اقتبس الكاتب السوري فكرته عن رواية “وادي الفوضى” لفريدريش دورينمات (1921-1990)، ففي آخر روايات الكاتب السويسري صور عبرها حياة منتجع خيالي تحكمه شخصية الأب الكبير وتسوده جرائم القتل والاغتصاب والسرقة، في إطار من المرح والعبث والسخرية لا تخلو من توجيه النقد الى العالم الرأسمالي الذي تتحكم شركاته بمصير البشر في أدق تفاصيل حياتهم.
ويروي العرض السوري “منظمة مارس- مديرية المسارح” حكاية لاعب كرة قدم يدعى باسل أنيس (زين العابدين شعبان) الذي يجري إنقاذه في اللحظة الأخيرة من براثن أسماك القرش بعد غرق قارب مطاطي كان يقله مع مجموعة من المهاجرين، فيفقد باسل قدمه الاصطناعية في هذه الحادثة إلا أن وكالة شؤون ضحايا السفن الغارقة التي يترأسها بطرس عنان (غزوان البلح) تطالبه بتقديم أجور إنقاذه، ولكن الشاب لا يملك المال وعليه أن يضحي بأحدى كليتيه لقاء هذه الخدمة.
رئيس الدائرة رفقة مساعدته الطبيبة سارة (نور سليمان) يكتشفان أن الشاب لا يملك إلا كلية واحدة وهي تعاني أيضاً فشلاً مرتقباً، في حين أن معظم أعضاء جسده تشكو هي الأُخرى اضطرابات صحية معقدة، وفي هذه الأثناء تحضر الآنسة لارا (سيدرا جباخانجي) على وجه السرعة ويتضح أنها مندوبة شركة عالمية لإنتاج الأعضاء الاصطناعية، فتطالب بتسلم باسل أنيس كأحد زبائن شركتها الذين تأخروا عن دفع أقساطهم الشهرية، ورويداً رويداً نعرف أن باسل أنيس هذا كان تعرض لحادثة سير وقامت الشركة بتركيب أعضاء اصطناعية له.
شريحة إلكترونية
بداية يرفض بطرس تسليم باسل لمندوبة الشركة لكنها تقدم مبلغاً مالياً كرشوة لرئيس الدائرة فيتخلى عن مريضه، ويرفض باسل الإذعان لطلب مندوبة الشركة وعندها تخرج الأخيرة جهاز تحكم وتقوم بالضغط على أزاراه، لنكتشف أن الشركة قامت بزرع شريحة إلكترونية داخل جسد زبونها الشاب، وهي تستطيع عبرها أن تتحكم بدماغ مريضها وشبكته العصبية، وأن تولد نبضات مرعبة من الألم بطريقة تجبر الزبون المتخلف عن الدفع على الإذعان لرغبة الشركة ووكيلتها الحسناء، ويرافق ذلك صوت استغاثة أحد الغارقين على الشاطئ، ولكن لا أحد يكترث لطلب النجدة، فأسماك القرش تتكفل بابتلاع كل من يغرق على سواحل البلاد التي لا يذكر العرض مكاناً لها، في حين يقرر باسل أنيس أن يرمي بنفسه مجدداً إلى أسماك القرش بعد أن يفقد الأمل بالنجاة.
خاتمة العرض تبدو متشائمة لكنها في المقابل تدفع بطل المسرحية الى أن يصبح وجبة لأسماك القرش على أن يكون عبداً للشركات الدولية العابرة للجنسيات، ففي الوقت الذي تصبح بعض منظمات العمل الإنساني رهينة هي الأخرى للفساد الوظيفي وتحكم رؤوس أموال الشركات فيها، يصبح الإنسان عبارة عن خردة قابلة للابتزاز وإعادة التدوير.
ولا يخفي مخرج العرض وكاتبه مقولتهما التي تقدم رؤية تشاؤمية عن واقع العمل الإنساني، وتبدو المعالجة الفنية التي قدمها “حياة باسل أنيس” أقرب إلى ملهاة ساخرة يسودها العبث والشعور باللاجدوى، إذ تطل المسرحية على منطقة مجهولة من معاناة اللاجئين السوريين، ولا سيما الذين لاقوا حتوفهم غرقاً وتحولوا إلى طعام لأسماك البحر المتوسط.
صحيح أن العرض يهرب من وحدتي الزمان والمكان ويتخذ من اللغة العربية الفصحى حواراً لشخصياته الأربع، إلا أنه ناقش بجرأة مصائر المهاجرين وكيف يستغلون للترويج السياسي والإعلامي، مما يطرح كثيراً من الأسئلة المسكوت عنها، ولا سيما التي تتعلق بقوانين ناظمة لأعمال الإغاثة ومساندة اللاجئين من دون أن يقعوا ضحايا الابتزاز والبيروقراطية.
هكذا تتحول حياة نجم من نجوم كرة القدم إلى لاجئ بأعضاء اصطناعية، ففي الوقت الذي يجري استغلال هذا الرجل من اتحاد كرة القدم في بلاده، تسعى منظمة إنسانية إلى التخلص منه بأبخس الأثمان ومن ثم تتركه يواجه مصيره الغامض، مثله مثل كثير من اللاجئين الغرقى الذين يكتفي رئيس دائرة شؤون ضحايا السفن الغارقة بتلاوة الصلاة على أرواحهم، فرئيس المنظمة الدولية يعاني هو الآخر فقدان الدعم والتمويل والعمل في ظروف قاسية بعد ازدياد عدد الغرقى من المهاجرين غير الشرعيين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن فقدان أي من مقومات العمل الإنساني صورة تعكس بؤساً مضاعفاً لحياة إنسان الألفية الثالثة، وتعلن دق جرس الإنذار للقادم من الأيام، وقد تخلى الفنان محمد حميرة عن الديكور الواقعي نحو محاكاة لهيكل سفينة تحمل شارة منظمة الصليب الأحمر، ويمكن مشاهدة دفة قيادة للسفينة المتخيلة من دون أن تكون لها وظيفة تذكر، أما الديكور فكان رمزياً بهذا المعنى لكن في المقابل يمكن ملاحظة دور الإضاءة والمؤثرات الصوتية (إياد عساودة وعماد حنوش) في إغناء الفضاء وجعله يبدو أقرب إلى أجواء البحر.
وكذلك أسهمت أصوات الموج وهدير محرك الطائرة العمودية وكل ما يتصل بعمليات إنقاذ تجري بقرب المياه الدولية في كسر إيهام متعمد لتجسيد مكان متخيل وناء، والعمل على ملء فضاء اللعب بحركة مختزلة وذات دلالات عدة، خصوصاً في مقدمة خشبة مسرح القباني، المكان الذي أحاله مخرج العرض إلى حافة خطرة لعالم تحيط به أسماك القرش من كل حدب وصوب.
وفي المقابل تمكن أداء الممثلين الأربعة، على تفاوته في ما بينهم، من تجسيد قصة العرض ودفع الأحداث نحو تشويق هادئ، مما عكس تمايزاً بين شخصيات “حياة باسل أنيس” جعل التوجه العام للأداء يذهب نحو بعض التكلف واستجداء الشفقة، وقد بذل بطل المسرحية زين العابدين شبعان جهداً كبيراً في أداء دوره، ولا سيما في طي قدمه السليمة طوال زمن العرض (50 دقيقة)، والتوكؤعلى عكازين خشبيين استخدمهما كجناحين متخيلين وهو يغادر آخر مشهد من حياته الشاقة.
نقلاً عن : اندبندنت عربية