الاكتشافات الكبيرة قليلة ونادرة هذا العام في مهرجان برلين السينمائي (الـ13 إلى الـ23 من فبراير / شباط)، أفلام كثيرة سقطت في فخ الثرثرة والإسفاف، وعانت المشاهد الرتيبة والخلو التام من أي بريق. ومع ذلك حملت المسابقة إلينا بعض العناوين المثيرة، من بينها “طفل الأم” للمخرجة النمسوية يوهانا مودير، فيلم يضعنا في قلب عمل تشويقي طوال ما يقارب الساعتين من دون أي إحساس بالملل، فخيوط السيناريو مشدودة والمخرجة تجيد إدارة لعبة الإثارة حتى اللحظة الأخيرة بأعصاب من جليد.
الحكاية عن زوجين، مع التركيز على الزوجة يوليا (ماري لونبرغر)، موسيقية أربعينية تفوقت في مسيرتها المهنية، ولكن ينقصها شيء واحد لتكتمل السعادة: طفل. وبما أن الزوجين يعانيان خللاً يمنعهما الإنجاب، يستعينان بعلاج لدى أحد المراكز المتخصصة في هذا الشأن. في الختام، تضع يوليا مولودها تحت عناية مباشرة من الدكتور صاحب المركز، ولكن يؤخذ منها المولود فوراً، لتتسلمه بعد ساعات، بحجة أنه يعاني نقصاً في الأوكسيجين. وعوضاً من أن تغمرها السعادة، تنتكس حالة الأم النفسية كثيراً، بعد شعورها أن الطفل ليس طفلها. هناك حالة من الانفصال الشديد عنه تزداد يوماً بعد يوم، لا أحد يعرف ما سببها. هل استبدل الطفل؟ ماذا الذي حدث عندما أبعد عنها؟ لماذا لم يبك عند الخروج من رحمها؟ أسئلة عدة تدور في رأس الأم وتنتقل لتدور في رؤوس الجمهور تدريجاً، قبل أن يتحول الموضوع إلى هاجس، جاعلاً من حياتها كابوساً لا ينتهي.
الفيلم بهذه البساطة، يحمل هوية الأفلام الألمانية الحديثة، إذ كل شيء منمق ومدروس والمشاعر مسيطر عليها. تقارب المخرجة مسألة مهمة هي مرحلة ما بعد الإنجاب عند المرأة، والتروما التي قد تتعرض لها بعد وضع مولودها. هذه من المرات النادرة التي قد يكون إسناد قصة مثل هذه المخرجة، مبرراً، فالمرأة وحدها قادرة على فهم مثل تلك الأحاسيس عند امرأة أخرى، علماً أن المخرجة نفسها أم لولدين، وهي استلهمت الأحداث من تجربة شخصية. وكم ودت أن تروي هذه القصة انطلاقاً من قناعتها بأن القصص المروية تأتي بانطباعات لا تمس إلى الواقع بصلة، فالإنجاب وتحول الزوجة إلى أم ليسا بالضرورة كما تصورهما الأفلام.
كلما تقدم الفيلم البارع تنفيذاً والغني بصرياً (امتنعت المخرجة عن تصوير السيارات لـ”بشاعتها”، كما تقول)، وجدنا أنفسنا في مزيد من الضياع، لدرجة قد يتساءل الواحد منا إذا كان للطفل وجود أصلاً، أم أن القصة برمتها ليست سوى كابوس طويل، وها أن الأم ستستيقظ من الأحلام المزعجة لتعود لحياتها السابقة. هكذا أرادت مودير فيلمها يرتكز على خلط الأوراق، فتتشابك وجهات النظر حتى أن الجمهور لا يعرف من يصدق، في انتظار مفاجأة قد تغير المعادلة.
باختصار، هذا عمل مثير، حافل بلحظات “تضليل” سينمائي، تهدف إلى صناعة التشويق الذي يخدم في النهاية القصة، ويفتح المجال للمشاهد أن يتفاعل مع ما يراه ويأتي بتأويلاته الخاصة، خصوصاً أن بعض الجوانب في الفيلم لن تحظى بشرح وتفسير.
“بلو مون”
من الأفلام التي كانت منتظرة بشدة في مسابقة الـ”برليناله” هذا العام وشاهدناه أمس في عرضه الأول هو “بلو مون” للمخرج الأميركي الشهير ريتشارد لينكلايتر الذي لديه معجبون كثر حول العالم، لكونه أحد أبرز الأصوات التي تأتي من خارج هوليوود، ويروي حكايات أميركية من صميم مجتمعه. هذه المرة، يترك شخصيات ثلاثيته “ما قبل” الأشهر وقصص فيلم “صبا” الذي كان عرضه هنا في برلين قبل سنوات، ليتوجه إلى الماضي، وتحديداً إلى الـ31 من مارس (آذار) من عام 1943، اللحظة التي ينطلق منها ليضعنا في “مواجهة” محببة مع كاتب الأغاني الأسطورة لورنز هارت (1895 – 1943)، أي قبل ستة أشهر من رحيله وهو لم يكن يتجاوز آنذاك الـ47.
نتعرف عليه وهو جالس في بار يترجى النادل ليعطيه مزيداً من الكحول مما يساعده في البوح وفي تجاوز محنته الوجودية، ساعياً على الدوام إلى رد الاعتبار لنفسه، كأحد أبرز المساهمين في صناعة المسرح الميوزيكالي الأميركي، لا سيما أن أغانيه، كثيراً ما عكست حياته الشخصية المضطربة. نكتشف طوال ساعة ونصف ساعة تفاصيل حياته المهنية والعاطفية، وهي تفاصيل تحضر على لسانه. نكتشف أيضاً انعدام ثقته بنفسه، بينما يحتفل زميله السابق ريتشارد روجرز بعرض الافتتاح لعمله “أوكلاهوما”! بحلول نهاية هذه الليلة، يكون هارت واجه عالماً لم يعد يقدر موهبته كما يجب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول ريتشارد لينكلايتر عن هارت أنه “على الأرجح أعظم كاتب أغاني أميركي، كلماته وموسيقاه ستظلان إلى الأبد”. ويتحدث عن السياق الذي تجري فيه الأحداث، بالقول: “هذا فيلم عن الفراق. كان زميله روجرز انتقل جزئياً إلى الأمام بعدما حقق “أوكلاهوما!” نجاحاً هائلاً، ولكن كانت هناك أقاويل عن احتمال إعادة التعاون مع هارت. هذه كانت بداية النصف الثاني من مسيرة روجرز، التي كانت بالفعل رائعة، لكنها وصلت إلى آفاق غير مسبوقة. أما هارت، فهو مثل الشخص الذي أهمل. كثيراً ما قاربنا الفيلم باعتباره عن الفراق، ولكن بدلاً من أن يكون بين عشيقين، فهو بين فنانين. هناك حب بينهما، لكن هناك أيضاً استنفاد أحدهما من الآخر”.
من شدة إعجابه بهارت، خصص لينكلايتر فيلماً كاملاً عنه، والأفضل قبل دخول الصالة التأكد من أنك ترغب فعلاً في معرفة كل شيء عن هذا الشخص. فالفيلم، فضلاً عن أنه أميركي جداً في الشؤون التي يتناولها، ما هو سوى الجلسة “العلاجية” لفنان في نهاية حياته، بعدما أصبحت أمجاده خلفه، لدرجة أنه يسعده أن يتذكر فتى توصيل إحدى أشهر أغنياته وهي “بلو مون”. لا استعادة باهظة الثمن هنا لحقبة ماضية، فكل ما احتاج إليه لينكلايتر حانة يحتسي فيها هارت مشروبه المفضل، فنرحل معه إلى الأربعينيات، زمن الحرب العالمية الثانية الذي يبدو أقل “هموماً” من اليوم. وبالتأكيد، ما كان لهذا الفيلم أن يخرج في هذا الشكل، لولا الممثل إيثان هوك في دور هارت الذي يأتي بواحد من أفضل الأداءات في حياته.
نقلاً عن : اندبندنت عربية