تشهد مدن وقرى عدة بولايتي الجزيرة والخرطوم عودة النازحين واللاجئين السودانيين إلى مناطقهم التي حررها الجيش، ولكن على رغم التفاؤل وسط العائدين بقرب نهاية الحرب وعودة الجميع إلى الديار واستئناف حياتهم الطبيعية، فإن تحديات كبيرة وكثيرة تواجه السلطات والعائدين إزاء صعوبة الواقع الذي ينتظرهم بالنظر إلى حجم الدمار والخراب والنهب الذي خلفته الحرب، في وقت تسابق فيه السلطات الزمن للاستجابة العاجلة لتأمين البيئة الملائمة للعائدين.
توسع وتسارع
وأكمل الجيش نهاية الأسبوع الماضي تحرير ولاية الجزيرة بالسيطرة على محلية الكاملين آخر محليات الولاية.
ومنذ فك الحصار عن مقر القيادة العامة في الخرطوم قبل نحو أسبوعين، شرع الجيش والقوات المساندة له في تطويق العاصمة، وتوغل في الأجزاء الجنوبية الشرقية للعاصمة، وبات على وشك دخول وسط الخرطوم بعد وصوله إلى منطقة الرميلة والمنطقة الصناعية.
وانطلقت منتصف الأسبوع الماضي من بورتسودان عاصمة ولاية البحر الأحمر وشندي بنهر النيل شمال السودان وسنجة وسط البلاد، أفواج العائدين إلى الخرطوم والجزيرة، فيما يشهد معبرا أشكيت وأرقين البريين تزايداً في عودة اللاجئين السودانيين من مصر بواقع 10 إلى 30 باصاً يومياً بحسب غرفة الباصات.
وشرعت قوات الشرطة في ترتيبات مباشرة عملها الأمني والخدماتي وفقاً لخطة أقرتها رئاستها بهدف الإسراع باستعادة خدماتها في كل المناطق المحررة.
وأوضح الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة، العميد فتح الرحمن محمد التوم، أن شرطة ولاية الجزيرة انتشرت في محليتي الكاملين وأم القرى بعد تحريرهما مباشرة.
وأعلنت شرطة الجمارك إعفاء الأثاث المنزلي رفقة اللاجئين العائدين من الخارج تسهيلاً لإعادة تأثيث منازلهم التي نهبت خلال الحرب.
استعدادات الجزيرة
في ولاية الجزيرة تفقدت اللجنة الأمنية مع لجنة الدعم والإسناد موقف عودة خدمات المياه والكهرباء والسلع الغذائية إلى المناطق المحررة وعمليات تعقيم المدينة.
وأكد والي الولاية المكلف، الطاهر إبراهيم الخير، لدى استقباله الأفواج الأولى من العائدين إلى مدينة ودمدني عاصمة الولاية منتصف الأسبوع الحالي، أن “القانون سيطبق على كل من أجرم في حق الشعب”.
وأعلن الخير عن احتمال عودة التيار الكهربائي بالولاية خلال الأيام المقبلة، على أن تكون الأولوية للمؤسسات الخدماتية والمستشفيات وإنتاج المياه.
وناشد مؤتمر الجزيرة الحكومة والمنظمات الإنسانية وأبناء الولاية الإسهام في إعادة مواطني الولاية من النازحين واللاجئين والبالغ عددهم 5 ملايين إلى ديارهم وقراهم.
الخرطوم تتهيأ
وفي الخرطوم أعلن الوالي المكلف أحمد عثمان حمزة، عن خطة لإعادة الإعمار وعودة الحياة الطبيعية واستدامة الخدمات وتأمين الولاية بإسناد من جهاز الاستخبارات العامة.
وتفقد الفريق إبراهيم جابر عضو مجلس السيادة الانتقالي، مركز خدمات المياه والكهرباء، مؤكداً دعم مجلس السيادة الانتقالي استعادة واستدامة تلك الخدمات في ظل الظروف التي فرضتها الحرب، ووجه بالشروع فوراً في إصلاح كوبري الـ”شمبات” الرابط بين أم درمان والخرطوم بحري الذي دمرته الحرب.
وقرر مجلس وزراء حكومة ولاية الخرطوم المباشرة ترتيبات استئناف الدراسة بكل المراحل بالولاية اعتباراً من الثلاثاء الـ11 من فبراير (شباط) الجاري، استناداً إلى تقرير لوزارة التربية والتعليم وتجربة قيام اختبارات الشهادة السودانية المؤجلة.
وأطلقت هيئة نظافة محلية الخرطوم بحري، حملة واسعة لنقل النفايات المتراكمة داخل الأحياء بمعاونة وتضافر الشباب من أبناء المحلية.
المرحلة الأصعب
في السياق يوضح المتخصص في التنمية المحلية، عبدالرؤوف خلف الله، أن فترات ما بعد الحرب وما تخلفه من آثار أمنية واقتصادية واجتماعية غالباً ما تكون هي الأكثر صعوبة وقساوة، مشيراً إلى أن واقع الدمار والخراب والنهب الذي خلفته حرب السودان يحتاج إلى أعوام لإعادته لوضعه الطبيعي، مما يحتم التعامل معه بمنهج غير تقليدي في هذه المرحلة، أساسه التكاتف الرسمي والشعبي بإجراءات إسعافيه عاجلة لترميم البنى التحتية.
وأشار خلف الله إلى أن العودة الواسعة المتوقعة بخاصة إلى ولايتي الخرطوم والجزيرة، ستشكل تحدياً ضخماً يؤدي إلى مزيد من تعقيدات الحياة، لأن القدر المتاح من الخدمات حالياً على رغم الجهود الحكومية لا يكاد يفي بمطلوبات الموجودين في تلك الولايات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المهمة الشاقة
لكن العائدين المدفوعين بالحنين والرغبة العارمة للرجوع إلى الديار، لا يدركون ولا يتصورون حتى الآن، وفق خلف الله، حجم الدمار الذي لحق بالبنية التحتية لمؤسسات خدمات الكهرباء والمياه والصحة والأسواق بولاية الخرطوم، وكذلك ما لحق ببيوتهم من دمار وباتت خالية من الأثاث وحتى الأبواب والشبابيك.
ووصف المتخصص في التنمية المحلية، خطة إعادة الإعمار وعودة الحياة إلى طبيعتها التي أعلنها والي الخرطوم بأنها ستكون مهمة شاقة ومعقدة وطويلة، يجب أن تتصدرها مسألة استعادة ضبط الأمن المتدهور ووقف الانفلاتات والسرقات والسطو المسلح، وذلك بسرعة انتشار الأجهزة الأمنية والمنظومة العدلية كمدخل لعودة أي نشاط آخر لأجهزة الدولة.
وتابع “سكان الخرطوم المتبقون من العالقين والمقدر عددهم بنحو 3.5 مليون مواطن لا يجدون الكهرباء والمياه والصحة، فكيف يكون الوضع إذا عاد كل السكان الـ11 مليوناً دفعة واحدة إلى العاصمة، مما يحتم مضاعفة الجهود وابتكار حلول عاجلة لتعويض المرافق الخدماتية التي دمرت أثناء الحرب”.
تدفقات وحاجات
على نحو متصل توقع الأمين العام للمجلس الأعلى للبيئة بولاية الخرطوم، بشرى حامد، أن تكون هناك تدفقات كبيرة لعودة المواطنين إلى مناطقهم وبيوتهم بعد الانتصارات المتوالية للجيش في ولايات البلاد الخرطوم والجزيرة وسنار والنيل الأبيض ودارفور وجزء من كردفان، مما يستدعي ترتيبات عاجلة لا تحتمل التأخير أو التأجيل تتعلق بتوفير الحد الأدنى الممكن من حزمة الخدمات الضرورية لاستيعاب مطلوبات الأعداد الكبيرة العائدة إلى الديار، وبما يسمح لهم بالوصول والدخول إلى منازلهم في القرى والمدن.
وشدد حامد على ضرورة توفير الخدمات الصحية العلاجية العاجلة بفتح المراكز الصحية والعيادات، وإعادة التيار الكهربائي وشبكات الاتصالات والإنترنت المرتبطة بكثير من الأنشطة الخدماتية، وتأمين إمدادات المياه لمصلحة للشرب ومعالجة مسألة مصادر الطاقة وحفر آبار جوفية بأسرع ما يكون، إلى جانب أهمية سرعة تمكين المزارعين من استئناف نشاطهم في زراعة المحصولات والخضراوات.
شح السلع
يعتقد أمين مجلس البيئة أن توفير السلع الاستهلاكية وفتح الأسواق من أهم التحديات بعد الدمار الهائل الذي طاول قطاع التصنيع الغذائي بولاية الخرطوم التي تتطلب الانطلاق من نقطة الصفر، فضلاً عن تحدي تهيئة المؤسسات التعليمية وفتح المدارس التي هي بحاجة إلى معالجات ولو بصورة جزئية.
وأشار حامد إلى الأهمية القصوى والبالغة لمسألة الأمن والتأمين، باعتبار أن المرحلة المقبلة ستكون مليئة بالتعقيدات الأمنية، نظراً إلى وجود عصابات متفلتة تروع المواطنين وتسطو وتنهب باستخدام السلاح.
وتابع “هناك مخاوف من عمليات انتقامية كردة فعل من جانب المواطنين المنهوبين تجاه من نهبوا ممتلكاتهم أو تعاونوا مع ‘الدعم السريع‘ في ذلك، نتيجة الغبن الشديد من وجود كثير من المسروقات في مناطق العاصمة العشوائية والطرفية، مما قد يدفع المواطنين إلى استردادها بالقوة، لذلك لا بد من التعامل مع هذا الواقع المحتقن”.
البيئة الحاسمة
لفت أمين مجلس البيئة إلى أن الخدمات البيئية تمثل التحدي الأهم في هذه المرحلة، مما يستوجب بصورة عاجلة توفير آليات للنظافة ونقل آلاف أطنان النفايات والقمامة ومخلفات وأنقاض الحرب ونفاياتها العسكرية والحربية الشديدة الخطورة، لتفادي مضاعفاتها الخطرة في ظل انهيار النظام الصحي.
لذلك يرى حامد ضرورة إجراء دراسات عاجلة لتقييم الوضع الراهن وحجم الدمار الكبير في كل القطاعات السكنية والصناعية والزراعية، ووضع خطط قصيرة وطويلة المدى لإعادة التأهيل تتضمن المشاريع المطلوبة والسعي إلى توفير التمويل لها، بخاصة في مجال البيئة للاستفادة من مستحقات السودان الدولية في هذا الجانب، لأن كل الدمار الذي حدث له علاقة بالبيئة.
الوضع استثنائي في الوقت الراهن وسط دمار غير مسبوق مما يتطلب، بحسب حامد، الاستعجال ومسابقة الزمن بنوع جديد من التفكير (خارج الصندوق) في التعامل معه، ويتطلب إنشاء جسم إداري ممتد له فروع بكل الولايات مثل إنشاء “مفوضية قومية لإعادة الإعمار” تضم منظمات ومتخصصين وأكاديميين وناشطين بمهمات محددة، لتكون مسؤولة عن إعادة الإعمار ومتابعته من جهة المشاريع والتمويل، وتعمل بالتنسيق مع الجهاز التنفيذي للدولة.
مقار بديلة
من جانبه نوه أستاذ الإدارة الحكومية في الجامعات السودانية، عثمان الزبير، بأهمية خلق هيكل إداري إشرافي قومي يهتم بإجراء الدراسات ووضع الخطط ولعب أدوار متناسقة بين كل مستويات الحكم في المركز والولايات، مع ضرورة حسن استغلال وتوظيف موارد البلاد في تأهيل الخدمات وإعادة الإعمار، وبخاصة معدن الذهب الذي أسهم في منع انهيار الدولة خلال الحرب.
وأوضح الزبير أن الأضرار الكبيرة التي تعرض لها القطاع السكني بالتدمير الكلي أو الجزئي تجعل كثيراً من منازل المواطنين في حاجة إلى إعادة تأهيل وتهيئة قد تستغرق فترة ستة أشهر في الأقل، متوقعاً أن يؤدي المجهود الشعبي والطوعي الدور الأبرز في تهيئة بيئة الأحياء والمنازل للعودة.
وبالنظر إلى الأضرار الكبيرة التي لحقت بمباني ومقار المؤسسات الحكومية، أوضح أستاذ الإدارة الحكومية أنها تحتاج إلى جهود جبارة حتى تعود لممارسة دورها من جديد، وربما تلجأ كثير من المؤسسات إلى مزاولة عملها من مقار موقتة إلى حين تأهيل مبانيها بالاستعانة بشركات متخصصة، مع ضرورة الرقابة منعاً للفساد الذي يرافق الحروب في هذا الجانب.
دمار وخسائر
ومنذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” منتصف أبريل (نيسان) العام الماضي، دُمر أكثر من 80 في المئة من المرافق الصحية، بتعرض نحو 150 مستشفى للتخريب ونُهبت إمدادات الدواء المركزية وسُرقت عربات الإسعاف بإجمال خسائر قدرت بنحو 11 مليار دولار في مختلف ولايات السودان.
وتضررت أكثر من 104 من مؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة، جراء التخريب والنهب والحرق في ولاية الخرطوم وحدها، فيما تعرض نحو 40 في المئة من مؤسسات التعليم العام للدمار منها أكثر من 1500 مدرسة تعرضت لدمار شبه كامل، بينما تعرضت النسبة المتبقية 60 في المئة لنهب بناها التحتية، وفقاً لوزارتي التعليم العالي والعام.
وشكلت صدمة الحرب ضربة كبيرة للاقتصاد السوداني، إذ خرجت معظم مصانع القطاع الخاص عن الخدمة، مما دفع البلاد إلى سد حاجتها من كثير من السلع عبر الاستيراد، مما أسهم بدوره في انهيار سعر صرف العملة الوطنية.
نقلاً عن : اندبندنت عربية