“لم يرزق بلد في الشام ما رزقته صيدنايا من السعادة والحظوة، ليس في الشرق فقط بل والغرب أيضاً، بما اشتهر عنها من أخبار المعجزات والغرائب في كنيستها الكبرى المعروفة بكنيسة السيدة”، هكذا كانت توصف صيدنايا في كتب التاريخ. وقبل النزاع المسلح الذي دار في محيطها عام 2011 كانت منطقة صيدنايا تستقبل كل عام أكثر من مليوني حاج مسيحي بحسب الإحصاءات، واليوم خرجت مدينة المعجزات والحاضرة المسيحية الأعرق في المشرق العربي من دوائر البحث الأولى على محركات البحث لتحل مكانها عناوين تندرج بمجملها تحت اسم “سجن صيدنايا”، فهل صيدنايا هي ذاك السجن المشؤوم فحسب؟

بلدة مأهولة بالحضارات

صيدنايا بلدة صغيرة على سفوح جبال القلمون شمال شرقي العاصمة دمشق وتبعد منها نحو 30 كيلومتراً، وتمتد سهولها شمالاً حتى سلسلة جبال لبنان الشرقية، وتنتشر على تلالها ومحيطها عشرات الكنائس والأديرة والمقامات، وتضم واحداً من أهم الأديرة المسيحية في العالم.

وهي مأهولة بالسكان منذ القرن السادس قبل الميلاد في الأقل، عندما كانت تعرف باسمها الآرامي “دانابا” (Danaba)، إذ تشير الآثار الباقية من الكهوف والأماكن القديمة في صيدنايا وحولها إلى أنها كانت مأهولة بحضارات مختلفة من العصر الحجري المبكر، مع وجود قطع أثرية من العصور الآرامية واليونانية والسريانية والرومانية والعربية، وبني فيها عبر التاريخ عديد من الكنائس والأديرة الكاثوليكية والأرثوذكسية الشرقية والسريانية الكاثوليكية والسريانية الأرثوذكسية.

 

ونظراً إلى موقعها الجبلي المحمي إلى حد كبير تمتعت صيدنايا بالسلام الديني طوال تاريخها حتى في أوقات الحروب، وعلى ارتفاع 2000 متر على قمة أعلى جبل في صيدنايا يتموضع دير الشاروبيم (Cherubim) مطلاً على سهول دمشق الخصبة وجبال لبنان.

أصل التسمية

اتفق علماء السريان على أنها لفظة آرامية الأصل كأكثر نظرائها من أسماء القرى والبلدان في الشام مثل “صحنايا” و”داريا” و”بيت لاهيا” ولكن اختلفوا في توجيهها، فذهب المطران يوسف داوود إلى أن معناها “الصيداوي” واشتقها غيره من لفظة تعني “محل الأدوية والمستشفى”، ويعتقد أيضاً أن اسم المكان يعني السيدة الجديدة من الكلمة العربية “سيدة” (sayyida) واليونانية “nea” بمعنى جديدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتقول التقاليد المحلية إن صيدنايا تعني “مكان توقف الغزال”، كما كان هناك في العصور القديمة معبد لصيدون إله الصيد الفينيقي في هذه المنطقة التي كانت ذات يوم غابات كثيفة، وبالعموم ترتبط كلمة صيد “sayd” بالصيد، و”naya” هي لاحقة مكان نموذجية في اللغة السريانية، لذلك ربما تعني صيدنايا ببساطة “مكان صيد” ولعل هذا الرأي هو الأظهر لإمكان استناده على قصة سنأتي على ذكرها عند الحديث عن الدير.

مكانة دينية خاصة

الحقيقة أنه لم تتعدد الكنائس في بلد من بلاد الشام ولا احتفلت فيه الأبنية الدينية احتفالها في صيدنايا، وبحسب كتاب “خبايا الزوايا من تاريخ صيدنايا” الصادر عام 1932 فإن هذه المعابد كلها على وفرتها لا يدرى أحد لها تاريخ بناء وإنشاء، لكن أكثر ما ورد في كتب التاريخ هو أسماؤها، وحتى عددها لم يستطع أحد تحديده بدقة فهناك بعض من الكنائس مهجور وآخر متهدم وبعضها عامر، وإذا جمعنا هذه الكنائس كلها بين عامرة وخربة فقد بلغت 23 مع الإشارة إلى أنه لا يزال عدد منها مجهولاً، فقد روى السائح الروسي بارسكي أن مجموع الكنائس في صيدنايا عام 1728 بين عامرة وخربة كان 40 كنيسة، لكن أكثرها لم يكن في الواقع إلا مصليات صغيرة أو هياكل منقورة في الصخور لا يصلى فيها إلا قليلاً أو مرة في العام.

لكن بغض النظر عن صغرها أو قلة اتساعها فإن هذا القدر الكبير الذي لم تدركه مدينة أخرى في الشام كاف للدلالة على المكانة والشهرة التي بلغتها صيدنايا بين مسيحيي الشرق والغرب.

كنيسة بطرس وبولس

من كنائسها العامرة كنيسة القديس ديمتربوس إلى جانب مقام الشاغورة والقديس تادورس وكنيسة السيدة وهي الكنيسة الكبرى في الدير، والقديسة بربارة إلى جانب المدخل شمالاً والقديس نيقولاوس والقديس جاورجيوس وهذه الكنائس الست للروم الأرثوذكس، أما كنيسة القديسين بطرس وبولس المعروفة بكنيسة اللولبة وكنيسة القديس موسى الحبشي بجوارها وكنيسة القديسة صوفيا أو “آجيا صوفيا” التي تعرف أيضاً بكنيسة المجامع، فهذه الكنائس الأربعة كلها للروم الكاثوليك.

 

وما يستحق أن يفرد بالذكر بين هذه الكنائس والأديرة السابقة وأولاها بالتنويه بعد كنيسة السيدة هي كنيسة بطرس وبولس التي تقع في الجهة الشرقية من البلدة القديمة، وكانت في السابق معبداً وثنياً مربع الشكل مبنياً من حجارة ضخمة منحوتة ومرصوفة ببراعة، وتحول هذا المعبد في زمن الرومان إلى برج مراقبة أطلق عليه اسم البرج المربع، ويعد هذا الصرح أقدم منشآت صيدنايا الباقية من أيام الوثنيين وأتمها حفظاً وأرسخها موقعاً ومكانة، ولكن ليس فيه أقل كتابة أو أثر يستدل منه على تاريخ بنائه أو زمن تحوله إلى كنيسة.

المحج الثاني

يتموضع دير سيدة صيدنايا على قمة تلة صخرية ويشبه بناؤه قلاع القرون الوسطى في سوريا، وبحسب المصادر فقد بناه الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول (يوستيانوس) خلال القرن السادس الميلادي عام 547، ويمتلك مرتبة دينية كبيرة كأقدم وأعرق مؤسسات الرهبنة الأرثوذكسية في العالم، إذ يعد المحج الثاني بعد كنيسة القيامة في القدس من ناحية القدسية والمكانة بالنسبة إلى المسيحيين.

 

وتتكون الكنيسة من مجموعة أقبية وقاعات حجرية تعلوها ثلاثة أبراج تحمل أجراس الكنيسة، ويعد مقام الشاغورة القسم الأهم في دير السيدة، وتحفظ فيه أيقونة السيدة مريم العذراء “الأم المقدسة والطفل”، وهي إحدى النسخ الأصلية للأيقونات الأربع التي رسمت بيد الرسول لوقا الإنجيلي، وتلقب بالسريانية “شاغورة” ومعناها المعروفة أو الذائعة الصيت، ويعتقد أنها تحمي أصحابها من الأذى في أوقات الخطر.

رؤية السيدة مريم

تقول الروايات إن الإمبراطور البيزنطي يوستنيانوس بنى الكنسة عام 547 ميلادية تنفيذاً لوصية السيدة العذراء ووفقاً لتصميمها الذي وضعته له على الأرض بعد أن رأى رؤيتين لمريم، واحدة تشير إلى مكان بناء الكنيسة والأخرى تحدد تصميمها. ووفقاً للتراث جاء الإمبراطور جستنيان الأول إلى هذه الصحراء أثناء عبوره سوريا مع قواته، وهناك رأى الإمبراطور غزالاً جميلاً فقام بملاحقته حتى تعب الغزال وتوقف على تلة صخرية مقترباً من نبع ماء عذب، لتتحول فجأة إلى أيقونة للسيدة العذراء تتلألأ بنور ساطع، ثم امتدت يد بيضاء من هذه الأيقونة وقال صوت “لا، لن تقتلني يا جستنيان، بل ستبني لي كنيسة هنا على هذا التل”. وبعد عودته روى جستنيان ما رآه لمرؤوسيه وأمرهم على الفور بوضع مخطط للكنيسة التي يعتزم بناؤها، لكن بعد محاولات عدة عجز المعماريون عن حل مشكلات المخطط إلى أن ظهرت له العذراء القديسة (الغزالة) في الحلم وعهدت إليه بخطة رائعة لبناء دير للراهبات تكون هي حاميته، وورد عدد من الروايات عن حالات شفاء معجزية بعضها موثق كتابياً من قبل أولئك الذين شهدوها عبر التاريخ، واعتقاداً من أهل البلدة وسكانها بهذه التسمية اتخذ مجلس البلدة في صيدنايا من صورة الغزالة شعاراً ورمزاً وثبت صورتها فوق باب المجلس.

نقلاً عن : اندبندنت عربية