لم تمنع الحرب الشعواء من أن تحتل لجنة تفكيك نظام الـ30 من يونيو (حزيران) 1989، التي أمرت الوثيقة الدستورية في أغسطس (آب) 2019 بتوافق الأطراف السودانية على أن تدار بها الفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، واجهة الأخبار في الأسبوع الماضي.
وعادت اللجنة خبراً شغل الناس بعد حلها أو تجميدها وإلغاء كافة قراراتها بعد انقلاب العسكريين على الحكومة الانتقالية في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021. فخرج مقدم الشرطة عبدالله سليمان، العضو السابق باللجنة، في بث مباشر ليقول، شهادة للتاريخ بفساد اللجنة واستئثار أعضائها وأحزابهم بالأموال والأصول التي استردتها اللجنة ممن اتهمتهم بالفساد من أعضاء حكومة الإنقاذ وحزبها (المؤتمر الوطني). ووقع خبر فساد اللجنة للإنقاذيين والفلول، على جرح. فها قد شهد شاهد من أهلها بأن الثورة كانت عكارة سياسية قام بها نصابون بلا وازع. وساء خبر العقيد أنصار الثورة واتهموا دوافعه للخروج بـ”افتراءاته” عليهم، ورتبوا لندوة لدحضها تحدث فيها وجدي ميرغني من قوى الحرية والتغيير وحزب البعث العربي الاشتراكي، الوجه المقدم فيها.
والمقدم قصة شقية في عاصفات السودان منذ الثورة. وكان تعرض إلى ظلم كثير نتيجة عمله باللجنة. فكانت تقدمت وداد بابكر، زوجة الرئيس المخلوع عمر البشير، ببلاغ ضده لتصويرها لدى مثولها للتحقيق أمام لجنة التفكيك ونشر صورها على الملأ. وأوقفته رئاسة الشرطة عن العمل. ولكن سحب البلاغ لعدم كفاية الأدلة ولم ترفع الشرطة مع ذلك عنه الإيقاف عن العمل. وجرى اعتقاله بعد انقلاب أكتوبر 2021 ولم يطلق سراحه في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه كغيره من معتقلي تلك الفترة. وأحيل إلى التقاعد في التاسع من ديسمبر 2021 ضمن كشف صادر عن الفريق الركن عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة. ولم يطلق سراحه حتى ولا بالضمان لتهمة جديدة في مواجهته في بلاغ تحت المادة 177 (2) خيانة الأمانة.
واتهم المقدم مبارك أردول، مدير وزارة الموارد المعدنية السابق، بأنه من كان وراء البلاغ بخيانة الأمانة لأنه كان من كشف انتفاعه الشخصي من معاملات مالية في وزارته. وأشار بإصبع الاتهام إلى البرهان بأنه كان من حرض على اعتقاله وإيقافه. وكان البرهان في البادئ مستاء من أداء العقيد في لجنة التمكين حتى إنه قال للشرطة، في رواية المقدم، “عندكم مقدم ما قادرين عليه ولا شنو؟”. وأرجع غلظة الشرطة معه إلى أنه لاحق مدير الجمارك وشركة “كوشاي” الشرطية، وقيادات أخرى بالشرطة بتهم الفساد. وظل في الحبس حتى يوليو (تموز) 2022.
وجاء وجدي في مباراة الرد على المقدم بعرض لتكوين اللجنة لينفي عنها التصرف في أي من الأموال والأصول التي تستردها للدولة. فاللجنة التي نشأت وفق المادة الثامنة من الوثيقة الدستورية، تشكلت من 18 عضواً خمسة منهم من قوى الحرية والتغيير التي قادت الثورة، و18 عضواً مثلوا مجلس السيادة والقوات المسلحة و”الدعم السريع” والاستخبارات والشرطة ووزارة المالية وبنك السودان ووزارة العدل والمراجع العام ووزارة العمل. وقال إنه لم يمر فيها قرار بحق متهم بالفساد إلا بالإجماع. وترفع لجانها الولائية والفرعية بمؤسسات الدولة التي التزمت نفس تمثيل الكيانات ونسبها في اللجنة المركزية، توصياتها بما اتفق لها من تفكيك في ميدان عملها إلى “مقررية” تكونت من المدنيين من (قحت) في اللجنة المركزية لمناقشته. فإذا اتفقت المقررية مع رأي اللجنة الفرعية أو المصلحية رفعته توصية للجنة المركزية بكامل عضويتها. ومتى أجازتها صارت قراراً للتنفيذ. وما حجز القرار الصادر عن اللجنة المركزية مالاً أو عقاراً أودع في وزارة المالية في حساب فتحته الوزارة في بنك السودان باسم “الأموال المستردة”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويذهب العقار لمسجل الشركات بنفس الوزارة. ثم قامت في وزارة المالية لجنة لإيداع الموارد المستردة هي “لجنة الأموال والأصول المستردة”. وقد تسترد اللجنة أموالاً وأصولاً تودعها الوزارة ذات الاختصاص. فقد استردت اللجنة أموالاً وأصولاً من جمعية دينية تصرفت في أراضي الوقف من دون حق فردتها إلى وزارة الشؤون الدينية والأوقاف. وقال وجدي، إنه حتى مال تسيير اللجنة المركزية ولجانها مودع في حساب فتحته وزارة المالية في بنك السودان يوقع المراجع العام وديوان الحسابات بالمالية على أذون الإيداع والصرف. وعليه فلم يكن بين يدي اللجنة مؤسسياً مالاً ليختلسه أعضاؤها.
لا يعرف المرء إن كان دفاع وجدي هذا سيغني شيئاً بعد صمت اللجنة المحير طوال الأربعة أعوام منذ حلها، و”شطب قراراتها بالأستيكة”، في قول أحدهم، بأحكام لمولانا محمد علي بابكر أبوسبيحة من فوق منصة القضائية. وحتى وجدي اعترف بأن شغلهم في لجنة التمكين ظل في براثن حملة للإسلاميين أنفقوا عليه أموالاً وصفها، تفكها، بـ”المستردة”، أي تلك التي حجزوها هم عن الفلول ليستعيدوها بعد انقلاب 2021. فصارت جراء كل ذلك سردية لجنة التفكيك من وضع خصمهم السياسي وبتوقيعه. وجاءتهم شهادة المقدم ربما بغير حاجة شديدة لها منهم. واعترف وجدي بأنهم قصروا في الإعلام عن أداء لجنتهم للجمهور وهو ما لم يعترف به في الورش التي انعقدت لتقييم أداء لجنة التمكين بعد القضاء على الحكومة الانتقالية في 2021. فقال، “ما كنا بنوري الناس. عملنا لجنة إعلامية للغرض وفشلنا. كنا نعتقد أن الإعلام عن اللجنة والمعلومة عن شغلها هو شغل قوى الحرية والتعبير. لم تنعقد أي ندوات للتوعية بعملنا. فشلنا في التواصل مع القاعدة والجماهير”.
أطال وجدي في الرد على ما أشاعه خصومه عنهم. وخص بالرد المطول نوعاً ما كلاً من جبريل إبراهيم وزير المالية وقتها ولا يزال، ومني أركو مناوي والي ولاية دارفور، اللذين جمعتهما معارضة دولة الإنقاذ ثم فرقتهما الثورة. ومعلوم عن جبريل أنه لم يكن في قرارة نفسه مقتنعاً بمبدأ التفكيك عن طريق اللجنة الدستورية المتفق عليها. ولكن بدا من وجدي أنه أعفى من المؤاخذة حلفاءه في قوى الحرية والتغيير على أنه رماهم، كالحاضنة السياسة للثورة، بالإهمال في حراسة اللجنة إعلامياً لينصرفوا هم لأداء واجباتهم. وهذا قول ثقيل.
ومع ذلك لم يقتصر عيب (قحت) على إهمالها التوعية بعمل للجنة التي كانت في عين عاصفة المتضررين منها والإسلاميون بعامة، بل ربما كان نكير دوائر من قحت على اللجنة أنكى وأشد.
فلم تمتنع دوائر من الثوريين عن التوعية بعمل اللجنة فحسب، بل اعتزلتها أيضاً. ولم تعتزلها فحسب، بل أقامت لجنة ضراراً لها أيضاً. فأصدرت جماعة من وجوه القلم والرأي في 16 سبتمبر (أيلول) 2021 مذكرة مهرها بالتوقيع 163 منهم رتبت لقيام هيئة مستقلة لمحاربة فساد دولة الإنقاذ استدبرت بها لجنة تفكيك تمكين نظام الـ30 من يونيو 1989 استدباراً صريحاً. فدعت المذكرة إلى “تفكيك حيوي” للفساد بتشكيل “مفوضية حقيقية لمكافحة الفساد بحسب المعايير العالمية، وبسلطات كاملة، وبعضوية شخصيات نزيهة ومستقيمة وعادلة”. فالإيحاء هنا لا ريب أن اللجنة القائمة غير حقيقية، ولا تحتكم إلى معايير عالمية، ولا سلطات لها كاملة، والأعضاء فيها غير نزيهين ولا مستقيمين ولا عادلين. واستبقوا إجازة الدولة لمفوضيتهم بتزكية الصحافي الاستقصائي عبدالرحمن الأمين لرئاستها. والمعلوم أنه على خصام سافر وغير سافر مع لجنة تفكيك التمكين. فسفر مثلاً بقوله إن كل ما يصدر عنها “هو عبارة عن تخدير لا أكثر ولا أقل”.
وجاءت المذكرة هكذا صريحة باستبدال لجنة التمكين. فلم تذكرها مجرد ذكر بتاتاً وإن طاعنتها هنا وهناك. وستجد أن مفهوم المذكرة لمفوضية الفساد هو نفسه المفهوم الذي من وراء لجنة تفكيك التمكين. فجاء في المذكرة وجوب تفكيك “مافيا الفساد” التي تشكلت في ظل نظام الإنقاذ وتعيق الانتقال الديمقراطي. وهو ما كانت تقوم به لجنة تفكيك التمكين في إطار تفويضها بتأمين التحول الديمقراطي من شرور هذه المافيا العائدة للإنقاذ. فرتب أهل المذكرة لاستبدالها بمفوضية محاربة الفساد مما أوقعهم غير محتسبين في خرق الوثيقة الدستورية التي قضت بتكوين لجنة لتفكيك نظام الإنقاذ سياسياً واقتصادياً وكادراً في نفس الوقت الذي دعت فيه لقيام مفوضية لمحاربة الفساد تختص بفساد المرحلة الانتقالية وما بعدها. وسبق لدوائر سياسية في اليمين واليسار أن دعت، وقد تحرجت كل بسببها من أداء لجنة التفكيك، إلى الإسراع بتكوين مفوضية الفساد قطعاً لطريق لجنة التفكيك القائمة وحكماً عليها بالموت، ولكن عن سكات.
واستحق ذلك النزوح الجماعي لمثل تلك الطائفة النادرة بين الثوريين عن صف لجنة التمكين وقفة لا يزال من مثل وجدي. فالراجح ربما أنهم أنفسهم مج عقلهم اللجنة من فرط إحداق الفلول والعسكريين بها من كل صوب وطلبوا الثورية في غيرها. فصاروا في مضرب القول الذي ينعى على طلب المرء ما أضاعه في مكان مضيء في حين كان فقده في مكان معتم.
ولكن ما يحز في نفس المرء حقاً هو استثمار الإسلاميين المبالغ فيه في نبأ المقدم سليمان في النيل من لجنة إزالة التمكين. فهرولوا بالنبأ لا يلوون على شيء في الوسائط عن هذا الشاهد الذي شهد على أهله. ولم يتحر حتى صحافيون منهم أو من غيرهم عن صحوة ضميره التي طالت أربعة أعوام قبل أن يدلي بشهادته عن مفاسد لجنة التمكين للتاريخ كما قال. وللعميد تظلمات من الشرطة وغير الشرطة خلال عمله في لجنة التمكين عرضنا لها دالة على أنه تمتع بولاء استثنائي للجنة ووظيفتها طوال ما كان عضواً فيها. فكيف لمثله أن يخلص في منشط اللجنة ومكرهها يحارب الفاسدين يمنة ويسرى بينما ينخر الفساد بيئة لجنة التمكين التي هو فيها!
جاء لصف الجيش في هذه الحرب جماعة كثيرة ممن استوحوا ثورة ديسمبر 2018 في قرارهم. ويستغرب المرء كيف يريد الإسلاميون، كالجماعة المنظمة الوحيدة ربما في صف الجيش ليومنا، تعبئة الناس من كل فج للحرب العوان القائمة بينما يتربصون بالثورة كما رأينا يتبعون كل ناعق ضدها لا يسألونه على ما قال برهاناً. وهذا تنفير لا تبشير.
من أطرف ما يروى عن الإسلاميين مما له مساس بما عرضنا هنا حكايتهم مع ود الحسين القيادي في الحزب الاتحادي الديمقراطي. جاءه من يثق فيه من الإسلاميين يطلب منه أن يوظف نفوذه لتأمين انتخاب العميد عمر حسن أحمد البشير رئيساً للجمهورية في انتخابات انعقدت بعد عقد من انقلابه في 1989. فوافق ود الحسين وعمل جهده للغاية. ولكنه بدأ يسمع أن إسلاميين آخرين احتجوا على خلطته بهم وهو الذي لم يدخر وسعاً في إسقاط زعيمهم حسن الترابي حين ترشح للجمعية التأسيسية عن دائرة الصحافة في 1986. فغضب ود الحسين. وأضرب عن الشغل في انتخابات البشير. فجاءه من يستفسره الخبر. فقال له سمعت ما لا يرضيني. قيل له: ماذا؟ قال فيكم من استنكر عملي لانتخاب البشير لأنني أسقطت الترابي في 1986: “وشوفوا (انظروا). إنتو جيتو (أنتم جئتم) وقلت لي ساعدنا في انتخاب البشير. وقبلت بخاطر طيب. لكن والله لو الترابي ترشح تاني (مرة ثانية) عليّ الطلاق أسقطوا ليكم تاني (لكم مرة أخرى)”.
وهكذا عن تحالف كثيرين ليومنا مع الإسلاميين دعماً للجيش. ولكن لو كان أمرهم من الحرب تلميع الإنقاذ ودولتها فـ”عليهم بالطلاق” يسقطونها تاني.
نقلاً عن : اندبندنت عربية