لا يوجد اتفاق عام بين الدول حول مفهوم غسيل الأموال، الأمر الذي يزيد من صعوبة محاولات مكافحة هذه الجرائم بخاصة على المستوى الدولي، فبعض الدول تأخذ بالمفهوم الواسع لغسيل الأموال، من حيث اعتبار العائدات المالية لكافة الأعمال الإجرامية طرقاً لغسيل الأموال، مثل تجارة وتهريب المخدرات وتجارة الرقيق والإرهاب والرشوة والفساد السياسي والبغاء وتجارة العملة والاختلاس وتجارة السلاح وتزييف النقود والتهرب الضريبي والتجسس والسرقة، وغير ذلك من الجرائم والأعمال غير المشروعة، في حين تأخذ بعض الدول الأخرى بالمفهوم الضيق، حيث تقتصر هذه العمليات على محاولات إخفاء العوائد المالية لتهريب المخدرات فقط من دون بقية الجرائم.

تعريفات

ويرى مختار رواية في كتابه “سبل مكافحة عمليات غسيل الأموال في دول الكاريبي”، أن عملية غسيل الأموال هي تلك الإجراءات التي تُتخَذ لإخفاء مصادر الأموال المحققة عن طريق غير مشروع، والعمل على إدخالها إلى الاقتصاد المشروع من خلال سلسلةٍ من عمليات التحويلات المالية والنقدية، بينما ترى مها كامل في بحثها عن عمليات غسيل الأموال، “أن عمليات غسيل الأموال هي ما يحاول من خلالها مرتكبو الجرائم المختلفة إخفاء حقيقة مصادر الأموال الناتجة من الأعمال غير القانونية وطمس هويتها بحيث يصعب التعرف على ما إذا كانت هذه الأموال في حقيقتها ناتجة من أعمال مشروعة أم لا”.
وأشار دليل اللجنة الأوروبية إلى عملية غسيل الأموال بأنها “عملية تحويل الأموال المحصلة من أنشطة جرمية بهدف إخفاء أو إنكار المصدر غير الشرعي والمحظور لهذه الأموال أو مساعدة أي شخص ارتكب جرماً لتجنيبه المسؤولية القانونية عن هذا الجرم”.
وفي الوثائق الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات فقد ورد أن “عملية غسيل الأموال تدفع بمن يعمل بتجارة المخدرات إلى إخفاء المصدر الحقيقي لدخله أو المورد غير المشروع، والقيام بأعمال أخرى للتمويه، وذلك كي يبدو وكأن الدَخل قد تحقق من مصدر مشروع”.

الظاهرة قديمة

ولا تعتبر ظاهرة غسيل الأموال ظاهرة جديد، بل هي قديمة قِدم الحاجة إلى إخفاء الثروات المتحصلة من أنشطة غير مشروعة، ويشير الباحث روفر ودوبي إلى أن “اصطلاح غسل الأموال يعود إلى عشرينيات القرن الماضي عندما قام أحد الممولين من المافيا بشراء العديد من الغسالات الأتوماتيكية والتي تعمل بإدخال النقود إليها. وكان في نهاية كل يوم يجمع دَخل هذه الغسالات ويضيف إليها الأموال القذرة”.
وترى كامل أن “مفهوم غسل الأموال ظهر في إطار فضيحة ووترغيت في الولايات المتحدة خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي حيث ظهرت الدعوة آنذاك إلى أهمية تتبع مسار عائدات أموال هذه الفضيحة بهدف التعرف إلى مرتكبيها والمتورطين بها، لكن الظهور القانوني تحقق في أول دعوى أمام القضاء الأميركي في عام 1982، ومنذ ذلك الوقت شاع الاصطلاح للدلالة على إسباغ المشروعية على الأموال القذرة المحصلة من مصادر غير مشروعة عن طريق إدخالها ضمن دائرة الأموال المشروعة في عملية تتخذ مراحل متعددة وأشكالاً عدة تؤدي بالنتيجة إلى إظهار المال وكأن مصدره مشروع”.

خطوات غسيل الأموال

المرحلة الأولى وهي الإيداع أو التنظيف أو الإحلال، بحيث يتم التخلص من كمية كبيرة من النقود غير الشرعية بأساليب مختلفة إما بإيداعها في أحد البنوك أو المؤسسات المالية أو عن طريق تحويل هذه النقود إلـى عملات أجنبية، أو عن طريق شراء سيارات فارهة ويخوت وعقارات مرتفعة الثمن يسهل بيعها والتصرف فيها بعد ذلك، وتعد مرحلة الإيداع أصعب مرحلة بالنسبة إلى القائمين بعملية غسل الأموال، حيث إنها ما زالت عرضة لاكتشافها، بخاصة أنها تتضمن في العادة كميات كبيرة جداً من الأموال السائلة، حيث يسهل التعرف إلى من قام بعملية الإيداع لهذه الأموال ومن ثم علاقته بمصدر هذه الأموال.
أما المرحلة الثانية من غسيل الأموال فهي توزيع الأموال على طبقات. وتبدأ هذه المرحلة عندما تدخل الأموال إلى قنوات النظام المصرفي الشرعي، فيحرص غاسل الأموال على فصل الأموال التي يريد غسلها عن مصدرها غير الشرعي، ويكون ذلك من خلال العديد من العمليات المصرفية المعقدة، والتي تأخذ الصورة المعتادة للعمليات المصرفية المشروعة، وتهدف هذه الخطوة إلى تصعيب تتبع النقود غير الشرعية. ومن الوسائل المستخدمة لذلك، إعادة تحويل الأموال غير المشروعة من بنك إلى آخر، إضافة إلى تحويلها بطريقة إلكترونية، وتحويلها إلـى بنوك تتميز بقواعدها الشديدة في ما يخص سرية الإيداعات في الدول الأخرى. وتتلخص أهم تلك الوسائل في تكرار عملية تحويل تلك الأموال من بنك إلى آخر والتحويل الإلكتروني للأموال.
المرحلة الثالثة والأخيرة هي الإدماج، وتُعتبر المرحلة الختامية في غسل الأموال ويترتب عليها إضفاء طابع الشرعية على الأموال، لذلك يطلق عليها “مرحلة التجفيف”، وفي هذه المرحلة يتم دمج الأموال المغسولة في الدورة الاقتصادية والنظام المصرفي لكي تبدو وكأنها عوائد أو مكتسبات طبيعية لصفقات تجارية، مثل الشركات الوهمية والقروض المصطنعة، وكذلك الفواتير الوهمية في مجال الاستيراد والتصدير، وعند الوصول إلى هذه المرحلة يكون من الصعب جداً التمييز بين تلك الأموال غير المشروعة والأموال المشروعة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

النسب العالمية للأموال المغسولة

ويقدَّر حجم جريمة غسيل الأموال التي تتم عبر بنوك العالم وأجهزته المصرفية بنحو 3 تريليونات دولار سنوياً، أي ما يقدر بنحو 5 في المئة من إجمالي الناتج العالمي.
وتعتبر الولايات المتحدة من أوائل الدول التي تعاني من غسيل أموال تجار المخدرات الذين يستخدمون البنوك الأميركية وأسواق المال فيها، وكذلك فروع البنوك الأميركية في أميركا اللاتينية والمحيط الهادئ، وتُقدر قيمة الأموال التي يجري غسيلها في الولايات المتحدة بنحو 283 مليار دولار.

أما في روسيا الاتحادية فبلغ حجم عمليات غسيل الأموال نحو 100 مليار دولار، وبحسب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خسرت روسيا نحو 25 مليار دولار بسبب عمليات غسيل الأموال. كذلك يبلغ حجم غسيل الأموال في إيطاليا نحو 52 مليار دولار، وفي ألمانيا 24.6 مليار دولار، وفي اليابان 24.2 مليار دولار، وفي كندا 23.3 مليار دولار.
أما الدول التي تشهد أقل نسب غسيل الأموال، فهي إيرلندا حيث تقدر الأموال المغسولة فيها بنحو 538.5 مليون دولار. وتجدر الإشارة إلى أن 25 في المئة من أنشطة غسيل الأموال تحدث عبر أسواق المال العالمية أي ما يتراوح بين 125 و 175 مليار دولار على مستوى العالم. أما بقية الأموال التي يتم غسيلها فتمر عبر البنوك والاستثمار المباشر وشراء التحف النادرة والعقارات وغيرها من خارج الجهاز المصرفي. وتُعتبر نيويورك أكبر مركز عالمي في غسيل الأموال، تنافسها لندن في هذا السياق حيث تجاوزت قيمة الأموال التي تم غسلها من خلال أسواق المال في العاصمة البريطانية أكثر من 2.4 مليار دولار سنوياً.
وهناك من يشير إلى أن عملية غسل الأموال تعتبر ثالث أكبر صناعة على مستوى العالم، إذ يقدر حجم الأموال التي يتم غسلها سنوياً على مستوى العالم بمبلغ 844.6 مليار دولار أميركي وقد تصل إلى 1.2 تريليون دولار.

تدابير دولية لمكافحة غسيل الأموال

وفي النصف الثاني من القرن العشرين بدأ غسيل الأموال يهدد الاقتصاد العالمي، عندها سارع المشرعون الدوليون إلى تجريم تلك الممارسة من خلال اتفاق فيينا لعام 1988 بشأن مكافحة الإتجار بالمخدرات والأموال المتحصلة عنها واستخدامها في جريمة غسل الأموال.
وقامت “لجنة بازل” التي تضم ممثلي البنوك المركزية والسلطات الإشرافية والرقابية في كل من ألمانيا وإيطاليا وبلجيكا والسويد وفرنسا ولوكسمبورغ والمملكة المتحدة وهولندا وكندا والولايات المتحدة واليابان في ديسمبر (كانون الأول) 1988 بإصدار وثيقة عُرفت باسم “بيان بازل” في شأن منع الاستخدام الإجرامي للنظام المصرفي لأغراض غسيل الأموال.
كما وقِّعت اتفاقية المجلس الأوروبي لعام 1990 بهذا الخصوص، وفي السنة التالية صدر توجيه عن الاتحاد الأوروبي يبني على “اتفاقية فيينا” ويدعو للتحقق من شخصية العملاء والاحتفاظ بالسجلات المالية لمدة خمس سنوات. وتوالت بعدها الاتفاقات والتوصيات على مدى سنوات علها تسهم في مكافحة هذه الظاهرة وصولاً إلى اتفاقي باليرمو في عام 2000 وهو اتفاق الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية، وثم مجدداً “اتفاق فيينا” لعام 2003، وكذلك اتفاق للأمم المتحدة لمكافحة الفساد وهدفها الترويج وتدعيم التدابير وتسهيل أوجه التعاون الدولي لمنع ومكافحة جرائم الفساد ومن بينها غسيل الأموال.

نقلاً عن : اندبندنت عربية