ظلت السير والحكايات الخرافية وقصص البطولات تتمدد وتتراكم لدى الأوساط الشعبية، عبر القرون، وتتسع نصوصها باتساع الأقطار، وتنوع الأعراق والمذاهب واختلاف الظروف التاريخية. وأسهم ذلك، كما يقول الباحث المصري مهدي صلاح الجويدي، في إحداث تحولات في بنية تلك النصوص، عرفت طريقها إلى الثبات والاستقلال عبر أزمنة طويلة من التصدعات والانشقاقات، ثم احتفظت بطبيعتها السردية إلى حد أنها كادت تصبح، على تنوعها، نصاً واحداً يتغير فيه المؤلف والرواة والجمهور والظروف التاريخية، وتبقى فيه سمات النص واحدة. وتشكلت تلك النصوص عبر تحولاتها في صورة أقرب إلى السلاسل السردية، بتعبير الجويدي، فنصوص المقامات تأطرت في شكل معروف، واتخذت السير الشعبية نمطاً بنائياً متقارباً، على رغم اختلاف الأبطال والرواة وتباين المرويات، بينما تشكلت نصوص السرد على ألسن الحيوان في حلقات جعلت منها سلسلة متتابعة، وإن اختلفت طريقة القص من مؤلف إلى آخر، ولكنها اختلافات هينة لا تحدث انشقاقات كبرى في بنية هذه السلسلة من النصوص.

وفي ما يتصل بالسرد على ألسن الحيوان مثل نص “كليلة ودمنة” النص النموذج، أو المثال الذي حذا الكتاب حذوه، وأنشأوا مؤلفاتهم على مثاله، فصنف سهل بن هارون كتاب “النمر والثعلب” وكتاب “ثعلة وعفراء” في القرن الثالث الهجري، ثم صنف أبو العلاء المعري كتاب “القائف”، و”رسالة الصاهل والشاحج” في ما بين القرنين الرابع والخامس الهجريين، وصنف ابن ظفر المالكي كتاب “سلوان المطاع في عدوان الأتباع” في القرن السادس الهجري، وصنف ابن عربشاه كتاب “فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء” في القرن التاسع الهجري. وفاكهة الخلفاء هو آخر حلقات هذه السلسلة من السرد على ألسن الحيوان، والفضل الأول في تحقيقه وإخراجه يعود إلى أيمن عبدالجابر البحيري (دار الآفاق العربية – القاهرة 2001) الذي اعتمد على مخطوطة تنسب إلى ابن عربشاه، إضافة إلى النسخة المطبوعة في مكتبة الحلبي (1909م) وقد بذل المحقق جهداً كبيراً في تحقيق الكتاب وتنقيحه، “ولكن يبقى العلم شركة بين الناس، وتبقى مسألة التعديل أو الإضافة سمة من أهم سماته، من دون أن تقدح في جهد السابقين”، بحسب مهدي صلاح الجويدي.

تيسير وتهذيب

ويقول الجويدي إن المسألة هنا لا تتعلق بمزيد من التنقيح والتصويب فحسب، وإنما تتعلق أيضاً بالتيسير والتهذيب أيضاً، “ذلك أن اطلاعنا الأول لم يكن في الحقيقة على نسخة المحقق المشار إليها، وإنما على نسخة أخرى سقط منها اسم ناشرها، ومهرت بخاتم جامعة كورنيل، وخاتم آخر يعود إلى أوائل القرن الـ20 ويشير إلى أن النسخة مكافأة خديوية، ثم إشارة إلى أن طبع في المطبعة العامرة الشرفية في مصر”. ومن المؤكد لدينا، يضيف الجويدي، أن هذه النسخة قد دفع بها إلى أحد النساخ، أو أحد الوراقين لنسخها، ومن المعروف أن النسخ كان مهنة يمتهنها بعض الكتاب في عصور ما قبل الطباعة.

والإشارة إلى مهنة النسخ هنا ضرورية للذهاب، بحسب الجويدي، إلى أن الخطأ وارد في عملية النسخ تلك، “وقد حاولت نسخة المحقق أيمن البحيري تلافي الأخطاء وتصويب كثير منها، ولكنها التزمت ما ورد في نسخة مخطوط دار الكتب المصرية، أو مطبوعة مكتبة الحلبي، وهنا نشير إلى أنها مخطوطة صعبة ومرهقة وغير واضحة، ومن ثم فقد بذل البحيري جهداً كبيراً في تحقيق نسخته، وإخراجها على الصورة التي هي عليها”، لكن هذا الجهد ظل في حاجة إلى البناء عليه بالتصويب والتيسير والتهذيب، “لإخراج الكتاب في صورة جديدة ميسرة ومهذبة تهذيباً تربوياً، تجعل منه ضيفاً مقبولاً على رفوف المكتبات الأسرية، وفي متناول المؤسسات التعليمية من دون الإخلال بالسياق ومحتواه”.

أديب فقيه

ومن ثم، لم يكن هناك بد، كما يقول الجويدي، من إعادة كتاب النص من جديد، أملاً في طباعته طباعة جديدة مناسبة، تتلافى الأخطاء الكثيرة قدر الإمكان، ثم إضافة كشاف معجمي بسيط لشرح كثير مما غمض من جمل أو مفردات، ووضعها في هامش أسفل الصفحة. ويضيف أنه كان من الضروري في الوقت نفسه وضع إضاءات تيسر عملية القراءة، وتعين القارئ على فهم النص وسياقاته، والتقاط الدوافع التي تقف وراء المسرودات. جاء الكتاب، الموزع على جزءين، في 10 أبواب، ووضع الجويدي لكل قصة عنواناً، “لتعين على الإلمام بها، نظراً إلى كثرة التشعيبات والتفريعات في معظم الأبواب، مما قد يشتت القارئ بين تلك المسارات الطويلة، والقصص المتوالدة، والمتداخلة” ص 10.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومؤلف كتاب “فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء”، هو، بحسب تعريف يوسف بن تغري بردي، “أحمد بن محمد بن عبدالله بن إبراهيم، الشيخ الإمام العلامة، البارع المفنن الأديب، الفقيه، اللغوي النحوي، المؤرخ شهاب الدين أبو العباس الدمشقي الحنفي المعروف بابن عرب شاه”، ولد في دمشق عام 791 هـ، توجه إلى سمرقند وهو في الـ12 من عمره، “لطلب العلم الشريف”، فأتقن اللسان الفارسي والخط المغولي، وكانت له أسفار كثيرة وسياحات بعد غزو تيمور لنك بلاد الشام، فمن سمرقند إلى بلاد ما وراء النهرين، فخوارزم، وقيريم، ثم قطع بحر الروم إلى مملكة ابن عثمان، حيث أقام بها 10 أعوام وأتقن التركية، واستقر به المقام في القاهرة، حتى وافته المنية في شهر رجب عام 854 هـ، بحسب ما أورده عنه يوسف بن تغري بردي في كتابه “المنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي”. ومن مؤلفاته: “مرآة الأدب في علمي المعاني والبيان”، و”العقد الفريد في علم التوحيد”، و”جلوة الأمداح الجمالية في حلتي العروض والعربية”، و”عجائب المقدور في نوائب تيمور”، و”خطاب الإهاب الناقب وجواب الشهاب الثاقب”، و”منتهى الأرب في لغة الترك والعجم والعرب”، و”غرة السير في دولة الترك والتتر”.

كتابان في كتاب

واختار ابن عرب شاه منهج ابن المقفع في تأليف كتابه “فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء”، ومثل كتاب “كليلة ودمنة” النموذج أو المثال الذي احتذاه. وضمن ابن عرب شاه كتاب “كليلة ودمنة” في هامش كتاب “فاكهة الخلفاء” في نسخته التي حققها أيمن البحيري، ومن ثم فإنها تعد بمثابة كتابين في كتاب واحد. ويورد الجويدي في هذا السياق قول محمد غنيمي هلال إن ترجمة ابن المقفع لكتاب “كليلة ودمنة” الهندي الأصل، كانت سبباً في خلق هذا الجنس الأدبي في اللغة العربية، فقبل ذلك كانت الحكايات على لسان الحيوان، إما فطرية شعبية تشرح ما دار بين عامة العرب من أمثال، كما في “جمهرة الأمثال” للعسكري، وفي “مجمع الأمثال” للميداني، وإما مقتبسة من كتب العهد القديم، أي ذات طابع ديني متصل بالعقائد.

أما كتاب ابن عرب شاه في هذا الصدد فهو “كتاب أدبي ظريف لا نظير له في عصره في الأقل، لأنه مجمع أمثال وحكم صورتها يدا المؤلف وخياله تصويراً بارعاً مشوقاً في أسلوب قصصي حواري بديع على مثال كليلة ودمنة”، بحسب محمود رزق سليم في كتابه “عصر سلاطين المماليك المجلد 2، دار الآداب، القاهرة 1952. الذي لا جدال فيه، يقول الجويدي، هو أن الكتاب وضع لغايات كثيرة، أوردها ابن عرب شاه في مقدمته، إلا أن الغايات السياسية لم تغب عنه ولا عن مؤلفه، لا سيما أنه عاش في عصر المماليك البرجية الشراكسة (من 784 هـ – إلى 932 هـ). واختار ابن عربشاه راوياً مركزياً لكتابه اسمه “حسان”، يكنى بأبي المحاسن، “وتبدو تركيبة الاسم، ملائمة للتخييل السردي، اصطنعها المؤلف مثلما اصطنعت شخصيات أخرى لرواة آخرين في الموروث السردي العربي القديم، ولكن ما يصنع بعض الالتباس وجود شخصية معاصرة لابن عربشاه، كان بينهما صحبة وثيقة ومودة، وكنيته أبو المحاسن”.

وفي القصص المضمنة في كل قصة إطارية، يسند ابن عرب شاه السرد إلى العديد من الرواة، بعضهم ينتمي إلى عالم البشر، مثل الأمير حسيب، أو ملك العرب، أو ملك الترك، أو ملك العجم، وبعضهم الآخر ينتمي إلى عالم الحيوان، مثل ملك الأفيال، ملك الأسود، التيس، الكلب، الحجل، العقاب… إلخ.

نقلاً عن : اندبندنت عربية