يشهد خط موسكو – الجزائر حركة نشطة لافتة بعد “برودة” خفية طبعت العلاقات الثنائية على خلفية “سوء تفاهم” حول ملفات إقليمية عدة، أهمها وجود قوات “فاغنر” في شمال مالي واستمرار دعم اللواء حفتر في ليبيا، وهي المواضيع التي يبدو أنها دفعت المسؤولين في البلدين إلى البحث عن سبل تجاوز الغيوم التي كادت تعصف بالروابط التاريخية الثنائية.

زيارات ولقاءات متبادلة متتالية

وبعد زيارات ولقاءات متبادلة متتالية بين مسؤولي الجزائر وروسيا، يتم التحضير لزيارة مرتقبة لرئيس مجلس الدوما الروسي فياتشيسلاف فولودين، إلى الجزائر، من المرتقب أن يلتقي خلالها الرئيس عبدالمجيد تبون، ورئيس أركان الجيش سعيد شنقريحة، ورئيس الغرفة الأولى للبرلمان صالح قوجيل، ورئيس الغرفة السفلى إبراهيم بوغالي، إلى جانب عدد من المسؤولين. وفي حين لم يتسرب برنامج الزيارة وفحواها إلا أن الأوضاع في منطقة الساحل وليبيا، ستكون على رأس قائمة الملفات المنتظر فتحها بالنظر لما تسببها من “استياء” للجزائر، إضافة إلى الأحداث الجارية في الشرق الأوسط لا سيما في سوريا، وما يتبعها من تسريبات حول مستقبل الجماعات الإرهابية ومصير العناصر الأجنبية التي تتداول مصادر عدة أن التفكير جار بخصوص ترحيلها إلى الساحل وليبيا في سياق معركة النفوذ بين تركيا وروسيا وأميركا وأوروبا وإيران، التي تشهدها المنطقة المحيطة بالجزائر.

وسبق زيارة المسؤول الأول عن مجلس الدوما الروسي المنتظرة، حضور نائب وزير الدفاع الروسي ألكسندر فومين، بالجزائر، في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، وعقد محادثات مع رئيس أركان الجيش الجزائري السعيد شنقريحة، ثم لقاء وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف، نظيره الروسي سيرغي لافروف، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، على هامش الدورة الأولى للمؤتمر الوزاري للشراكة الأفريقية – الروسية، وبعدها زيارة نائب وزير الخارجية الممثل الخاص للرئيس الروسي للشرق الأوسط وأفريقيا ميخائيل بوغدانوف، في الـ19 من ديسمبر (كانون الأول) الماضي الجزائر رفقة نائب وزير الدفاع الروسي إيونوس بيك إيفيكوروف، ولقائهما الرئيس تبون، وعدداً من المسؤولين الجزائريين.

وقبل ذلك، كان زار الأمين العام لوزارة الخارجية الجزائرية لوناس ماقرمان موسكو في يونيو (حزيران) 2024، بينما زار نائب رئيس مجلس الدوما الروسي فلاديسلاف دافنكوف الجزائر في الفترة نفسها.

اهتزاز بسبب مالي وليبيا؟

ولم تهتز العلاقات الثنائية منذ استقلال الجزائر عام 1962، وحافظت على مستويات عالية من التفاهم والتعاون والتنسيق حتى يوليو (تموز) 2024، إثر “تشويش” عسكري روسي عدته الجزائر “غير مشروع” على حدودها الجنوبية، عند مشاركة قوات “فاغنر” في العمليات المسلحة التي يقودها الجيش المالي الحكومي في بعض المناطق المتاخمة لحدود الجزائر.

كما أثار التعاطي الروسي مع المسألة الليبية كثيراً من علامات الاستفهام والاستياء، لا سيما أنه جاء عكس توجهات الجزائر، بدعم اللواء خليفة حفتر في السيطرة على حدود بلاده الغربية، مما أحدث “صدامات” لفظية بين العسكري الليبي والسلطات الجزائرية كادت تتطور إلى ما لا يحمد عقباه، ولا يزال تحرك موسكو مستمراً في ليبيا ما يمكن أن يعكر صفو الهدوء الذي يسود المنطقة على اعتبار أنه يخالف مجهودات الأمم المتحدة، وفق الجزائر.

إعادة ترتيب الأوراق

وفي السياق يرى المتخصص في العلاقات الدولية مبروك كاهي، في تصريح لـ”اندبندنت عربية”، “أن الزيارات المتتالية يجب قراءتها من باب تعميق العلاقات بين البلدين لا سيما بعد الزيارة التاريخية للرئيس الجزائري تبون إلى موسكو، وتوقيع اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين البلدين. كما يظهر أن روسيا في الفترة الأخيرة تعمل على إعادة ترتيب أوراقها وتوثيق العلاقات مع الشركاء خصوصاً بعد خسارة حليفها نظام الأسد بفعل تفاهمات دولية، بلا شك أن روسيا كانت جزءاً منها”، وقال إن “روسيا وفي ظل التحالف الغربي ضدها ودعمه الكبير لأوكرانيا في حاجة إلى تعزيز الثقة سواء مع الجزائر أو الدول الأخرى”، مضيفاً أن “هذه الزيارات تأتي لمعالجة قضايا عدة، علماً أن الجزائر أبدت امتعاضها واستياءها من الاستراتيجية الروسية في أفريقيا، التي تدعم الأنظمة الانقلابية من خلال مجموعة “فاغنر” والتي تحولت إلى الفيلق الأفريقي، وما ترتكبه من جرائم في شمال مالي، وأسهمت بصورة كبيرة في تراجع السلطات الانتقالية في باماكو عن اتفاق الجزائر للسلم والمصالحة، من دون إغفال دعمها حفتر في ليبيا”.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويتابع كاهي أن الزيارات تأتي أيضاً تزامناً مع عضوية الجزائر غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي، وترؤسها جلساته خلال هذا الشهر، وهي فرصة لتأكيد التعاون، وربما الأمر قد يمهد لأن تلعب الجزائر دور الوساطة في إنهاء الأزمة الروسية – الأوكرانية علماً أن الرئيس تبون أبدى استعداد الجزائر للقيام بهذا الدور في حال توافر الشروط الممكنة للنجاح. وختم بأن “هناك مصلحة مشتركة يعمل الجانبان على الوصول إليها بما فيها الملفات المتعلقة بالطاقة والأسواق التقليدية للجانبين”.

تغييرات جيوسياسية محتملة

من جانبه يعد الباحث في العلوم الاجتماعية بن مصطفى دحو، أن الزيارات جزء من النقاش، لكن الحوار والتعاون الجزائري – الروسي أشمل وأوسع من هذه القضايا لأسباب كثيرة. وقال في حديث خاص، إن “روسيا لا تشكل تهديداً استراتيجياً للجزائر، ومن ثم وجودها في منطقة الساحل لا يفهم على أنه حصار للدولة الجزائرية، على اعتبار أن الجماعات والأنظمة التي تدعمها موسكو ليست مصنفة إرهابية من قبل الجزائر”، موضحاً أن سلوك أنظمة الساحل بدأ ينحرف عن المسار المتفق عليه بما فيه اتفاق الجزائر، لذلك لا بد من التنسيق مع روسيا كونها حليفاً قوياً للجزائر وداعماً للأنظمة التي طردت وتخلصت من الوجود العسكري الفرنسي.

ويواصل دحو أن تقلبات سوق الغاز والنفط تفترض نقاشاً وحواراً للتنسيق بين البلدين على صعيد المنتديات العالمية الاقتصادية، مبرزاً أن “هناك ما تتحسبه الدولة الجزائرية من مخططات تستهدف زعزعة الاستقرار الإقليمي، لذلك يجب ضبط الإيقاع قبل التغييرات المرتقبة في السياسة الأميركية مع عودة ترمب”، وختم بأن “عام 2025 قد يحمل تغييرات جيوسياسية عميقة في أفريقيا والساحل أو حتى شمال أفريقيا، وستشهد العلاقات الجزائرية – الروسية اتفاقات استراتيجية أعمق في مواجهة التحولات العالمية”.

إذابة الجليد

إلى ذلك، يعتقد الإعلامي المهتم بالشؤون السياسية والدولية كريم بن زيتوني، في تصريح خاص أن “الوجود الروسي عبر فيلق ’فاغنر’ الأفريقي ودعمه حكام بماكو العسكريين يبدو أنه أصبح يشكل صداعاً للجزائر، وقد يكون عامل توتير العلاقات الجزائرية – الروسية التي تعد استراتيجية وعميقة وفق ما تم الإمضاء عليه من بروتوكولات تعاون عام 2023 أثناء زيارة الرئيس الجزائري إلى موسكو”، مضيفاً أن مغادرة القوات الفرنسية المنطقة كراهية، وتمتع شمال مالي بثروات كبيرة كاليورانيوم والذهب، كلها عوامل تجعل روسيا تحاول تثبيت أقدامها في المنطقة عبر أدوات ووفق استراتيجيات لا توافق عليها الجزائر.

ويوضح بن زيتوني أن ليبيا التي تتعارض فيها المقاربة الروسية الداعمة لحفتر مع الجزائر الداعمة لحكومة “الوفاق الوطني” بقيادة الدبيبة، باتت تشغل بال الجزائر التي تبحث عن الأمن والاستقرار، وتعد أن حفتر “يحاول التشويش على الجهة الشرقية للجزائر”، وأضاف أن “روسيا تحاول تصفية حساباتها مع أعدائها فوق أراضي دول الساحل وليبيا، كما تبحث الاستيلاء على كعكة إعادة إعمار ليبيا، وتسليح جيشها وفق مقاربة أوسع ذات طابع استراتيجي. وختم بأن زيارة رئيس الدوما المنتظرة ستحاول إذابة الجليد بين العاصمتين عبر تخفيض درجة حرارة ملفات الساحل وليبيا.

ووفقاً لما كشفه وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف، في تصريحات صحافية، فإن روسيا والجزائر استحدثتا آلية للتنسيق والتشاور لها طابع مؤسساتي، تجتمع كل ثلاثة أشهر لتقييم الأوضاع وللتعبير عن انشغالات كل طرف ومعالجة المشكلات المستجدة، مضيفاً “قلنا للأصدقاء الروس إننا كجزائريين لن نسمح ولن نقبل بأن تحول حركات سياسية كانت طرفاً موقعاً على اتفاق الجزائر للسلم في ‎مالي، إلى جماعات إرهابية”، في إشارة إلى حركات “الأزواد”، لافتاً إلى أن “الجزائر أرادت إقناع الصديق الروسي بالبديهيات التي عالجت بها الجزائر من خلال تجربتها الطويلة، الملفات في منطقة ‎الساحل على مدى عقود، وأن الحل العسكري غير ممكن وقد تم تجريبه ثلاث مرات”.

نقلاً عن : اندبندنت عربية