قد لا تكون مسرحية “موليير” التي كتبها المسرحي الإيطالي كارلو غولدوني (1707-1793) أواسط القرن التالي للعصر الذي عاش فيه الكاتب المسرحي الفرنسي الكبير الذي استعار غولدوني اسمه عنواناً لتلك المسرحية، من أشهر أعمال صاحب “الفارس جيوكوندو”، و”مديرة اللوكاندا”، وغيرها من مسرحيات طبعت ذلك الزمن، لكنها بالتأكيد مسرحية عرفت كيف تثأر من الحياة المسرحية الفرنسية التي كثيراً ما سخرت من مجمل الإبداعات الإيطالية في ذلك المجال، ولا سيما خلال الحقب السابقة حين ازدهر المسرحي الفرنسي، كوميدياً مع موليير نفسه، وتراجيدياً مع راسين، وكورناي، ملقياً ظلال النسيان على “التهريج” الإيطالي الذي كان يسمى مسرحاً، وعمت شهرته وأعماله أوروبا كلها. ومن دون أن ندخل هنا في تفاصيل الحراكات التي قامت من حول نسف الفرنسيين نوع “الكوميديا ديلارتي” التي كانت فخر الصناعة الإيطالية قبل مجيء موليير، يمكننا أن نشير إلى أنه مع ظهور غولدوني، وعلى رغم أن كثراً كانوا ينظرون إليه باعتباره “موليير إيطاليا”، أحس الإيطاليون أنهم استعادوا اعتبارهم في المجال المسرحي بخاصة أن غولدوني لم يكن مبدعاً في هذا المجال ينتمي إلى “الكوميديا ديلارتي”، بل، بالتحديد، مبدعاً ينهج في الكتابة المسرحية نهج موليير نفسه. ومن هنا نراه حين يقدّم مسرحيته “موليير” التي توسطت مساره المهني، ينظر إليها ويتحدث عنها، بوصفها تحية منه لمعلمه الفرنسي الكبير على رغم أن كثراً من الإيطاليين، ومعظم الفرنسيين نظروا إليها غير تلك النظرة. نظروا إليها نظرتهم إلى عمل يهزأ من المسرحي الكبير الذي كان الفرنسيون، ولا يزالون، يعتبرونه من مفاخرهم القومية. فمن نصدّق يا ترى؟
يوم غضب لويس الـ 14
الحقيقة أن الإجابة على مثل هذا السؤال لن تكون على مثل تلك البساطة بالنسبة إلى المعنيين بالأمر من أبناء الزمن الذي ظهرت فيه المسرحية، وقدمت على الخشبات الإيطالية. ففي ذلك الزمن لم يكن من العادي أن يقدم كاتب على استخدام سلف له ينتمي إلى نوعه الإبداعي نفسه، خلال كتابته عملاً من الصنف نفسه. وهنا تحديداً نتحدث، طبعاً، عن عمل يسند إلى الشخصية السابقة الدور المركزي فيه، كما فعل غولدوني، ولا سيما إن كان العمل الجديد هزلياً هدفه الأساسي إضحاك المتفرجين، وعلى حساب السلف الذي هو هنا موليير نفسه. ففي هذه المسرحية، من الواضح، ومنذ البداية، أي منذ العنوان، أن الشخصية المحورية هي موليير (1622-1673) الذي كان قد رحل قبل ظهور المسرحية بنحو 80 عاماً، وهي بالطبع فترة زمنية يصبح الراحل في نهايتها جديراً بكل تكريم وأهلاً لكل احتفال. وهذا ما سيعلنه غولدوني حين فوتح بالأمر. لكنه لم يكن على أية حال دقيقاً في ما يؤكده كما سوف نرى. فكلامه كان فيه من الالتباس ما أنقذه مما سيسميه ناقد فرنسي لاحقاً “ورطة أخلاقية”، مضيفاً “لو كان موليير حياً لما جرؤ غولدوني على فعل ما فعله”. أما ما فعله غولدوني فلم يكن، على أية حال، أكثر من تخيّله الزمن الذي قدّم فيه موليير مسرحيته التي ستصبح الأشهر بين أعماله كافة، “طرطوف”، في عام 1664، والتي إن لم تكن من أهم أعماله من ناحية موضوعها ولغتها، فإنها كانت العمل الذي جلب عليه غضب الرقابة والكنيسة وصولاً إلى غضب الملك لويس الـ 14 الذي كان مأخذه عليه أن موليير كما يفعل غيره من الكتاب “يبالغون في استغلال الحرية التي يمنحها لهم فيوقعونه في مشكلات مع المجتمع، بل حتى مع الكنيسة هو في غنى عنها”.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بين الجدّ والهزل
الحقيقة أنه يشفع لغولدوني كون الموضوع الذي اختاره موضوعاً مشروعاً، وفيه حقاً نوع من التكريم والتحية للنضال الذي خاضه موليير بالفعل في سبيل تقديم “طرطوف” حتى من دون أن تشوهها الرقابة، ومن دون أن يقدم هو فيها أية تنازلات للقصر، لكن المشكلة أن غولدوني، ومن خلال ذلك الموضوع البالغ الجدية والأهمية، والذي سيقال لاحقاً إنه كان يريد أن يخوض هو من خلاله معركته الشخصية ضدّ السلطات الرقابية في بلاده، غولدوني عالج شخصية موليير نفسه كشخصية تهريجية فحطّ من قيمة المسرحي الجار الكبير، وأساء إلى ذكراه من حيث لا يعرف قائلو ذلك أكان يقصد ذلك أو لا يقصده. ففي نهاية الأمر لا بدّ من ملاحظة أن مسرحية “موليير” كما كتبها وقدمها تبدو وكأنها، في جزء طويل منها على الأقل، من أقرب مسرحياته إلى تهريج “الكوميديا ديلارتي”، هو الذي سيقال دائماً إنه دائماً ما تقصّد الابتعاد عن ذلك التيار خالقاً بديلاً محترماً له يتجلى في أفضل مسرحياته التي من خلال إمعانها في الكوميديا انغمست في نوع من مسرح اجتماعي واقعي أتى سابقاً لأوانه بالتأكيد. فهل ثمة في الأمر نوع من قتل فرويدي للاب: أي رغبة من غلدوني، ولو غير واعية، في التخلص من العبء الذي يمثله موليير بالنسبة إليه؟ طبعاً هنا أيضاً لن نحاول تفصيل الأسباب. ففي النهاية، لا تزال مسرحية غولدوني في انتظارنا لم نروِ بعد أحداثها، وإن كنا قد صرفنا فقرات طويلة للحديث عن معنى ما يدور فيها. فكيف تدور أحداثها؟
تجريد موليير من البعد السياسي
تدور الأحداث عشية التقديم الأول لمسرحية موليير “طرطوف” في فرساي تحت رعاية الملك، لكن ثمة مشكلات جدية تثار من حول ذلك التقديم. ولئن كانت المشكلات الحقيقية المعروفة تثار، كما أشرنا قبل سطور، كمشكلات سياسية تثيرها الرقابة مستجيبة لاعتراض الكنيسة، فإن ما يثار هنا إنما ناتج من غضب سيّد من سادة المجتمع هو الدون بيرلوني الذي يعتبر نفسه مستهدفاً من خلال رسم الكاتب شخصية المنافق “طرطوف”. ويتحرك بيرلوني هكذا مع مناصريه في محاولة منه لمنع تقديم المسرحية. في ذلك الوقت يكون موليير منشغلاً بغرامه الكبير بحبيبته إيزابيل، ولا يرغب في أن يشوّه أحد مسرحيته ولا غرامياته، ولا سيما والدة هذه الأخيرة التي تحاول منافسة ابنتها، فتخلق لموليير من المتاعب ما يتضافر مع المشكلات التي يسببها بيرلوني… غير أن الأمور سرعان ما تسوّى، على أفضل ما يكون، ومن خلال تدبيرات تليق عادة بالتهريج المسرحي الإيطالي، ذلك أن بيرلوني يجد نفسه، أخيراً، مسجوناً في قبو بيته ما يمنعه من مواصلة شكواه وإيصالها إلى المستويات العليا في القصر. وعلى ذلك النحو يتمكن موليير من تقديم مسرحيته كما كتبها بل حتى يتمكن فوراً من الاقتران بحبيبته.
صحيح أن كثراً بعد عرض المسرحية سيحتجون من جديد لكونها تنسف التاريخ الحقيقي لما صاحب تقديم “طرطوف”، لكن غولدوني سيقول إنه لم يكن ينوي تقديم التاريخ في مسرحيته. كل ما كان يريده إنما كان تقديم صورة من خلال كبير المسرحيين تعرض للجمهور معاناة المسرحيين ليلة افتتاح مسرحياتهم. ويمكننا اليوم أن نقول إنه لئن كانت نية غولدوني صحيحة فإنه نجح حقاً في ذلك، فكتب وقدّم مسرحاً داخل المسرح، ونجح في ذلك إلى حدّ كبير ولو على حساب موليير بأكثر من معنى: من ناحية تشويه تاريخ معركة سياسية حقيقية خاضها هذا الأخير وانتصر فيها، كما من ناحية أن الدور المرسوم له في المسرحية لم يكن بمستواه ومستوى مكانته المسرحية الكبيرة. ولكن ما العمل وغولدوني اختار أن يختبئ وراء ذلك كله ليقدم أمثولة مسرحية عن المسرح وصعوباته، ونجح في ذلك على أية حال؟
نقلاً عن : اندبندنت عربية