق، وبعضهم تعرض للقتل.
ناشطون ومدونون وصحافيون رفضوا هذه الحملة وشبهوها بـ”حملة صدام حسين الإيمانية” (ترأسها عزت الدوري) وتمثل “تكميماً للأفواه”، وحملة ممنهجة تقودها أحزاب السلطة بهدف تقييد حرية التعبير.
“تلاحق الدولة العراقية أشخاصاً بسطاء لا عمل لهم أو مستقبل، كل ما يفعلونه هو إنشاء الفيديوهات الكوميدية الجاذبة للمشاهدات، بعضهم يغني أو يرقص أو يطلق النكات. لكن الحكومة العراقية تستقوي على هؤلاء الأشخاص وتحاول فرض مفهوم الدولة القوية والمسيطرة من خلالهم”، هذا ما قالته الناشطة سعاد (اسم وهمي) خلال حديثها إلى “اندبندنت عربية”، مشيرة إلى أن “فكرة إنشاء المنصة تعد انتهاكاً كبيراً ضد حقوق الإنسان والحريات الفردية في العراق. وتتعمد الدولة إظهار قوتها وسلطتها على مؤثرين يتابعهم الملايين لتبث الرعب في قلوبهم، وتوظف هذه المنصة مفهوم الدولة القمعية التي تريد للمواطنين الذين لا حول لهم ولا قوة، أن يمشوا على الصراط المستقيم أو تصبح السجون منصاتهم الجديدة”.
التحريض غير مشمول بالمحتوى الهابط
كذلك يُعتقل أي شخص ألقى نكتة سياسية أو بثَّ فيديو ينتقد فيه الخدمات السيئة بطريقة ساخرة، لكن يتم تجاهل ما يصدر على لسان السياسيين، وبما قد يتسبب بمشكلات كبيرة في البلاد، دون أن يخضع أي منهم لأية مساءلة قانونية على رغم خطاباتهم الطائفية والمحرضة، حتى على القتل أحياناً. وتوضح “سعاد” أن غاية منصة “بلغ” لم تكن يوماً مفهومة وواضحة، على رغم إطلاق كثير من المنظمات الإنسانية أسئلة لمعرفة ما مفهوم ومعايير “المحتوى الهابط” لحماية المدونين، وجمعت كثيراً من التوقيعات لإلغاء المنصة دون نتيجة.
وبحسب المحامي نور محمد “تعتمد الجهات القضائية في الغالب على نص المادة 403 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لعام 1969 في توجيه التهم ضد المعتقلين المحالين إليها ضمن حملة مكافحة المحتوى الهابط”. ويوضح المحامي سليم الموسوي أن “الحملة غير قانونية، لكونها استندت إلى قانون عقوبات قديم عُدل خلال الثمانينيات وفي وقت لم تكن فيه وسائل التواصل الاجتماعي موجودة، فالمادة القانونية لا تتحدث عن النشر الإلكتروني بل عن الرقابة على الكتابة والمطبوعات والأفلام، وليس المحتويات الإلكترونية”. وتنص هذه المادة على أنه “يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تقل عن 200 دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من صنع، أو استورد، أو صدر، أو حاز، أو أحرز، أو نقل بقصد الاستغلال أو التوزيع كتاباً أو مطبوعات أو كتابات أخرى أو رسوماً أو صوراً أو أفلاماً أو رموزاً أو غير ذلك من الأشياء إذا كانت مخلة بالحياء أو الآداب العامة. ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من أعلن عن شيء من ذلك، أو عرضه على الجمهور، أو باعه، أو أجره، أو عرضه للبيع، أو الإيجار ولو في غير علانية. وكل من وزعه أو سلمه للتوزيع بأية وسيلة كانت، ويعد ظرفاً مشدداً إذا ارتكبت الجريمة بقصد إفساد الأخلاق”.
وتابع المحامي الموسوي “المشكلة تكمن في الانتقائية الواضحة عند تطبيق هذه النصوص القانونية. ففي وقت تطبق فيه بصورة صارمة على المؤثرين وصناع المحتوى، نلاحظ أن الجهات الأكثر نفوذاً غالباً ما تُستثنى من المساءلة القانونية”. وأضاف “هذه الازدواجية تثير كثيراً من التساؤلات حول الأهداف الحقيقية وراء هذه الحملة، والتي يرى كثر أنها جزء من مسعى أوسع للسيطرة على حرية التعبير في العراق، وضمان أن تبقى الأصوات الناقدة على الهامش”.
و”يظهر كثير من الضباط في وسائل الإعلام وهم يصفون صناع المحتوى الذي يعتقدون أنه هابط بأنهم مجرمون. كيف قرر الضباط أن صانع محتوى يرقص هو مجرم؟ وما جريمته؟”، يتساءل الشاب العراقي نور مضيفاً أنه “قانونياً لا يمكن لوزارة الداخلية فرض القوانين وهذه مهمة القضاء وحده، لكنه غير قادر على التحكم. كما أن الأذواق مختلفة والمحتوى الذي تقرره اللجنة هابطاً قد يكون عند الآخرين ممتعاً، إنها مجرد وسيلة للسيطرة على الرأي العام”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عصر القمع الذهبي
وكانت وزارة الداخلية العراقية وعبر المتحدث الرسمي باسمها خالد المحنا أعلنت أنها تلقت 96 ألف بلاغ من مواطنين حول ما وصفته بـ”المحتوى الهابط” على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أقل من أسبوع على انطلاق المنصة. ومع ذلك لم تكشف الوزارة عن سقف زمني محدد للحملة أو عن حصيلة واضحة للاعتقالات التي نتجت منها.
وفي ما يتعلق بمعايير تحديد “المحتوى الهابط” اكتفى المحنا بالإشارة إلى أن الحملة تهدف إلى “تصحيح المسار وتشجيع المحتوى الإيجابي، وإرسال رسائل تعكس ماهية المجتمع العراقي والوجه الحقيقي للشباب العراقي”. ونفى المتحدث أن تكون الحملة قيدت حرية الرأي داخل البلاد، مؤكداً أن “جميع الحريات مكفولة بموجب الدستور العراقي”.
وفي المقابل، رأى المحامي والناشط المدني سليم الموسوي أن “الحملة ضد المحتوى الهابط ليست فقط قمعية، بل عشوائية”. واستشهد باعتقال علي حسن المعروف بلقب “عبود سكيبه” الذي اعتُقل فقط لأنه يتحدث بلكنة إنجليزية دون اللغة.
وعبود عامل بناء من إحدى أقضية محافظة ميسان جنوب العراق، عُرف بتقديم مقاطع فيديو فكاهية بلغة لا يتقنها. وأثار اعتقاله موجة تضامن واسعة بين آلاف المدونين الذين طالبوا بإطلاق سراحه، مما أدى إلى الإفراج عنه بعد يوم ونصف اليوم نتيجة ضغط مجتمعي كبير.
وتباينت الآراء حول سبب اعتقاله، فبعض يرى أنه جاء بسبب تصويره للواقع العراقي إذ كانت مقاطع الفيديو التي ينشرها تظهر شوارع غير مبلطة تعكس افتقار المنطقة للخدمات، وهو ما عُدَّ ترويجاً -ولو بصورة غير مباشرة- لهذا الواقع، فيما رأى آخرون أن محتواه “لا قيمة له” أو “غير مفيد”. وخرج عبود من السجن دون أن يعرف سبباً لاعتقاله.
ويقول الموسوي لـ”اندبندنت عربية” إن “الحملة غير قانونية إطلاقاً لأنها تتنافى مع الدستور العراقي أولاً ومع مادة مبادئ الديمقراطية التي كفلها الدستور ثانياً ومع مادة حرية الرأي والتعبير ثالثاً، ولا وجود لأية مادة قانونية صريحة يمكن الاستناد إليها لتنفيذ الحملة. كما أن عشرات قضايا الاعتقال والسجن لا تصل إلى مواقع التواصل الاجتماعي، لأن غالب المعتقلين لا يمتلكون جمهوراً واسعاً ومنهم المطربون في الملاهي الليلية، كما أن بعضهم يتعرض للتهديد في حال قرر التحدث”. وأضاف “ما يحدث هو بث للرعب لا أكثر وتطبيع على الخنوع للسلطات. وبعض المعتقلين اضطروا إلى تقديم اعتذارات علنية وأغلقوا صفحاتهم قبل أن يصلهم الدور. ولم أجد أي مبرر منطقي لاعتقال شخص بسبب طبيعة مقاطع الفيديو التي ينشرها”.
ومن جهتها، عمدت وزارة الداخلية التي لا يفترض أن تكون معنية بهذا النوع من القضايا إلى تنظيم مهرجانات واحتفالات ضخمة بموازنات هائلة لتكريم أصحاب “المحتوى الهادف”. ولفت الموسوي إلى أن غالب المكرمين هم ممن يروجون لحياة مثالية عبر صفحاتهم، حياة لا تشبه الواقع العراقي بأية صورة من الصور. الأمر أشبه بشراء ذممهم لضمان أن شريحة كبيرة من متابعيهم ستتأثر بما ينشرونه من تمجيد وتلميع لصورة الدولة، أو في الأقل التغاضي عن كوارثها، والدفاع عنها”.
النساء المستهدف الأبرز
“تروج الدولة العراقية للتمييز والطبقية بصورة صارخة في حملة المحتوى الهابط” بحسب الباحثة الاجتماعية ماجدة الكبيسي، إذ إن “جميع المعتقلين في السجون غالباً ما ينتمون لمناطق سكنية معدمة أو أنهم يفضحون الحقيقة التي تخفيها الحكومة، كالحديث عن الخراب والعشوائيات والجوع والبطالة التي تطاول مجتمعاتهم، لكن وزارة الداخلية تكرم في مهرجاناتها أشخاصاً يملكون المؤهلات والشهادات ولهم وضع معيشي ممتاز، ويمثلون ’العالم المثالي‘ المليء بالمطاعم الجميلة والشوارع القليلة المبلطة في المدينة. وبدلاً من محاولة احتواء الشرائح المهمشة التي وجدت منفذاً صغيراً من خلال السوشيال ميديا للعيش والعمل، تعمد الدولة على إنهاء وجودهم وإقصاء أصواتهم”.
وأشارت الكبيسي إلى أن “الضغط الذي تتعرض له النساء في هذا السياق يكون مضاعفاً، إذ يُستهدفن خصوصاً بسبب دعم السلطة للممارسات الابتزازية بحقهن، وصولاً إلى التهديد المباشر بالتبليغ عنهن سواء للاعتقال أو حتى القتل، إذا تصرفن بطريقة لا تناسب قوالب المجتمع”. وأضافت أن “من بين قصص تحطيم النساء، قضية ’أم فهد‘ التي قُتلت لاحقاً، لكنها قبل ذلك بأشهر كانت دخلت السجن بتهمة المحتوى الهابط”. وتوضح الكبيسي أن “سبب اعتقال أم فهد كان نشرها مقاطع فيديو تظهر فيها بملابس وُصفت بأنها خادشة للحياء، إضافة إلى رقصها على أنغام موسيقى عراقية”.
“أما البلوغر هديل خالد المعروفة باسم “أم اللول” فكانت أيضاً هدفاً لهذه الممارسات، وبعد اتهامها بنشر المحتوى الهابط تم الانتقال إلى تلفيق تهمة تجارة المخدرات لها، مما أنكره محاميها وقال إن الاعتراف سُحب منها بالقوة. كما هناك صانعة المحتوى “زينب بنت الديوانية”، التي اعتُقلت بعد ظهور جزء من جسدها عن غير قصد أثناء بث مباشر على تطبيق “تيك توك”. زينب التي تعيش في ظروف قاسية وسط مكب للنفايات لا تجد قوت يومها وتنشد المساعدة باستمرار، دون أن تلقى أية استجابة”.
من جهة أخرى، ترى الباحثة الاجتماعية أن منصة “بلغ” تعاني نقصاً واضحاً في الشفافية في شأن الشكاوى والإجراءات المتخذة، وغالباً ما يظل الأفراد غير مدركين لوضعهم القانوني حتى لحظة اعتقالهم. وأدت المنصة إلى تشجيع الإبلاغ بين الأفراد مما زعزع الثقة الاجتماعية وقمع التنوع والآراء المختلفة، وحوَّل النقاش العام إلى حال من الخوف والترهيب وبخاصة تجاه النساء.
وفي تصريح سابق، أكد رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق فاضل الغراوي أن “نسبة 50 في المئة من النساء داخل العراق يتعرضن للعنف الرقمي والتنمر والابتزاز الإلكتروني والاتجار بالبشر إلكترونياً”.
واستنكرت أخيراً مجموعة من المنظمات المعنية بحقوق الإنسان استمرارية المنصة والحملة منذ عامين في قمع الحريات الفردية وعملها كأداة مراقبة عامة لا تختلف عن الممارسات البعثية، التي تجرمها الدولة في مناهجها وتعدها ديكتاتورية. وشاركت منظمات عدة في البيان، منها منظمة “سيمكس” وشبكة “أنسم” ومنظمة “أكساس ناو”، ومركز الخليج لحقوق الإنسان، وغيرها.
نقلاً عن : اندبندنت عربية