“من عمر الأرض أو حديث التكوين، من صلب الطبيعة أو من صنع الإنسان، متجذّرٌ في الأرض أو مرميٌّ أو محطّم، في الحجر حياة، على عكس ما قيل عنه، فهو يروي حكايات التكوين والأمكنة، وحكايات الناس الذين مروا به، احتموا به أو حاولوا تطويعه”. كتبت الفنانة غادة زغبي في بيان معرضها الذي يحمل عنوان “مناظر طبيعية برية”، وهو تأملات في طبيعة من الجماد من خلال الحجارة الموجودة في الطبيعة وطرائق تموضعها وهندسة أشكالها، حين تكون مهملة أو مجتمعة بعضها ببعض كعائلة على السواقي وفي مجرى النهر، أو مرمية على الأرض اليباب بغير نسق أو مرفوعة على سقالة أو مستوفة على طرق لا يمر بها أحد، تشرق عليها الشمس وينحني عليها الليل، وتظل أثراً شاهداً على خلاء الطبيعة وتحولات فصولها.
حياة الحجارة وموتها
يطرح معرض غادة زغبي تفكيكاً لمصطلح الطبيعة الجامدة، على اعتبار أن الحجارة ليست جسماً جامداً، بل راهناً مأساوياً تبوح بما لم يبح به الإنسان من الوحدة والقهر وعذابات التدمير. كما يطرح فكرة انقلاب مفهوم الحجارة عبر التاريخ، من ارتباطه الحضاريّ الوثيق بالبنيان والعمران والتشييد، إلى شاهد حيّ على مآسي الدمار وجرائم القتل والتهجير والنفي والإبعاد في “أركيولوجيا المعاصرة” أو في العصر الحجري الجديد، بالغ الهباء والقسوة. وما بين حياة الحجارة وموتها، يتراءى الخلاء سارحاً في الطبيعة كما يتراءى في مشهدية المقبرة الجماعية حيث الحجارة المقتولة كجثث مرمية بعضها فوق بعضها حتى يضيق بها الفضاء. لكأن غادة زغبي تعمل على التنقيب في المرئي من الطبيعة، وتدخل في لحمه إلى ما هو أكثر عمقاً وصمتاً ووحدة، وتأخذ الأشياء إلى ما بعد التداعي وما بعد الصمت، بتقشف لونيّ معبّر وقوي ونفّاذ. فكثيراً ما يكون خلاء البراري مكاناً لسماع الهواء الذي يصفر ولرؤية الطبيعة التي تترنم في العزلة.
في دراساتها ولوحاتها تصف لنا غادة زغبي أشكال الحجارة بملامسها وأحجامها وتكوراتها وتقاطعات خطوطها، بخدودها الوردية من لفحات الشمس. كثيراً ما تذوب معالم الأمكنة في انعكاسات ألوان الطبيعة على وجوه الحجارة حتى لتبدو كائنات بهيئاتها وطابعها الإنساني، مما يذكر بقول أرسطو “إن دراسة الطبيعة هي دراسة الإنسان”، فكيف إذا كان يصارع للبقاء. ذلك ما يظهر في الدلالات التعبيرية البادية في العلاقات اللونية، الآخذة إلى ألوان الفحم وطبقات الرمادي المعتم والأزرق الفاتح والأحمر الداكن. ففي جوٍّ يعبق بالحنوّ والشفقة يظهر ركام من الحجارة، كأجسام محطمة تملأ فضاء اللوحة حتى الاختناق، وأحياناً تبدو الحجارة وكأنها تنهض أو ترقد، مغطاة بلون المغرّة الصفراء أو بغبار الأرض أو بألوان الحداد الذي يخيم على فضاء المكان حيث يلمع ضوء فضيّ مسنون يكسر الظلمة، وتبرز قضبان الحديد العالقة داخل أحشاء الحجارة المقتلعة من بيوت مهدومة وأشياء أخرى متخفية بالظلال تخرج بدهشة من أمكنة مجهولة. ثمة أحجار مستوفة بعضها فوق بعض كأنها تركيب عشوائي لمنحوتة، يذكّر بمنظر تلال الحجارة التي يضعها العابرون على طرقات القرى، والصحارى والأمكنة النائية كعلامات على دروب السفر، كما تُظهر في إحدى لوحاتها الصخور الهائلة التي تتكسر على جبينها أمواج البحر، والأكثر غرابة هي الصخرة المرفوعة على سقالة منصوبة بين سهول الطبيعة وهي معلقة في الفضاء بلا رجاء.
الغرابة والقوة صفتان تلازمان مشاهد الفنانة، التي تنقلنا من أفخاخ الطبيعة بجمالها المستتب والأخّاذ إلى ما يثوي فيها أو يحرك استقرارها نحو الاضطراب والحذر. شيء من الخدر وحلاوة اللون وسطوعه بين الأثير الذي يتراءى في جوٍ ضبابي يكوّن المشهد الخلفيّ وهو مشغول بالخطوط والألوان التائهة في البعيد الزائل من المنظور. ما من منظور سويّ بالمعنى الواقعي بل ثمة خداع في تركيب المشهد الذي يفوح بجمال متخيل من الطبيعة. وريشة الفنانة متمكنة من الرسم والتلوين في آن واحد، ولديها أسلوبها الخاص في طرح موضوعها على بساطته القصوى، المتأتية من تجاربها السابقة في رسم معالم الأبنية المتصدعة في الأحياء البائسة الشاهدة على عنف الحروب. والفنانة في الحيرة ما بين الجماليّ والتعبيري الدراميّ، تجمع بينهما بسلاسة تتناسب مع عمر تجربتها الآخذة إلى نضج وتحكّم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ليست الطبيعة مبتغى غادة زغبي، بل الخلاء بمضاعفاته الإنسانية الذي تعبّر عنه الحجارة في كونها من أقدم موجودات الأرض، وصدى الأزمنة وأصل العصور التي سبقت الحضارات. والرسم هو اقتراب منها على سبيل المعرفة. بالطبع ليست رؤية الطبيعة وتفحصها بالعين المجردة للفنانة إلا مرحلة استفزاز للمخيلة وتنشيطها، لكن التسكع ما بين صخور تنورين وغاباتها إلى البراري النائية في سهل البقاع، كان يجعلها تعيش مع ذكريات بعيدة، حتى تدلّها عيناها على أهم الموجودات ألا وهي صخور الجبال والوديان، التي يعتبرها المفكر الفرنسي رينيه هويغ أنها من أهم “قوى الطبيعة”.
كيف مرت الحجارة في الخاطرة من دون أن تفكر بها من قبل. هكذا كلما دنت من نفسها كلما اتسعت مدارات رؤاها التي لا تتقصد أي إسقاطات على مخيلتها التي أخذت تستقر في الطبيعة البرية تحديداً حيث تظهر الحجارة على براءتها وأشكالها الخام المكونة من تلقائها. بعد حين غاصت أكثر في ثقافة الحجارة التي تطغى على يومياتنا كمفهوم معاصر ورسمتها وحدها في مشهدية مستبدة كاستبدادها في الواقع وكأثر وجوديّ دالّ على ضيق الأفق ومعضلات الحياة ومآسي الحاضر.
نقلاً عن : اندبندنت عربية