<p class="rteright">معتقل سابق في أحد سجون دمشق يظهر علامات التعذيب على جسده، إدلب 14 ديسمبر 2024 (أ ف ب)</p>
لم تمر الذكرى السنوية للإعلان عن حقوق الإنسان هذا العام كاحتفال عادي اقتصر على بعض من يعرفون هذا اليوم، فالـ10 من ديسمبر (كانون الأول) الجاري جاء بانتصار للإنسانية مع تحرير المعتقلين والسجناء السوريين بعد سقوط نظام بشار الأسد، وكتب كثر يقولون إنه يكفي هذه الثورة وهذا السقوط أنه حرر المعتقلين من ظلام السجون.
وتصدر معتقل “صيدنايا” العسكري إضافة إلى سجون أخرى المشهد الإعلامي على مدى أيام وما زال صداه يتردد عند كل تفصيل، فالمسلخ البشري بحسب وصف منظمة العفو الدولية أظهر من الحالات الوحشية التي تعرض لها المعتقلون والسجناء ما لا يستطيع عقل بشري سوي تقبله.
وفي هذا السياق قال تقرير منظمة العفو الدولية خلال الفترة ما بين ديسمبر 2015 والشهر نفسه من عام 2016 في شأن نمط الانتهاكات المرتكبة في سجن “صيدنايا” العسكري وتسلسلها وحجمها، إن سجن “صيدنايا” العسكري هو المكان الذي تقوم الدولة السورية فيه بذبح شعبها بهدوء. ويشكل المدنيون الذين تجرأوا على مجرد التفكير في معارضة الحكومة الغالبية الساحقة من الضحايا. وجرى منذ عام 2011 إعدام آلاف الأشخاص خارج نطاق القضاء في عمليات شنق جماعية نُفذت تحت جنح الظالم محاطة بغلاف من السرية المطلقة. وقتل آخرون كثر من المحتجزين في سجن “صيدنايا” جراء تكرار تعرضهم للتعذيب والحرمان الممنهج من الطعام والشراب والدواء والرعاية الطبية، ودُفن قتلى “صيدنايا” في مقابر جماعية.
الأهالي بين نارين
أجرت المنظمة في سياق تحقيقاتها مقابلات مع 84 شخصاً ممن تعرضوا للتعذيب أو من عائلاتهم، وعلى رغم محاولات المنظمة التواصل مع السلطات السورية بوسائل مختلفة، معبرة لها عن قلقها إزاء هذه الانتهاكات الخطرة فإن الأخيرة صمَّت الآذان إلى أن أتى فجر الثامن من ديسمبر الجاري وفر الأسد هارباً، تاركاً وراءه فظائع نظامه على مدى أعوام خلت، وأبرزها المساجين الذي خرجوا بالآلاف من سجون عرفها السوريون وسمعوا بها، وأخرى فوجئوا بوجودها وبخاصة تلك التي أقيمت تحت الأرض.
ومع فتح الإقفال وتعالي أصوات تدعو من احتجزوا في الداخل إلى الخروج لأنهم الآن أحرار بعد سقوط الأسد، فإن كثيراً من المساجين وقفوا مذهولين مما يسمعونه وآخرين لم يستوعبوا ما الذي يحدث في لحظة خاطفة من الزمن، أما أولئك الذين فقدوا كثيراً من قدراتهم العقلية إثر التعذيب الذي تعرضوا له في الداخل فلم يفهموا ما الذي يحدث وماذا يجب أن يفعلوا. وبينما مشى كثير من الرجال على غير هدى كانت النساء اللاتي سجن وعذبن واغتصبن وأنجبن أطفالاً في السجون يخرج بعضهن على مضض، فإلى أين السبيل؟
ولابد أن معظم السجناء أصبن بصدمة وخوف على اختلاف حالاتهم، وتعرض كثر ممن فتحوا السجون للانتقاد بسبب طريقة خطابهم التي لم تراع حال السجناء، وعن هذا تقول الاختصاصية في علم النفس والأستاذة في جامعة “البعث” في حمص داليا السويد “هذا الخوف سيكون موجوداً حتى لو دخل من حررهم بأية طريقة كانت”.
اليوم، بعد أن أطلق سراح الجميع يواجه المجتمع السوري تحديات كبيرة مع هذه الشريحة التي تحتاج إلى تضافر الجهود وإعادة التأهيل وبخاصة الأهالي، إذ يقع على عاتقهم عبء التعامل الأول مع أبنائهم المحررين، وسيواجهون تحديات جمة أهمها بحسب داليا “أنهم سيكتشفون أن أمامهم أشخاصاً لا يعرفونهم بالمعنى الحرفي للكلمة، فالأم التي لم تر ابنها منذ 15 أو 30 عاماً أو أكثر لم يعد الشخص نفسه الذي كانوا يعرفونه سابقاً، مما سيخلق صعوبة كبيرة للأهالي الذين سيبقون في حيرة وارتباك من أمرهم حول كيفية التعامل مع أشخاص هم حالياً مختلفون عمن عرفوهم سابقاً”. وتتابع “كما سيقع الأهالي بين خيارين أحلاهما مر، الأول أن يتعاملوا مع المعتقل على أنه شخص طبيعي وهذا تصرف غير صحيح لأن من خرج من المعتقلات أشخاص تعرضوا للأذى الجسدي والنفسي القاسي، كاضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب والقلق وغيرها كثير، لأن السجن يعد بيئة خصبة لتفاقم الاضطرابات النفسية. والثاني هو التعاطف معهم إلى حد الشفقة وهو ما يمكن أن يؤذي المعتقل”.
أولوية الأمن والانتماء
بما أن لكل معتقل قصة وتفاصيل خاصة به فإن التعامل معه يختلف من حال إلى أخرى، فهناك من خرج وما زال يتمتع بقواه العقلية وهناك من ظهر أنه فاقد لهذه القدرات، وهذا بحسب الاختصاصية يحمل الأهالي مسؤولية أكبر بكثير، إذ لا توجد قاعدة عامة تطبق على الجميع وإنما لكل حال طريقتها في التعامل. وهنا تشير داليا إلى وجود نقطة مشتركة على جميع الأهالي اتباعها مع ذويهم، فتقول شارحة إن الشخص الذي اعتقل لفترة طويلة ليس لديه أي إحساس بالأمن أو الانتماء، وهذه من أهم الحاجات الإنسانية بحسب ما يوضحه “سلم ماسلو” للحاجات الإنسانية، “لذلك على الأهالي من دون استثناء أن يكونوا المصدر الذي يشبع هذه الحاجة عند أبنائهم المعتقلين، ويجب أن يشعر هذا الشخص أنه ضمن عائلته وأنه آمن ومقدر ومحبوب ومنتم لهذه العائلة”.
وعند سؤالها عن التشخيص الأولي لمشاهد المعتقلين، قالت “يظهر عليهم بصورة واضحة أن لديهم PTSD وهو اضطراب ما بعد الصدمة، وأهم أعراضه أن الشخص تعاوده أحداث الصدمة التي عاشها، فحتى من خلال متابعة شهادات لمعتقلين خرجوا قبل سقوط الأسد ذكر أحدهم أنه ما زال يشم رائحة السجن العفنة والقيح على رغم أنه خرج منذ أعوام، وكذلك ذكرت معتقلة أنها في كل يوم تذهب فيه للنوم ترى في منامها الأحداث التي تعرضت لها داخل السجن، وثالثة قالت إن أصوات المساجين الذين كان يتم تعذيبهم ما زالت تطن في أذنيها، وكلها أعراض تدل على أن الإنسان لديه اضطراب ما بعد الصدمة”.
وفي كتابه “الرعاية النفسية” يتحدث مأمون مبيض عن بعض الخطوات التي يستطيع من خلالها من يوجد مع المعتقلين التعامل معهم بطريقة أكثر فاعلية وإفادة. وبرأيه فإن من يحاول أن يعين المصاب على التكيف الفعال مع الصعوبات والأزمات التي مر بها وما زال يمر بها بعد إطلاق سراحه، فإن هذا الأمر يتطلب نوعية جيدة من التواصل والحوار بين الطرفين، وأن يتعاملا معاملة الكبير الناصح مع مثله وليس كمن يعامل طفلاً صغيراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتحدث مبيض عن بعض الملاحظات العملية في التعامل مع السجين المطلق سراحه، فيقول “أولاً يجب بناء علاقة حميمية صادقة مع المصاب وأن يحرص المساعد والأسرة على إقامة علاقة من الاحترام والثقة والمحبة، من خلال التأني بإعطائه الوقت الكافي للتأقلم البطيء والمتدرج مع الحياة من جديد، ويجب أن يشعر المصاب بعدم استعجال الآخرين له وإنما إشعاره عملياً بأن يأخذ وقتاً يطلبه للتكيف من جديد، ويتم ذلك من خلال الحديث الهادئ معه والاستماع إليه من غير مقاطعة حديثه أو استعجاله في الحديث عما مر به خلال الأعوام، والتأني كذلك في إخباره بما حدث في أسرته ومجتمعه والعالم أثناء غيابه، وعدم الإكثار من كمية المعلومات المقدمة إليه دفعة واحدة، كما لا بد من الاستماع إليه بحرارة وانتباه وإشعاره أنك تأخذ الأمر بجدية واحترام، وانتظاره عندما يسكت أثناء حديثه ليلتقط أنفاسه أو ليسترجع ذكرياته أو ليتكيف مع مشاعره وأحاسيسه”.
خطوة أولى للتقبل
ويتابع مبيض “ثانياً على المساعد الاستماع والإصغاء إذا شعر المصاب برغبة في الحديث عما جرى معه، فيفيد الاستماع إليه ومساعدته على البوح بما في صدره من دون استعجاله، لأن هذا يريحه ويساعده على فهم واستيعاب ما جرى، ويمكن للمساعد أن يحاول أن يعيد للمصاب ما سمعه منه، هذا الاستماع يساعد المصاب على تفهم وتقبل ما حدث معه”.
أما الخطوة الثالثة بحسب مبيض، فهي “التطمين وفهم المشاعر، فمن المهم طمأنة السجين بأنه ستنتابه بين الحين والآخر مشاعر عميقة وربما متصارعة متضاربة، وأنه قد يفهم بعضها كمشاعر الغضب وغيره، وقد لا يفهم بعضها الآخر أو يجد صعوبة في الحديث عنها، فيطمئن عندها أن ما يشعر به هو عبارة عن مشاعر إنسانية طبيعية كرد فعل لأحداث وظروف غير طبيعية مر بها مثل الاعتقال والسجن والتعذيب، وأن هذه الظروف غير الطبيعية يمكن أن تنتج عند كل إنسان آخر ما أنتجته عند السجين من مشاعر وأحاسيس، وبهذا الفهم يبدأ السجين يعذر نفسه ويسمح لها أن تشعر بحقيقة بما يمر به، وتعبر عن نفسها بصورة طبيعية ومفهومة”.
ويضيف صاحب كتاب “الرعاية النفسية” ملاحظة مهمة هي أن “الإنسان الذي سجن لأعوام عديدة قد ينسى كثيراً من الأمور الاعتيادية اليومية التي قد لا ينتبه إليها أحد في الحالات الطبيعية، فمثلاً إذا شعر الواحد منا بالرغبة في كأس من الشاي أو اشتهى بعض الطعام فما عليه إلا التوجه إلى المطبخ ليأكل أو يصنع كأساً من الشاي، وإذا رغب بالاغتسال أو التبول فما عليه إلا أن يتوجه إلى الحمام، ولكن حتى هذه الأمور الحياتية البسيطة ينساها الإنسان بعد أعوام السجن والحرمان من حريته، فلا يعود قادراً على التصرف الطبيعي والعفوي ونجده لا يستطيع فعل شيء من هذا من دون طلب الإذن. لذلك فهو يحتاج بعض الوقت ليعود فيتأقلم مع الحرية الجديدة، ويتكيف مع قدرته على التأثير في الأحداث من حوله، وتحقيق رغباته الذاتية من دون طلب الإذن من أحد”.
نقلاً عن : اندبندنت عربية