لا شك أنه سيكون من الإجحاف القول إن سينما التحريك المبنية أصلاً على فن الشرائط المصورة وحكايات الصغار والأبطال الخارقين وسوى ذلك من أساليب ومواضيع استوعبتها السينما الكبيرة، انتظرت حلول العقد الأول من القرن الـ21 قبل أن تفرض حضورها في عالم السينما النخبوية على غرار ما فعلت دائماً في عالم السينما الجماهيرية، ومع ذلك ثمة تاريخ يكاد يكون محدداً شهد فيه عالم السينما ثورة كبيرة نقلت السينما التحريكية من خانة السينما البسيطة الترفيهية لتصبح بحلتها الجديدة تياراً سائداً يمعن في مشاكسته. ولا يبتعد هذا التاريخ عن يومنا الحاضر كثيراً، إذ علينا أن نعود نحو عقد ونصف العقد إلى الوراء لنجدنا إزاء عرض فيلمين من النوع نفسه كان الإرهاص المؤسس لتلك الثورة، وهما “برسبوليس” للإيرانية المنفية في فرنسا مارجان ساترابي، و”آل سمبسون” الأميركي المأخوذ عن المسلسل التلفزيوني المعروف بالعنوان نفسه.

فن قائم في ذاته

إذاً، مضى قرن كامل على تلك الولادة، قرن تطور فيه فن التحريك، ليصبح اليوم فرعاً فنياً قائماً بذاته، وخصوصاً بعدما تمكن حتى من الاستيلاء على مواضيع كان معهوداً أنها “لا تنفع” إلا عبر التصوير الواقعي ووجود الممثلين والديكورات الطبيعية. وما الفيلمان اللذان نتحدث عنهما هنا سوى العملين اللذين رسما تلك الثورة. فللوهلة الأولى يبدو هذان الفيلمان وكأنهما، مثل معظم أفلام التحريك، موجهان إلى الصغار – بل إن صغاراً هم الشخصيات الأساسية في واحدهما والآخر – لكن نظرة ثانية سترينا أن كلاً منهما – على طريقته – ينتمي إلى سينما تتجاوز الصغار كثيراً، وأن الاثنين معاً يأتيان ليؤكدا من جديد كم أن فن التحريك هذا بات بعيداً مما كنا نعهده فيه، ذلك أن الفيلمين يغوصان في لعبة سياسية وأخلاقية، وفي أبعاد سلوكية من الصعب القبول بانتمائها إلى عالم الصغار. في هذا الإطار ليس “برسبوليس” و”آل سمبسون – الفيلم”، سوى النموذجين الأحدث على الاستقلالية الكبرى التي بات فن سينما التحريك يتمتع بها كوسيلة تعبير مستقلة، توصل تراكم الثورة التي تحدثنا عنها في هذا المجال، إلى ذروتها، شكلاً بالتأكيد، ولكن مضموناً أيضاً.

خصوصية على حدة
نقول هذا من دون أن يفوتنا أن نذكر أن لكل من هذين الشريطين خصوصية، لا بأس من القول توخياً للإنصاف، إنها أسهمت أصلاً في النجاح الذي حققه ويحققه، ذلك أن أياً منهما، ككينونة، لم يأتِ من فراغ، إذ نعرف أن فيلم مرجان ساترابي إنما هو الترجمة السينمائية التحريكية للكتاب المربع الأجزاء الذي كانت أصدرته بالعنوان نفسه، راسمة فيه بعض مسار سيرتها الذاتية في شرائط مصورة أسهم الوضع الإيراني في مدها بالنجاح اللازم. أما فيلم “آل سمبسون” فليس سوى نقل سينمائي لشخصيات تلك العائلة المرعبة المنفرة التي يتابع الناس عادة “مغامراتها” على الشاشة الصغيرة منذ سنوات وسنوات مدهوشين أمام العلاقات المرضية بين أفرادها واللغة اللئيمة التي تهيمن على تبادل الحوارات بين هؤلاء الأفراد. إذاً، في الحالين لدينا ممهدات للنجاح تأتي من خارج النجاح المتجدد لفن الرسوم المتحركة المعهود، وتحديداً من قدرة العملين على مخاطبة أوسع قطاع من الناس عبر مواضيع سائدة: إيران، القمع، البيئة، التفكك العائلي… إلخ، غير أن هذا يجب ألا يغيب عن بالنا لحظة تقديم أي من الفيلمين عبر وسيط سينمائي آخر سينما واقعية مثلاً، مما كان من شأنه أن يعطيه النجاح الذي حققه، ولا أن يجعل له ردود الفعل التي مكنته من أن يكون أشبه بثورة جديدة في عالم الفن.

الحلم الذي هوى
“برسبوليس” حكاية الحلم الذي هوى والطفلة المنفية. ومهما يكن من أمر هنا، فإننا لئن كنا قد تحدثنا كما تحدث غيرنا عن فيلم ساترابي مطولاً، ولا سيما بالنظر إلى حالته السياسية الخاصة، كفعل مناوئ لنظام إيران في عهد بلغ فيه التشدد ضد الفنون والحريات العامة حداً لا يطاق. وهو ما تصفه ساترابي في فيلمها على غرار ما فعلت في الكتب التي اقتبست الفيلم منها، فإن ما نراه مفيداً هنا إنما هو التوقف عند الفيلم الآخر، فيلم “آل سامبسون” بعض الشيء لقوته الإبداعية.
عائلة أميركية

“شاهد عائلتنا… عند ذلك ستشعر أن عائلتك بألف خير”… هذه العبارة أتت في ذلك الحين لتتصدر ملصق فيلم “آل سبمسون” الذي انطلق حينها معروضاً في صالات السينما في العالم منذ أسابيع محققاً مداخيل لم تكن تتوقعها حتى الشركة التي أنتجته. ومع هذا كان منطقياً أن يحقق هذا الفيلم نجاحاً كبيراً. ليس فقط لأنه فيلم تحريك، وبتنا نعرف الآن أن معظم أفلام التحريك التي تحقق على نطاق كبير، ينتهي بها الأمر إلى أن تصبح دجاجة تبيض ذهباً لأصحابها، بل كذلك لأن كثراً ينتظرون فيلماً عن هذا المسلسل التلفزيوني الذي يعد الأشهر في أميركا منذ سنوات ويشاهده عشرات الملايين. والحقيقة أن هذا الانتظار لم يكن تعبيراً عن أمنية أو رغبة، بل توقعاً لإنجاز مشروع أعلن عنه منذ سنوات… وصار مع الوقت أشبه بالبديهة بحيث إن السؤال لم يعد: هل ينجز؟ بل “متى ينجز؟”. وهو أنجز بالفعل قبل أشهر قليلة من عرضه بعد عمل على السيناريو ثم على الرسوم استغرق ما لا يقل عن سبع سنوات. ونذكر هنا أن السيناريو قد أعيدت كتابته عشرات المرات، أي ما يضاهي عدد المخرجين والرسامين الذين اشتغلوا على الفيلم.
جاءت النتيجة، في نهاية الأمر، باهرة حققت من حولها إجماع النقاد والمشاهدين. والأهم من هذا أن الاشتغال السينمائي على “مغامرة آل سمبسون” الجديدة هذه حقق رهاناً أساساً فحواه أنه كان مطلوباً بداية أن يأتي العمل السينمائي مختلفاً عن التلفزيوني، إنما من دون أن يشعر المشاهدون أنهم ابتعدوا كثيراً من عالمهم الأثير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نجاح رهان صعب
كان الرهان صعباً، لكنه نجح وصار لتلك العائلة المشاكسة المتنافرة اليوم فيلمها، لكن هذا الفيلم أتى كما لاحظ كل الذين عنوا به، لا سيما من بين الذين اعتادوا متابعة المسلس التلفزيوني أصلاً، مطلاً على مواضيع اجتماعية وسياسية في الوقت نفسه أي مواضيع تتعدى الإطار العائلي التناحري التقليدي الذي عرف البرنامج به. وذلك بالتحديد من خلال حبكة بيئوية توصل إلى النقد السياسي بالضرورة. صحيح أن لدينا هنا – كما في حلقات “آل سمبسون” التلفزيونية المعتادة، وكما في فيلم “برسبوليس” لمرجان ساترابي على سبيل المثال ولأن الفيلمين التحريكيين السياسيين قد عرضا في وقت واحد تقريباً – عائلة ومراهقين وتناحراً بين الأجيال، لكن الحبكة تدور حول ذلك الموضوع الذي لا يني يشغل بال الأميركيين منذ زمن: تلوث البيئة. وهكذا، في منطقة بحيرة سبرنغفيلد، نبدأ بجمعية “غرينداي” وهي على غرار جمعية “غرين بيس” الشهيرة التي تسعى إلى نشر أفكارها حول البيئة وضرورة الحفاظ عليها… لننتقل إلى التلوث، وقد قتل الناس، فإلى الجنازات، حيث الجد سمبسون تهيمن عليه رؤيا دينية تنذره بأن يوم الحشر مخيم فوق المدينة . وهكذا تدريجاً نجد نفسنا وسط هومير سمبسون وعائلته وابنته وبقية الشخصيات لتدور رحى مغامرة شديدة التهكم والحركة واللؤم، وصولاً إلى قنابل تنفجر وإرهاب يسود وما إلى ذلك… حتى تدخل الشرطة والترحيل إلى آلاسكا.
إنه في اختصار عالم من المغامرات ذات الخلفية السياسية والبيئية، عرف هذا الفيلم المشغول بعناية كيف يتسلل إليه، من خلال هذه العائلة التي لا شك في أنها اليوم أشهر عائلة في أميركا، وفي عمل يضيف إلى عالم سينما التحريك جديداً إنما غير مفاجئ… فاتحاً أمام هذا الفن آفاقاً رحبة تعد بأن سينما التحريك ستزدهر أكثر وأكثر خلال الأزمان المقبلة، سواء كان ذلك الازدهار كلاسيكياً، أو طليعياً، علماً أن “آل سمبسون” يجمع البعدين معاً، تماماً على غرار فيلم الإيرانية ساترابي الذي أتى متزامناً معه ليخطُوَا معاً خطوة جديدة على درب فن متجدد، وسوف يبدو مع مرور السنوات منذ ذلك الحين فناً في منتهى الخطورة أكثر وأكثر.

نقلاً عن : اندبندنت عربية